مجلة الرسالة/العدد 945/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 945 القصص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 13 - 08 - 1951 |
الفانية!.
للأستاذ كمال رستم
(مهداة إلى سعادة الأستاذ محمد كامل البهنساوي بك صاحب
الأقاصيص المأثورة)
. . يحيط الطبيب في حياته العملية أكثر من أي إنسان آخر بالطبيعة البشرية، فهو يلم بأحاسيس مريضة وانفعلاته. . ويراه وهو يتجرد من الثياب في حالة أشبه بحالة الرجل البدائي. . لا زيف في الشعور. . ولا ادعاء. . ولا دهاء. وهو يلاحظ مرضاه كيف يتصرفون عند الشدائد وعند أستهدفهم للموت. . ويرقب سلوكهم إبان المرض. وفي أعقاب الشفاء. وهو في ذلك كله يقابله الكثير من القصص المثيرة. . ولا جرم أن أشد ما يحز في نفسه أن يقف عاجزا مكتوف اليدين من إنقاذ روح بها أو مطمئنة ألم. وليس من يدرك مشاعر الطبيب في مثل هذه الظروف القاسية إلا المشتغلون بهذه المهنة. ولعل من أكبر المشاهد التي أثرت في نفسي الأيام الأخيرة، مشهد الدموع التي رايتها تلتمع في عيني إحدى مريضاتي وهي تقول لي:
- إذن!
هذه الدموع التي طفرت من عينها وتحدرت في خطين دقيقين على وجنتيها، لا زلت أجتلها مثلما اجتليتها لحظة هطولها! ولا زلت أذكر كيف غيضت بمنديل يدها الصغير هذه الدموع. . وكيف تحاملت على نفسها واقفة أمامي. كأنما ذكرت فجأة أنه لا يجدر بها أن تتخلى عن شجاعتها وأن تتهم بالخور والجبن! أسمها نادية. . عذراء في التاسعة عشرة. . فتاتة بما يعني مدلول اللفظ. ومع أنها وقت أن جاءتني كانت مريضة. . لا بل. . كانت ماضية إلى الموت ذاته. . لم تتخل عن وجهها سمات الفتنة الآسرة! وكانت قصتها قد بدأت قبل أن تحضر إلي بوقت طويل!. كانت مريضة بالسرطان! والسرطان متى أفلت زمامه من أيدينا فإن أية قوة. . . وأية حكمة لا تفيد في دفعه أو كبح جماحه. والحد العلمي لها المرض الخطير أنه مجموعة من الخلايا تنمو في الجسم على حساب التركيبات المحيطة.
وخارجة عن تحكم الجسم. . فالجسم الإنساني يتكون من مجموعة من الخلايا تنجم عن انقسام خلية ثم انقسام أجزائها. . ثم انقسام هذه الأجزاء. . وهكذا إلى أن يتم نمو الإنسان. فإذا تصورنا أنه ليس من قوة تحكم هذا النمو. . فإننا نحصل في النهاية على مجموعة من الخلايا لا شكل لها. وإذا افترضنا أن إحدى الخلايا ابتعدت لسبب ما عن اتصالها العصبي وهي لا تزال حية وفي موضع يمكنها أن تحصل فيه على غذائها من السائل الدموي، فالذي يحدث هو أنها تأخذ في النمو والانقسام وتكبر في الحجم وتغير على جاراتها من الخلايا العادية. وهذا ما نسميه (بالتضخم البغيض) أو (التضخم القاتل). . هذا هو السرطان الذي يحطم الخلايا العادية المجاورة وينتشر خلال الأوعية الليمفاوية وينطلق في مسرى الدم غلى سائر الجسم!.
