الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 950/تعقيبات

مجلة الرسالة/العدد 950/تعقيبات

بتاريخ: 17 - 09 - 1951


للأستاذ أنور المعداوي

الواقعية الفنية:

هناك نوع من الأدباء يحيرني إذا ما حاولت أن أتحدث عنه: هل أصفه بأنه لا يجيد القراءة، أم أصفه بأنه لا يحسن الفهم، أم أصفه بأنه يجهل أصول التفكير وطرائق التعبير؟ إذا أطلقت عليه كل هذه النعوت فاعذرني. . لأنه يحيرني! ولست والله غالياُ إذا قلت لك أن هذا النوع من الأدباء يستطيع أن ينطقك بما لم تفه به، وأن ينسب إليك ما لم تهدف إليه، وأن يناقشك بعد هذا كله في الموضوع طبقاُ لمزاجه هو لا طبقاُ لمزاجك، ورفقاُ لهواه هو لا ورفقاُ لهواك، ولا بأس عليه أبداُ من أن تغفر فاك من الدهشة ما دام هو قد فغر فاه ليتثاءب، منتظراُ أن تقول له محيياُ بعد نشوة السبات العميق. . صح النوم وطابت الأحلام يا صاحب المزاج الرقيق!

من هذا النوع من الأدباء ذلك الأديب العراقي الذي كتب عن (الواقعية الفنية) في العدد (948) من الرسالة، معقباُ على رأي لي كنت قد سجلته حول هذه الواقعية منذ أسابيع. . لقد ذكرني الأديب العراقي وهو يعقب على أفكاره لم تخطر لي على بال، ذكرني بقصة ذلك الزعيم المصري الذي قيل له أن أجر العامل قد بلغ في اليوم جنيهاُ في السويد، فهتف وهو لا يملك شعوره من دفقة البهجة ولا لسانه من غلبة السرور: عظيم!. . عظيم جداً!. . عظيم والله أن يحصل العامل على مثل هذا الأجر في السويس!

لا فرق أبداً بين فهم هذا النوع من الأدباء وبين فهم هذا الزعيم (الفهيم). . تتحدث عن السويد فيحسبونها السويس، وعن الأسكندرونة فيتوهمونها الإسكندرية، وعن النيل فيتخيلونه الدردنيل! ثم لا يقفون عند هذا الحد من الغفلة ولا يقنعون بهذا الحظ من الذهول، ولكنهم يجدون الجرأة العجيبة على التهجم عليك مفترضين أنهم على حق وإنك على الباطل، ولا يتحرج منطق الغافلين والذاهلين من أن يقدم إليك الدليل!

يقول الأديب العراقي الذي يمثل هذا المنطق أو يمثل ذلك النوع من الأدباء. . (ويحضرني الآن رأي الأستاذ المعداوي في العدد (939) من الرسالة إذ قال: الواقعية ضربان، واقعية أولى ويكون فيها نموذج الشخصية موجوداُ (بالفعل) في الحياة، والواقعية الثانية، ويكون نموذج الشخصية موجوداُ (بالإمكان) ولم يقف الأستاذ المعداوي عند هذا الحد، إنما ذهب إلى تعريف الواقعية الأولى فقال: (هي نقل مباشر لصور الحياة وطبائع الأحياء، كما هي في الواقع المحس الذي تلمسه العين وتألفه النفس)، ولو وقف الأستاذ عند قوله: (إنها نقل مباشر لصور الحياة وطبائع الأحياء) لهان الخطب وما جعل ذلك النقل مقيداً (بما تلمسه العين وتألفه النفس)، كما أنه لو احترس الأستاذ في قوله وقال: (إنها نقل مباشر لصور الحياة وطبائع الأحياء كما هي في الواقع المحس الذي تلمسه عين الفنان وتألفه نفسه) بدلا من إطلاق (العين والنفس) التي تدعو إلى جعل الفن ضرباً من ضروب العبث، كما يجعل - هذا الإطلاق نفسه - الفنان والرجل العادي في كفه متساويه من حيث الإحساس، أقول لو قال الأستاذ (عين الفنان ونفسه) لسهل الأمر وما دعانا إلى الولوج في دهاليز الظلمة والجهل، وهو يقصد الإيضاح والإعلام)!

أرأيت إلى هذا الفهم العظيم الذي يذكرك بقصة السويد والسويس، والإسكندرية والإسطندرية، والنيل والدردنيل؟!

