الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 948/رحلة الى الحجاز

مجلة الرسالة/العدد 948/رحلة الى الحجاز

بتاريخ: 03 - 09 - 1951


للشيخ مصطفى البكري الصديقي

للاستاذ سامح الخالدي

ومن باب السلام لقد دخلنا ... واهدينا السلام من السلام

وقمنا عند شباك نزيه ... ودمعى في اشتباك وانسجام الخ

وتذكرت في هذا المقام قول الامام سيدي احمد بن الرفاعي قدس الله سره:

في حالة البعد روحى كنت ارسلها

تقبل الارض عنى وهي نائبتى

وهذه دولة الاشباح قد حضرت

فامدد يمينك كي تحظى بها شفتى

(ثم صليت تحية المسجد لدى المنبر، وتذكرت قصيدة من نفائس القصائد نقلتها من مجموع جامع، وكان رآها شيخنا الشيخ محمد بن ابراهيم الدكدكجى، فاخبرني ان جناب شيخنا الغنى بربه، سمع في زيارته منشدا لها على سدة الحرم النبوي والمسجد، فاجرت المدامع كالسحب الهوامع، فطلبها ليثبتها في رحلته الكبرى، فلم يجب الطلب، والقصيدة هي:

يا عين هذا السيد الاكبر ... وهذه الروضة والمنبر

فشاهدى في حرم المصطفي ... من نوره الساطع ما يبهر

(وعطفنا بعد هينة على زيارة بقيع الفرقد، وصرنا بعد الزيارة والطواف على من حل فيه من اهل الاشارة، نتردد على الحرم المنير، وكانت ليلة دخولنا المدينة الثلاثاء واقمنا الاربعاء والخميس، وذلك الخامس والعشرون من ذي القعدة، ولم يتيسر لى المبيت في حرم الثبيت الا ليلة الحبور، ولذا سميت بالخميس، وبعد ان صليت العشا جلست في الروضة الجنانية، مواجها للحجرة الشريفة الامانية، وختمت كتاب الادلائل، وصليت ما تيسر، تقدمت الى ما بين الاسطوانتين، مستقبلا للوجه الازهر، ولم اتقدم الى الشباك، واستأذنت في عرض (ورد السحر) على اسماعه الكريمة، فأتمته وانا بين يديه واقع، وكنت اذ ذاك وحدى، وتقدمت يسيرا لقبالة وجه جدنا الاعلى الصاحب في الغار، فعرضته عليه، وواجهت وجه سيدى عمر بن الخطاب وكررته على اسماعه، ثم اتيت باب جبريل، واعدته، ثم بيت الزهراء اتيت، وبالباب صاغرا وقفت وقرأته راجيا بشفاعة السيدة الفاخرة فاطمة، وفي الحديث الذي رواه الديلمي عن ابي هريرة عن المختار: (انما سميت فاطمة، لان الله فطمها ومحبيها عن النار) وجعلت هذه التلاوة الجامعة، وقبيل الاتمام اذن المؤذن الفجر، فاسرعت وشرعت فيه مغتنما للاجر، وقد ذكرت في اوائل شرح هذا الورد المسمى بالضيا الشمسي على الفتح القدسي بعض ما وقع لنا ولاخواننا في التلاوة وغيرها ما يبشر نفوس الملازمين عليه بحسن سيرها. . وعدنا للخيام، والعين عن هذا السير نيام، وكررنا العود لاحمد الخلق احمد، وهو كما قيل للمحمود احمد.

(ولما دخلت ليلة العروبة بت في الحرم ايضا، راج كما عودت فيضا، وبعد صلاة العشا، غلب وارد النوم، ثم كريت في الصباح، على زيارة اهل البقيع الصباح، وبعد صلاة الجمعة عزمنا على السير فودعنا حجرة من اودعنا القلوب لديه، ولو استقصينا ما ورد في فضل المدينة ومسجدها وروضة البقيع ورقعته، ومساجدها الرفيعة، ومعابدها المنيعة، وجبالها المرغوبة، واوديتها المحبوبة، لا تسع المجال والوارد، في هذه المصادر والموارد، وقد افصح بعض افصاح، الحافظ ابو عبد الله محمد النجار صاحب (الزواهر والجواهر الثمينة، في كتابه (النزهة الثمينة في اخبار المدينة)