يدرك الطبيب أن دملا صغيرا هو تضخم بغيض بسبب أعراض معينة فيقول لنفسه: فلأبتره قبل أن يشق علي أن أعالجه. . وقبل أن يبتدئ في مكان لا يمكنني فيه أن أبتره من إتلاف عضو حيوي. . أبتره سريعا قبل أن يغدوا حرا وينتشر في سائر الجسم. . إلى الرئتين. . أو إلى العمود الفقري. . أو عظام الساق. . أو الصدر. . أو الكبد أو أي مكان آخر حيث لا يمكنني أن أزيله تماما دون أن اقتل المريض! هذا هو السبب الذي من أجله ننصح الناس دائما بان يستشيروا طبيبهم حالما يرون دملا غريب الشكل!. وها هو السبب الذي من أجله نتألم تقول لنا السيدة إن لديها تضخما منذ ستة اشهر ولكنها لم تشأ أن تخبر بأمره أحدا. . ستة أشهر أضاعت خلالها على نفسها فرصة العلاج السريع لأنها أبت أن تكاشف أحدا بمرضها!.
كانت هذه هي الحالة التي جاءتني عليها نادية وكانت مخطوبة إلى ابن خالتها. . وراحت تنتظر معه اليوم الذي يربطهما فيه الرباط المقدس. . ولكن هذا اليوم السعيد الذي تتحقق فيه المنى لم يحدث أن أقبل أبدا! العاطفة المشبوبة. . واللهفة والحنان. . كل أولئك لم أعرفه في غير هذين الخطيبين! كان يحب أحدهما الآخر حبا يتضاءل أمامه كل حب رأيته أو سمعت به. . وكان الوفاء الذي يستخف بالتضحية. . وتهون عليه الصعاب هو ذلك الوفاء الذي يعشعش في صدري هذين العاشقين الصغيرين!. رأيت ذلك عن قرب ولمسته في الوقت القصير الذي قضياه في عيادتي!. أبدا لم أسمع في حياتي أرق من ذلك الصوت الذي كان يخاطب به الخطيب خطيبته. . ولا تلك اللهفة التي كانت تبين في صوته وهو يقول لي: - أريد أن أطمئن يا سيدي
كانت قولته هذه التي انبجس منها الشعور الحلو دافقا جياشا. . هي كل ما قاله لي. . وزايل الغرفة وتلبث خارجها ينتظر الكلمة التي تنفرج عنها شفتاي. تلبث ينتظر حكمي بالحياة أو الموت على فتاته. . وكان في الغرفة أن قصت علي قصتها عندما ظهر التضخم في صدرها حسبته بادئ الأمر دملا. . ولم يجد العلاج الذي استطبت به. . وراح ما حدسته دملا يكب. . ويكبر وغاضت الابتسامة من وجهها. وبدأ التفكير العميق يستغرقها والهواجس تستبد بها!. لاحظ الفتى أن فتاته غدت موزعة النفس مشتركة الذهن! وأخته حيرة مضنية وراح يلحف في سؤالها عن السر في سهومها المطرق. وكان جوابها عن كل الأسئلة التي ألقاها عليها هو قولها:
- ليس بي شيء! أية صدمة أصابته. . وأي حزن كاد يطيح بصوابه عندما أطلعته آخر الأمر على ما استسر طويلا في صدرها من الوساوس!
وبدا له أن يعرضها على طبيب. . وأشار الطبيب بأن يجري لها سريعا جراحة استئصال التضخم وأجريت الجراحة: واختفى المرض. . وتوارت آثاره البغيضة وكان من الممكن أن تعود الابتسامة إلى مكانها من شفتي الخطيبين وأن يمضيا في مشروع زواجهما الذي عطله المرض! ولكنهما كانا في خوف متصل من أوبته! كانت تمر بهما الساعات الطوال وهما مستغرقان في إطراقة الصمت وينتبهان إلى نفسيهما فيجد كل منهما أنه أمام صاحبه. . وتجري على شفاههما ابتسامة حزينة. . كانا يدركان أن ماردا جبارا يهدد سعادتهما!.
. . ودرجت الأيام. . ولم يظهر أثر ما لعودة المرض وقال الحبيب لحبيبته وفي قلبه ابتسامة كبيرة: - سنتزوج! أجابته وهي لا تتمالك نفسها من السعادة قائلة: - نعم سنتزوج.!