أرأيت إلى هذه اللغة الفينيقية التي لا يستخدمها غير (الأساتذة) الراسخين في العلم، المتضلعين من الفن، والمتمكنين من مناهج التفكير! لقد أتهمني الأديب العراقي بأنني أدعو إلى جعل الفن ضرباً من ضروب العبث، وأدفع بالقراء إلى دهاليز الظلمة والجهل بدلاً من دهاليز الإيضاح والإعلام!! ألا ترى أنه فهم عظيم. . على طريقة ذلك الزعيم الفهيم؟! لقد قلت عن (الواقعية الأولى) أنها نقل مباشر لصور الحياة وطبائع الأحياء، كما هي في الواقع المحس الذي تلمسه العين وتألفه النفس. . قلت هذا فتوهم الأديب العرفي أن كلمة (النقل المباشر) معناها (النقل الفوتوغرافي) كما نص على ذلك في موضع آخر من مقالة! وتخيل أن (العين) التي أقصدها هي عين بائع الفجل والبصل والخيار، وأن (النفس) التي أعنيها هي نفس بائع اللب والحمص والفول السوداني!! تصوروا يا قراء الرسالة كيف يدعو المعداوي إلى جعل الفن ضرباً من ضروب العبث، وكيف يدفع بالقراء إلى دهاليز الظلمة والجهل العميق؟! معذرة إذا تصورتم هذا كله مادام الفهم (العابث) الذي يتمتع به الأديب العراقي قد أظهرني أمامكم على هذه الصورة العزيزة المنال والفريدة المثال، ومعذرة مرة أخرى إذا ما كان في الأدباء مثل تلك النماذج العقلية التي تعيد علينا قصة السويد والسويس، أو قصة الإسكندرية والإسكندرية، أو قصة النيل والدردنيل!!

النقل المباشر لصور الحياة؟ من يصدق أنني كنت أرمي لهذا المعنى وأهدف نحو هذا التفسير؟! عيب هذا النوع من الأدباء أنه يقف عند المعنى المادي للكلمة ولا يكاد يتعداه، ويدور حول الهيكل العظمي للفظ ولا يكاد يتخطاه، مثله في ذلك مثل ذلك النوع من القادة والحاكمين، أولئك الذين يتوهمون أن كل حديث عن العدالة الاجتماعية ضرب من اعتناق الشيوعية!! إنني عندما أقول عن (الواقعية الأولى) إنها نقل مباشر لصور الحياة وطبائع الأحياء، فإنما أعني النقل الأمين، النقل الصادق، النقل الواعي، النقل الذي لا يجوز فيه الوهم على الحقيقة ولا يطغى الخيال على الواقع! هذا هو النقل الذي أعنيه، النقل الذي يجعل الفن يتصل بالحيات اتصالا مباشراً، وثيقا دقيقا، ليعكس على مشاعرنا كل مافيها من نبض وخفوق، النقل الذي قلت عنه يوما على صفحات الرسالة وأنا أتحدث عن بعض الأعمال الفنية للأستاذ توفيق الحكيم: (إنك عندما تقرأ أعمال الحكيم الأولى التي سجلها ليصور بها تلك البيئات التي عاش فيها بالجسم والفكر والروح والحواس تلمس أن الحياة كانت تتنفس تنفسا عميقا في فنه، وأن عدسة القصاص قد بلغت من دقة اللقطات مالا يتهيأ إلا لكل فنان مفتوح العينين والقلب والذهن، اقرأ مثلا (عودة الروح) و (يوميات نائب في الأرياف) تحس أن الحياة فيهما تكاد تنتفض بين يديك وتتحرك أمام ناظريك؛ تنتفض بمواكب لا تحصى من الصور النفسية والنماذج البشرية! لقد كانت العدسة البارعة تنتقل من الشوارع إلى الأزقة، من المدينة إلى القرية، من القصر إلى الكوخ: ترقب، وتتأمل وتسجل. . وإذا حرارة التعبير قد ارتفعت لتلفح إحساسك على الورق، وإذا لمحة الخاطر قد استحالت فكرة في ثنايا العرض وإذا ركب الأحياء قد انتقل في حركة نابضة إلى السطور والكلمات!

لقد كان توفيق الحكيم يعب الحيات عبا أن صح هذا التعبير، ويوم أن كان يطل على ميدان الحياة الفسيح المترامي أمام عينيه، كان يطل من نافذة مفتوحة، هي نافذة الحواس المتحفزة لالتقاط كل ما تقع عليه من صور في دقة ووعي وانتباه، وهذه هي الفترات (المستيقظة) في فن توفيق الحكيم. فترات مستيقظة نلقت عن كتاب الحياة سطورا فيها عمق وروح، فإذا (عودة الروح) و (يومياتنائب في الأرياف) نسختان أمينتان تغمض عينيك بعد الفراغ منهما لتبدأ الحياة سيرها في دروب النفس ومسارب الشعور، ولا بأس من أن تغمض عينيك فان الصور قد انطبعت على صفحة الفكر والخيال!)