وكم رمت مدحا في الجناب المحمدى

= فما طاوعتنى من مهابته يدى

وكريت بالمداح في الذات اقتدى

= لعلى ان انجو بذلك في غد

ورحم الله احمد بن محمد من اهل غرناطة، حيث يقول:

اروم امتداح المصطفى فيردنى

= قصورى عن ادراك تلك المناقب

ولو ان كل العالمين تألفوا

= على مدحه لم يبلغوا بعض واجب

فأمسكت عنه هيبة وتواضعا = وخوفا واعظاما لارفع جانب

ورب سكوت كان فيه بلاغة

= ورب كلام فيه عتب لعاتب

(وكنت وانا في المخفة، المثقلة بغفلاتى، فهى غير مخفة، اتسلى ببعض كتابات في مدح سيد الاكوان).

وبعد ان ودعنا اماكن نورها نابغ، وصلنا منزل (رابغ) واحرمت بالحج، وسبقنا الحج المصري الى بدر، وابتدرنا المسير بعدهم بيسير أي بدر، واهديت شهدائنا الفواتح، وسرنا الى وادى فاطمة، ولم نشعر الاوقد اشرق النور، وقد اتينا البيت العتيق نزور. وكان نهار يوم الاربعاء، والمبيت (بمزدلفة) ليلة الخميس. ولما اتينا (منى) رمينا الجمرة الاولى، ثم ذبحنا وقربنا وحلقنا الشعور، واجتمعنا ثاني يوم عند رمى الجمرة الثانية بالصديق الاوحد السيد محمد بن السيد احمد الثافلاتى (مفتى الحنفية بالقدس) فلما رايته طرت به فرحا، وسرت به الى الخيمة منشرحا، واقام هينة وسار، ولم ابلغ من الجمعية به الاوطار. وبعد ما رمينا الجمرة الثالثة، سرنا بعيون فياضة، وادينا واجب طواف الافاضة، واجتمعنا ثاني يوم القدوم بالسيد المذكور المعلوم، في الحرم تجاه البيت، وعرضت عليه قصيدتين كتبتهما في ذلك المجلس في كتابين وارسلتهما لبيت المقدس، ليقف عليهما ارباب اقتراب نفيس، فانحظ بهما، وسالته ان يرفقنى الى القاهرة لانشق عرف مآثره الفاخرة، فابدى اعذارا فلم تقبل ذلك منه نفسي، لانها قاسته عليها كما قسته بابناء جنسي، واذا الامر بخلاف هذا المفهوم، لما تحققت وشاهدت في بلاد الروم.

(وكنت اجلس في المقام الحنفي واتملى بانوار البيت الشريف الوفي، وكنت اتردد على الحرم اوقات الصلاة، متى سمعت المؤذن حيعل ولعل حجازا بادرت مجيبا، اذ نغمة اهل تلك الاماكن نغمة مترقبة تحرك من الحب السواكن، وما احلى همهمة الزمزى اذ يدمدم بتلك الزمزمة، وكان اول من وضعها من جدودها وبقيت في الذرية).

(وقد بت ليلة في خلوة قريبة من الحرم، فايقظنى رفيقي برفق وقال: قم فان الباب فتح للامير الشامي الكبير، فبادرت للطهارة لالحق الدخول، فقفل الباب، فبكت النفس عليه لا على حومل والدخول، ثم سليتها ومنيتها ليذهب الحزن عنها، بان بعض الحجر من غير شك منها، فدخلته والتزمت البيت التزاما، ووقفت تحت الميزاب اجرى الدموع انسجاما.

(وقد اردت العمرة؛ فمنعتنى من الذنوب الغمرة، وتوجهت مع صويحب لي لزيارة سيد سمي جعفرا، فرايت صدرا رحيبا ودرا مصيبا، ولم اجتمع بالشيخ محمد عقيلة، الدرة العقيلة، لان الاجتماع العيني الجسمي، تابع للتعارف الغيمي العلمي الاسمي، والسيد جعفر المذكور، له قدم صدق مذكور مشكور. وقد بشر بحصول الالطاف وحباني بعد ان حيانى بعد عطفه، ودعا دعاء يملا الاناء، وودعته منصرفا، وبفضله معترفا ومنه مغترفا).