وطافا بصالات الأثاث. . واقتنيا أثاث غرفات أربع. وحددا يوم الزفاف. . وجرى كل شيء على ما يشتهيان عندما أحست الفتاة فجأة بتغييرات في مساحة الجراحة، بدأت تظهر فيها بثور شائهة راحت تكبر على الأيام. . كل يوم كانت تطالعها بوجه أكثر باعة ودمامة من اليوم السابق! لقد آب المرض الكريه. . ولكنها لم تستطع أن تنبئ فتاها بأويته. . إنه كان قد غدا مرة أخرى سعيدا بخدودا. . وزايلت وجهه سمات الحيرة والقلق! ولأنها كانت أجمعت أمرها على أن تنفرد دونه بالألم فقد أطبقت على السر الرهيب صدرها! وراحت تتحامل على نفسها لتحتفظ بمرحها وروحها العذبة. وكتمت السر طويلا حتى ضمر جسدها، وبانت عليها نهكة المرض. . ولكن الفتى لم يكن بحاجة لمن ينبئه بالحقيقة السافرة. . وقال لها: - ينبغي أن تعرضي نفسك على الطبيب مرة أخرى وتهالكت على المقعد في إعياء وهي تمسك براحتها صدرها قائلة: - لم تعرض فتاة معافية نفسها على طبيب؟ قال لها: - ولكنك لست معافية يا حبيبتي! ومضى بها إلى الطبيب ورأى الطبيب بنظرة واحدة أن المرض قد عاد. ففي خلال أسابيع التستر والتكتم الطويلة تقدم تقدما حثيثا وأصبح لا غناء في أية جراحة ولا جداء في أي علاج! أينبئهما بالحقيقة؟ ما الخير في ذلك؟. . ليس من شيء يمكن أن يوقف تقدم المرض. إن إنباءها بالحقيقة معناه أن يغرقها وفتاها في ظلمات اليأس القاتل. .! لقد كانت أيامها معدودة. . فلم لا يجعل حياتها فيما يستطيع خالية من الشقاء والتعاسة. .؟ وفي حال من التأثر بهذه الروح الإنسانية الغالية قال لها وهو يربت على كتفها في جذل مصطنع:
- لا محل إطلاقا لأوهامك وهواجسك فأنت معافاة سليمة.
- كثيراً ما يقسو الناس في أحكامهم على الطبيب إذا جاءت النتائج على عكس ما قال لهم. . البعض يتهمه بالغفلة. . والبعض الآخر بالشره. . وليس فيهم من يدرك الموقف الدقيق الذي تفرضه عليه بعض أمراضهم!. ولا من يدرك أنه بشر مثلهم. . وإن أقسى ما يشعر به هو أن يعجز عن أن يعيد الابتسامة إلى مكانها من شفاه مرضاه التعساء.!
وحدثت المريضة نفسها قائلة بعد أن غادرت عيادة الطبيب: - لشد ما خدعت نفسي. . وخدعتني أوهامي. . ولشد ما أنا آسفة على القلق الذي استسلمت له وتركته يأخذ بخناقي!. ولا شك أن الفتى قال لنفسه بعد أيام من زيارتهما للطبيب:
- لقد أكد الطبيب أن صحتها على ما يرام وأكدت لي نفسها أنها في عافية. . ففيم إذن ضعف فتاتي وسقامها؟.
ومرة أخرى أقلقه الشك فأجمع أمره على أن يستشير طبيبا آخر. . وكنت أنا الطبيب الأخير الذي استشاره!. .