هذه الكلمات التي كتبتها يوما عن فن توفيق الحكيم في أمسه الغابر، هي التصوير الصادق (للواقعية الأولى) التي قلت عنها نقل مباشر لصور الحياة وطبائع الأحياء. . ترى هل تفهم منها أنني أعني (النقل الفوتوغرافي) كما اجترأ الأديب العراقي وألصق بي هذا الاتهام؟! إنني يوم أن كتبت عن (الواقعية الأولى) وقلت عنها ما قلت، لم أشأ أن أكتب (مذكرة تفسيرية) لكلمة (النقل المباشر) كما يفعل رجال القانون، لأن مقالاتي السابقة حول هذا المعنى على صفحات الرسالة كانت تعفيني من الشرح وتغنى القراء عن التفسير! ترى هل يحتاج الأديب العراقي إلى نموذج آخر مما كتبته من قبل في هذا المجال؟ لا بأس من تقديم هذا النموذج الآخر على سبيل المثال:

لقد كتب إلي يوماً أديب من حضرموت ليعرض على موضوع قصة أخرجها أحد الأدباء هناك، كتب يقول في ختام كلمته (هذه صورة تقريبية لفصول القصة، وحيث تنتهي تبدأ قضية النزاع والاختلاف، فيرى البعض أن تتلاحق فصول القصة كمأساة حتى الشوطالأخير، بينما يرى البعض الآخر ومنهم المؤلف أن الله وهو أعدل العادلين لن يجعل لمثل هذه (المأساة) صورة ما، في عالم تجري حوادثه على قوانين طبيعية عادلة. . هذه هي نقطة الخلاف عرضناها عليكم بكل أمانة راجين أن ترشدونا برأيكم)!

وقلت معقباً على القضية المعروضة علي في انتظار الجواب (أود أن أقول للأدب الحضرمي إن هذا الجدل الذي دار بين جماعة من أصدقائه جدل غريب. ومصدر الغرابة فيه أصحاب الرأي الأول يريدون أن يطبعوا موضوع القصة بطباع المأساة، وأن أصحاب الرأي الأول يريدون أن يطبعوا موضوع القصة بطباع المأساة، وأن أصحاب الرأي الثاني يريدون أن يخضعوا الموضوع لعدالة الله. . وكلا الرأيين بعيد عن جوهر الفن القصصي لأنه يمثل منطق القائلين به أكثر مما يمثل منطق الوقائع الطبيعية!

جوهر الفن هو أن نستوحي الحياة وحدها عندما نريد أن نخلق عملا من الأعمال الفنية، والقصة كعمل من هذه الأعمال لابد أن تخضع لمجرى الحياة في صورتها الواقعية التي لا تنكرها العين ولا يرفضها العقل، فالحياة التي صورتها الواقعية التي لا تنكرها العين ولا يرفها العقل، فالحياة التي ترفرف عليها عدالة الله فيها الخير وفيها الشر، وفيها الفضيلة وفيها الرذيلة، وفيها السعادة وفيها الشقاء، وفيها ما شئت من ألوان المفارقات وضروب المتناقضات، فإذا صورنا الحياة تصويراً صادقاً فمن الطبيعي أن نقبل المأساة المستمدة من واقعها كما نقبل الملهاة، على شرط أن تكون عرضنا لهذه وتلك مسايراً لمنطق الحوادث المألوفة ومطابقاً لطبيعة الأمور كما يألفها الأحياء!

خذ موضوع القصة من هذا الوجود المتحرك أمام ناظريك ثم اخلع عليها بعد ذلك من ألوان الفن ما يبعد عنها صفة الجمود الذي لا يتفق مع الحركة، ونزعة الخيال الذي لا يلتقي مع الواقع ولا مبرر بعد ذلك لأن تفرض على موضوع القصة أن يسير في هذا الطريق دون ذاك! إن الحياة هي التي ترسم خط السير، وتقرر غرض الاتجاه، وتحدد طبيعة الموضوع. . أعني أننا يجب أن نقتفي أثر الحياة في كل خطوة من الخطوات. . وكل نقلة من النقلات. . ثم نسجل ما شاهدناه كما يحدث في الواقع المشهود أو كما يحدث في الواقع الذي يمكن أن يكون. فإذا كان مجرى الحوادث في القصة لا يضيق بشبح المأساة فلا ضير من توجيه دفتها نحو هذا الذي نبتغيه، فإذا ضاق بها فلا حاجة بنا إلى تحمل الحياة فوق ما يمكن أن تطيق)!