(وفي ثاني يوم ودعنا البيت الشريف المحمود، ونزلنا مع رفاقنا الكرام (في الشيخ محمود) ولما طفت طواف الوداع، طفت الدموع ولها على الخدود اندفاع. وقلت:

طفت الدموع على الخدود سراعا ... لما فتحت من الوداع شراعا الخ

(ولما مللت تلك الديار المبرقة التي شموسها مشرقة، وطوسها حارقة للنفوس وللحجب خارقة، بادرت الى الزيارة الجامعة لكل بارقة، اللامعة اضواؤها بكل طارقة، وعند الوصول الى الوصول المأمول في السابقة والاحقة، جرت خيول سيول دموع دافقة.

ولما سكن القلب انشد:

سكن الفؤاد فعش هنيا يا جسد ... هذا النعيم هو المقيم الى الابد الخ

وفي ثاني يوم، عمت في بحر الزيازة البقيعية أي عوم؛ وبت في الليلة الثالثة من القدوم في الحرم.

الامير يعمل مولدا وبفرق الدنانير:

وكان الامير (أي امير الحاج رجب باشا) عمل مولدا بين العشائين، وبت في الخدم دنانير الكرم.

وكان يتردد على احيانا صديقنا الواعي، سيما عند الطواف

بالبيت الجميل المساعي، الشيخ محمد البقاعي، حباه الله

البواعث والدواعي؛ فقلت في سرى ولم يشعر بما فيه زرى،

مخاطبا السيد الاعظم ذى الكوكب الدرى، يا سيدي ان كان لمحمد في اخذ الطريق خيره بها لا يدري، فسقه الام وحرك

سره واثلج للعطاء صدري، فرايته قام من مجلسه وامنى،

وجلس بين يدي وصافحنى، وطلب تخذ العهد، ولم يكن لد

بذلك من عهد، فامرته ان يجدد الطهارة وياتى قبالة الشباك

الرفيع، ويستغفر مئة مرة ويصلى ويسلم كمثلها على خير

شفيع، ثم يستأذن فيما اليه قصد، وينظر ما الذي يرد على قلبه

بعد ما للوارد رصد، فعاد واسره وجهة تبرق وقال وقد انشرح

صدري، فاجبته ولم اطرق وبات عندى، واكات في ليلة عيدى

قندى، ولم اقم من منامى، الا قبيل الفجر لقلق طفح به جامى،

ومذتذكرت الفراق الذي يتحصن منه بالف راق، طار لي

وطاش عقلي واندهش الفؤاد، الجامع من وديان الحب على

الف وادواذهب التذكار للبعد السرور والحبور والفرحا،

ورايت ثقله على قلب الشفوف ينوف الف رحى، واستوحشت

لنزل قرب الفنا به، ما يعجز عن حصره وعده الف نابة،

وقلت وقد عضنا البعاد بنابه، ليت ما حل بنابه:

يا سادة قلب المشوق اراعوا ... بوداعهم والسر منه اذاعوا الخ

(وقد نص الخواص ومنهم الخواص ان خلع القبول، لا تخلع على الحاج الا عند الرسول، ليزداد منه السرور، فيقول السعى المشكور ولا بد للزائر من اكرام، وهذه الخلعة نهاية الانعام. وفضل الزيارة، احاديثه انجم سيارة، وفي بعضها: (ومن لم يزرني. . وفي اخرى بزر قبرى فقد جفاني) فحق على وان كنت المتواني ان اسعى على اجفاني.

