مجلة الرسالة/العدد 950/النقد والشعر
→ رسالة المربى | مجلة الرسالة - العدد 950 النقد والشعر [[مؤلف:|]] |
تعقيبات ← |
بتاريخ: 17 - 09 - 1951 |
للأستاذ سامي أمين
في العدد (945) من المجلة (الرسالة) يقول في الافتتاحية الأستاذ الناقد سيد قطب عن الشعر (أن الغناء. الغناء المطلق بما في النفس من مشاعر وأحاسيس وانفعالات. حين ترتفع هذه المشاعر والأحاسيس عن الحياة العادية، وحين تصل هذه الانفعالات إلى درجة التوهج والإشراق، أو الرقة والانسياب على نحو من الأنحاء. .
(ولسائل أن يسأل: أو ننفي الفكر من عالم الشعر أيضا؟ ولست أتردد في الإجابة: إن هذا الفكر لا يجوز أن يدخل هذا العالم إلا مقنعا غير سافر. ملفعا بالمشاعر والتصورات والظلال. ذائبا في وهج الحس والانفعال. أو موشى بالسباحات والسرحات. . ليس له أن يلج هذا العالم ساكنا باردا مجردا)
ومن هذا الشعر القصيدة التالية المختارة من ديوان (أنفاس محترقة) للشاعر الأستاذ أبو الوفا. . (في انتظار الصباح):
جدد لي الأقداح ... يا ساقي الراح
على أرى في الراح ... أطياف أفراحي
في مزهري ألحان ... أخشى أغنيها
أخشى على الأوتار ... من هول ما فيها
يا مزهر الأقدار ... عن بها غنى
واشرح على الأطيار ... ما غاب من فني
لكل يوم شراب ... لابد من كأسه
وكل معنى العذاب ... في لون إحساسه
من ذا يرد الصواب ... للدهر في ناسه
للغاب يا ابن الغاب ... اهرب فداك اللواح
تبا لضعف التراب ... أغرى عليه الرياح
لولاي في ذا الإهاب ... ما هيض مني الجناح
لا تسألوا يا شهود ... عن حكمة الأ وأين نحن العبيد ... مما وراء الستار
ومن تخطى الحدود ... يلقى به في النار
(النار ذات الوقود) ... يا رب يا ستار
ربان بحر الوجود ... أدري بموج البحار
فاستسلموا للوعود ... وامضوا في التيار
هات اسقني يا صاح ... كأس الهوى الفضاح
سكران لكني فؤادي ... مما يعانيه صاح
يا ليل هل من مداو ... يا ليل. . يشفي جراحي
لم يجد فيك اصطباري ... وليس يجدي نواحي
يا هل ترى لي صباح ... أم ليس لي من صباح
هذا الهذيان المطلق الذي لا تربط بينه قافية واحدة ولا فكرة واحدة (إنما تربط تلك النغمة المناسبة. . نغمة الروح الحزين. . العابث. . المتطلع. . الأليف. . الوديع. . روح الفراشة البيضاء والعصفور الراقص المزقزق الصداح). . على حد قول الأستاذ. .
هذا العناء الذي يتكلفه الأستاذ الناقد. . فيريد الشعر بهذا الشكل المشوه الممسوخ. . لا رابط بين مقاطع القصيدة الواحدة. . ولا ولامح من قريب أو بعيد. . فهي أمشاج وتهاويل. . فمن الراح والأقداح إلى النواح وإلى حكمة الأقدار والنار ذات الوقود وإلى ما لا أدري من لغو منظوم لو تجرأ واحد وعرضه على مجلة مهمة كالرسالة مثلا لاتهموه بالجنون. . أقول هذا العناء الذي تكلفه الأستاذ لم يكن له من باعث سوى إظهار بعض الشعراء وفرضه على القراء بغير إنصاف. . وهكذا نرى أن نقادنا اليوم - للأسف - لا ينظرون إلى الشعر وإنما ينظرون إلى الشاعر فيحسبون لهذا ولذاك ألف ألف حساب. .
ثم عن تلك الخواطر المتنافرة والاهتياجات المتدفقة التي نظمها أبو الوفا يقول الأستاذ سيد قطب إنها (ظاهرة فنية) تلد بين الحين والحين وليس النقد الفني عندنا من النضج بحيث يتناولها بالتعهد والرعاية كما يكون لها كيانها الخاص فيما بعد. ولست أطلب من الأستاذ إلا أن يلقي نظرة على أي محاولة فاشلة يقدمها شاعر ناشئ في مطلع حيلته الأدبية والفكرية فسيجدها ولا شك (ظاهرة فنية) فريدة تستحق الإعجاب. .