أرأيت مرة أخرى إلى حقيقة النقل المباشر الذي أعنيه؟ لقد عمدت إلى نقل هذا النموذج الآخر بالذات لأرد به على فقرة أوردها الأدب العراقي في مقالة ليضفي على من علمه الغزير! قال حضرته وهو يحاول أن يفهمني حقيقة الواقعية الفنية بكلمات سبقته بمثلها منذ عامين: (والواقعية الفنية لا تبعدنا عن حياتنا - كما يظن - بل هي الواقع المحس قد داعبته أنامل الفنان، وقد يرسم الفنان - الشاعر أو القصاص - صوراً ماثلة في الواقع، واقعية حقاً، وقد لا تكون كذلك. . كما يلزمنا أن تكون تلك الصورة المنقولة سامية حسنة جميلة، بل كل ما يطلبه الفن نقل الصورة نقلا فنياً، وكل ما يطلبه الواقع نقلها بأمانة!)

أليست كلماته التي وضعت تحتها الخطوط هي من حيث المعنى نفس كلماتي التي وضعت تحتها مثلتلك الخطوط؟! يا عجباً. . لقد كتبت تلك الكلمات منذ عامين ثم جاء الأديب العراقي فكتب مثلها منذ أسبوعين، ومع ذلك يتهمني بأنني أنظر إلى الواقعية الفنية على أنها النقل الفوتغرافي. . ويحاول أن يلقي على بعض الدروس!! هذا عن (الواقعية الأولى) أو الواقعية الفنية، واذا كان الأديب العراقي قد نسب ألي في موضع آخر من مقاله أنني أقصد بالنقل المباشر لصور الحياة ذلك (التقليد الأعمى) للطبيعة كما ذهب إلى ذلك أفلاطون، فأنني أود أن ألفت نظره إلى أن (الفهم الأعمى) وحده هو أوحى أليه بان ينسب إلى مثل هذا القول العجيب. . ومرة أخرى أقسم له بمن علمني أصول الفن ومناهجه، أنني حين قلت (الواقع المحس الذي تلمسه العين وتأمله النفس)، كنت أقصد العين والنفس اللتين أنعم بهما الله على القصاص المحلق والأديب المتذوق والناقد الفنان، ولم أكن أقصد أبدا عين بائع الفجل والبصل والخيار، أو نفس اللب والحمص والفول السوداني. . وإذا لم يصدق فلا بأس من أن أنقل أليه الفقرة الأخرى من مقال آخر كتبته أيضا منذ عامين على صفحات الرسالة:

الحياة هي المنبع الأصيل لكل أثر من آثار الفن يترك ظله في النفس وبقاءه على الزمن: في أدب الكاتب، في شعر الشاعر، في لحن الموسيقار، في لوحة الرسام، لتكن الحياة نقمة أو نعمة، لتكن مأساة أو ملهاة، لتكن ألما أو لذة، لتكن دمعة أو ابتسامة. . حسب الفن أن يعبر عن الحياة فيصدق في التعبير، وأن يترجم عن رؤية العين وإحساس القلب فيسمو بالأداء)! هذا الفن الذي يترجم عن رؤية العين وإحساس القلب في هذه العبارة، أليس معناه العمل الذي ينتجه كل فنان؟! وهذا القلب وتلك العين إلى من ينسبان هنا في رأي الذين يفهمون؟ ألا ينسبان إلى ذلك الذي ينتج كل عمل يسلك في عداد الفنون؟! إن الذنب ليس ذنبي كما رأيت، ولكنه ذنب الذين يحسبونها السويس وهي السويد، ويتوهمونها الإسكندرية وهي الاسكندرونة، ويتخيلونه النيل وهو الدردنيل. . وهلم جرا أو هلم جرجرة كما كان يعبر الرافعي رحمه الله!!

هل انتهى العجب؟ كلا! وكيف ينتهي ونحن نتحدث عن الواقعية في القصة فينقلنا الأديب العراقي إلى الواقعية في الشعر، ويأتي لنا بنموذج من شعر (هوسمان) ليتسائل: هنا واقعية. . ولكن هل هي من النقل المباشر الذي تلمسه العين وتألفه النفس؟ لو كان حضرته يعلم أن الواقعية في الشعر غير الواقعية في القصة!!

لما أوقع نفسه في هذه (اللخبطة) الطريفة. . ترى هل يريد أن يعرف الفارق بين الواقعية هنا والواقعية هناك؟ عليه أن رجع إلى هذا المقال وإلى الآخر الذي عقب عليه ليدرك طبيعة الواقعية القصصية، وعليه أن يرجع مرة أخرى إلى مذهب (الأداء النفسي) على صفحات الرسالة ليفهم حقيقة الواقعية الشعرية، فإذا لم يستطيع أن يلمس هذا الفارق فليكتب إلي لأسمك بالقلم من جديد!!

أنور المعداوي