وذكر بعض اهل الكشف الرباني، ان المجاورة في المدينة لا يقدر عليها الا الاقوياء من كل دانى، لفرط ظهور النور المحمدى، في ذلك المقام الاوحدى، وما احق بيت ابي الطيب، ان ينشد عند فراق ابي الطيب:

يا من يعز علينا ان نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم

وقوله:

لولا مفارقة الاخيار ما وجدت ... لها المنايا الى ارواحنا سبلا

وقصيدة السباق في ميدان السباق، سيدي محمد البكري، ومطلعها:

يا رائحا نحو الحجاز ميمما ... يطوي الفلا بنجائب ونياق

ليلة الخيام:

وفي الليلة الرابعة بت في الخيام، وكانت تلك الليلة ليلة الختام، فايقطت سحرا ابن عمى، وجئت للحرم، مودعا فزال غمى، وقرات ورد السحر كما فعلت في المرة الاولى، وتقدمت بعده لمواجهة الشيخين راج ان امنح سولا. ودعوت بما اجراه قلم التقدير، على لسان الفقير وقبل اتمام المرة الثانية صاح صائح الفجر، بعدما لاح لائح الاجر، فركعناه جماعة ثم سرنا بعد ساعة للبقيع، وقد هالنا الوداع الفظيع، ثم عدنا للخيمة المظلة، ولم نطف غلة الفراق المطلة.

هد الخيام:

ثم لما هدت الخيام، وعزم الحج على المسير، جون قيام اسرعت لتوديع المقام، واطلت الاقامة حتى كاد ان تفوتنى الرفاق الكرام، وتذكرت قول شيخنا المقدام الشيخ عبد الغنى (النابلسي):

يا بني الهدى اليك اعتذاري ... انني من هواك في الارض سائح

لم يطب غير طيبة لفؤادى ... انا منها اشم طيب الروائح

كيف تبرى جراحتى في بلاد ... لحيبيى ثرائها المسك فائح

اجتماع برجل مصري صالح: وكنت اجتمعت في الروضة الشريفة اللماعة، يوم العروبة ونحن منتظرون صلاة الجمعة الجماعة، برجل مصري عليه هيئة العز، وهيبة الصحا اهل العز، فسالنى عن الاسم والبلد والاهل والوطن والمولد فاجبته وسالته عن مدة الاقامة في جوار صاحب العمامة، والغمامة فاخبر انها عد جيب فهى هي، وصيب الحب يبتدي فلا ينتهى. فغبطته وسالته ان لا ينساني. وكنا صلينا الجمعة ونحن متوجهون للحرم المكى والخطيب في الكرتين واحد. وكنت اسمع خطيبنا يقول (يا سعد زوار الرسول) اذ يقول خطيبهم مظهرا بقوله استلذاذا قال نبيكم هذا، فلم اسمع هذه المقالة من الخطيب ثم رجعت مفكرا عن السبب فاذا هو مصيب، فان الحاضر وان اشير اليه بهذا لا نرى حسنا قولنا في حضرة سلطاننا قال ملكنا هذا وربما لو سمعناه من غيرنا نقول هذا هذا، ونحمل حال من قال، على مقام الادلال.

(ولما جرى في وادى العقيق عقيق الدمع العقيق، وخلفت جباله خلفي جعلت النوم خلفي ولم نزل نحنى الكف، بدمع قانى عن وكفع ما انكف، الى ان وصلنا (العلا)، وخاف الحاج من عدم وجدان الجردة الغلا، وامسينا نضرب حيرة لا خديعة للاسداس، وقد وفد علينا جيش الوسواس، فبذا نحن في وهم والتباس، وقد التقى البطان والحقب معا من الباس، اذ سمعنا صوت كاس، فتباشر الناس، وهاجموا وماجوا واخذوا بايمانهم اكواب ايناس، ولما تحققوا بقدوم اكياس تقتبس منهم نبراس اخبار نفاس عن اهل واوطان فتراجع احساس واجتمع كل ناس بناس، وزالت الوحشة ووقع البسط بلا قسطاس، وجئنا قلعة (تبوك) وثوب الصفا محبوك.

في محطة المست، سقوط الامطار، واضطراب الناس:

وما برحنا نقطع السباسب والقفار بدون اسا، حتى وصلنا لمحطة (الحسا) فلما سرينا منها سح السحاب، واضطرب الناس أي اضطراب، وحصل نقص في الجمال لموجب الفسخمن الاوحال، وسقط كثير احمال؛ وكان يوما عبوسا، لكن كفانا مولانا منه بوسا وحفت بنا الطاف مددها وافى بسبب ذكر اللطيف والحفيظ والكافى. ودخلنا الشام في صحة وانعام، في السابع والعشرين من محرم. الحرام عام (1131 هـ) احسن الله منها الختام.

سامي الخالدي