والآن أقدم شاعراُ (مغموراُ) نشر ديواناُ قبل زمن قصير يحوي ستا وثلاثين قصيدة، وقدم نسخاُ منه إلى دور النقاد ودور الصحف والمجلات في مصر، فلم يلتفت إليه أحد ولم يظهر له اسم. وليس له ذنب سوى إنه من البلدان المتأخرة، من العراق. . . فأما أبو الوفا الذي يقدمه الأستاذ سيد قطب (على الصفحات الأولى من الرسالة) فهو من أرض الكنانة مصر بلد (المتقدمين). .
يقول الأستاذ (شاذل طاقة) في مفتتح ديوانه (المساء الأخير) هذه الكلمات (لله هؤلاء الشعراء. . شياطين عبقر. . فإنهم يألمون مرة ثم يحيون الآم مرة أخرى. . فكأنهم يألمون مرتين) وهذه أصدق وأدق كلمة تقدم ديواناُ من الشعر ثم هذه بضع من قصائده. . وليتفضل فيقارنها من يشاء بالنماذج التي أوردها الناقد الكبير سيد قطب من شعر أبى الوفا في مقاله. . وليقل بعدئذ من يشاء بأنني أتهم سيد قطب وسواه من النقاد في مصر بالمحاذاة كذباُ وافتراء. . .
هذه إحدى قصائد الأستاذ الشاعر (شاذل طاقة) وعنوانها (ظمأ). . وهي تصوير رائع للظمأ السرمدي الذي يحسه الإنسان في أعماقه إلى الجمال. .
أذوب قلبي أم أصون لساني ... وأعذل نفسي أم أذم زماني
لك الله يا دنيا فلا حسنك انتهى ... ولا القلب من أشواقه بأمان
ولا أنا عن بث اللواعج منته ... ولا لك في وقف العذاب يدان
أناديك مبحوح النداء وأنثنني ... أنوء بما قاسيته وأعاني
طبعت على عشق الجمال فلا أرى ... مع الحسن إلا دائم الهيماني
أحوم كما حام الفراش على اللظى ... وأقضي ولا أنفك عن حوماني
أموت وفي نفسي من الحب غلة ... أبت ريها الأيام في ريعانه
وأمضي إلى ربي أبث شكايتي ... وطى الحشا ناراُ تذيب جناني
أعتقد أني في غنى عن تحليل هذه الأبيات العالية الرائعة فهي تصور وضع الإنسان بين الحسان في هذه الحياة ولوعته الدائمة وتعطشه الأبدي، وعدم استقراره. . ومن ثم حيرته وشكاته. . .
وأمضي إلى ربي أبث شكايتي ... وطي الحشا ناراُ تذيب جناني ثم يلاحظ في هذه القصيدة أنها متماسكة المبنى والمعنى، مترابطة الأوصال، ذات وحدة فنية تشد القارئ إليها شداُ. . فليس فيها من التفسخ المعنوي والاضطراب الفكري والضعف البياني شئ وهذه قصيدة أخرى بعنوان (توبة). . بل هذه قصة الإنسان المخطئ حين يؤوب مثقلاُ بذنوبه إلى الله مستغفراُ. . .
يقدمها الشاعر ناظمها بهذه الكلمات (لا يفزع الإنسان إلى ربه إلا حين يخطئ فسبحانه ما أعجب خليقته. .). . ولننقل الأبيات الأخيرة منها اقتصاداُ للوقت. . .
أنوء بكل الخطايا التي ... تذوب نيرانه الجلمدا
فرحماك يا بارئ الخاطئين ... أتيت إليك خفوت الندا
ويا رب ها أنا ذا تائب ... ونفسي وروحي وقلبي الفدا
أجرر ذيل الذنوب الكبار ... وأسري وملء الطريق مدى
أصارع بالحب ما آدني ... وأدفع بالشعر ما نكدا
وأرنو إلى مقبل من بعيد ... وأكح عيني بومض الهدى
ولننتقل إلى مجال آخر. . فنستمع إلى شاعرنا بعد ضياع (فلسطين). . في أبيات من قصيدة طويلة. .
فلا تقرب الوادي فها هو موحش ... ولا تسأل الأحجار. . أخرسها الرعب
ولا تطلب ذكرى لعهد تفرقت ... أماسيه ما بين النوائب والنجب
نزلت على الوادي فلا الزهر يانع ... ولا حضر السمار. . والسمر العذب
بل الشمس قتماء وفي الأفق وحشة ... والبدر إطراق ودون المنى حجب
هي النائبات السود أظلم وجهها ... وكانت ذكاء لا يحس لها غرب
ففي جانب الوادي وفي منحنى الحمى ... نفوس تولتها المصائب. . والكرب
لحى الله خطباُ قد ألم فروعت ... مطالعه زغب الحواصل لم يحبوا
هذا وفي الديوان قصائد ممتازة لا وقت لدينا ولا لدى القارئ لاستماعها جميعاُ. . وعسى الله أن يهدي النقاد عندنا فيعملوا من أجل الشعر والأدب، لا من أجل الشعراء والأدباء
دهوك
سامي أمين