كانت النظرة التي تمليتها من المريضة كافية لأن أعلم أن برئها محال. واشكلت على وجوه الرأي ولم أدر هل أصارحها بالحقيقة أم أكتمها عنها وأطمئنها كما طمأنها طبيبها من قبلي، وأدع الأقدار وحدها تقول كلمتها وهي فصل الخطاب!. . ولكنني كنت استمعت منها إلى قصتها. وعرفت ظروف حياتها وكنت إلى ذلك أعرف أن فتاها ينتظر في صبر أرعن الكلمة التي ستنفرج من بين شفتي. . فأية قسوة أن أقول أمامه لفتاته:
- لا أمل في شفائك يا ابنتي
من يتصور أن أصدم فتاة في حياتها. . وفتى في أمله في الحياة؟ ورأيتني أميل إلى أن أكتم عنها الحقيقة فقد رأيت من الرحمة ألا أطفئ جذوة الأمل الأخيرة في حياة هذين العاشقين.! وما كدت انتهي إلى هذا القرار حتى انساب إلى صوتها الواهن وهو يقول:
- أرجو أن تنبئني بالحقيقة يا سيدي - إنني أعلم دقة مركزك. . ولكن يجب أن أعلم مهما كانت قاسية. .! وشئت أن أتكلم. . ولكن الكلمات ماتت على شفتي وأطرقت أفكر بينما تابعت هي حديثها قائلة:
- يريد خطيبي أن يعلم الحقيقة. . ولك ينبغي ألا تخبره بها إن كانت قاسية فهي حرية بأن تطيح برشاده وتشقيه. . ولكنني أستحلفك بشرف المهنة أن تنبئني بها!.
- وهكذا رأيتني في موقف يتحتم علي فيه أن أتكلم!. وصعدت إليها بصري لأول مرة منذ تكلمت فرأيت العزم والتصميم في وجهها فقلت:
- ما دامت تلك هي إرادتك. . فانه يحزنني أن أقول لك أن الزمام قد أفلت من أيدينا ومع أن وجهها كان قاسيا إلا أن الدموع طفرت فجأة وتحدرت على وجنتيها في خطين دقيقين!. أدركت في لحظة واحدة أنها امرأة فانية. . وأنها بعد وقت طويل أو قصير سترحل عن الدنيا وعن فتاها وعن ذويها. . وعن كل ما وعزيز لديها وحبيب. .! قالت في صوت يزخر بالانفعال:
- أما يوجد. . أي علاج؟
- يؤسفني أن أقول لا!
- أما ينتظر أن أعيش ستة أشهر أخرى؟
- يؤسفني أن أقول. . . لا. . أيضا! قلتها وفي قلبي كآبة كبيرة. . . ورأيتها تخرج منديلا من حقيبة يدها راحت تكفكف به الدمع المنحدر من عينيها! وفي لحظة واحدة تبدلت الفتاة الفانية التي كانت أمامي واستحالت إلى فتاة جديدة. . في عينيها توكيد وعزم وقالت.
- ينبغي ألا يعرف!
وتقدمتني إلى الباب وفتحته في هدوء وقد جرت على شفتيها ابتسامة كنت وحدي أدرك كنهها وما تنطوي عليه من اليأس القاتل. . وانتفض الفتى واقفا عندما فتح الباب. . الابتسامة الوضيئة! الابتسامة المريرة. . الابتسامة الشجاعة كانت هي كلمة الأمان التي قالتها له فتاته وإن لم تتكلم.!
ولكنه تقدم مني ملهوفا كأنه يتهم عينيه وقال:
- أهي بعافية يا سيدي؟
وابتسمت له ونياط قلبي تقطع وقلت:
- أنت ترى بعينيك يا ولدي أنها بعافية. . وعلى ما يرام! وشد على يدي في حرارة وقوة وقال في شغف:
- شكراً لك يا سيدي. . شكراً لك.!
وما كادا يغادران العيادة حتى أطللت عليهما من النافذة وفي عيني دمعتان كبيرتان! كانت الفتاة تمضي في الطريق إلى جانب فتاها وهي متأبطة ذراعه في جذل كاذب!. . أية سعادة وهمية تلك التي كانت تعشعش في صدر الفتى.! وأي شقاء كان في صدر الفانية؟
تدبرت هذه المفارقة الفذة وأنا واقف إلى النافذة أتبعهما بصري عندما قفز إلى رأسي هذا السؤال:
لم سألتني عن المدة التي يمكن أن تعيشها؟ أتراها تزعم أن تنعم فتاها بالزواج بها ما تبقى من حياتها وهي قصيرة.! أم تراها تريد أن تتعجل أيامها الباقيات؟. أبدا لم يخل ذهني لحظة واحدة من التفكير في نادية فقد كنت أعلم أنها غادرت عيادتي لتموت. . .
كمال رستم