مجلة الرسالة/العدد 938/بريطانيا العظمى
→ مولانا محمد علي | مجلة الرسالة - العدد 938 بريطانيا العظمى [[مؤلف:|]] |
عقيدتي ← |
بتاريخ: 25 - 06 - 1951 |
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
(تابع)
تفويض إلهي
في 1603 انتهى عصر أسرة تيودور بموت الملكة العذراء اليصابات وبدأ عصر أسرة استيورت باعتلاء جيمس الأول عرش بريطانيأن وبدأ كذلك نضال عنيف بين الملك والبرلمان.
كان جيمس يؤمن بنظرية التفويض الإلهي ومعناها أن الملك مولى من قبل الله تعالى وليس لأحد من رعاياه محاسبته على أعماله وتصرفاته، وكان جيمس يستند في ادعائه على ما جاء في الكتاب المقدس من قول الله تعالى (بأمري ونيابة عني بحكم الملوك ويقوم المستشارون بوضع القوانين العادلة وبحكم الأمراء). وكذلك جاء في العهد القديم (شخص الملك مقدس وأي اعتداء عليه إثم عظيم، إن الملوك يجب أن ينظر إليهم كأشياء مقدسة، ومن يهمل في المحافظة عليهم يستحق الموت. . إن الملك ظل الله الذي يجلس على عرشه في السماوات ويدبر شؤون الكون. أيها الملوك باشروا سلطانكم بشجاعة لأنها مقدسة وضرورية لحياة الإنسان، ولكن باشروها في تواضع ورحمة.)
وهكذا آمن جيمس بسلطانه المطلق، ولكن البرلمان لم يوافقه فيما ذهب إليه وأصر أعضاؤه على الاحتفاظ بحقوقهم وقدموا إلى الملك عريضة جاء فيها:
(إن حقوقنا وحرياتنا موروثة وهي لا تقل خطراً ولا شأناً عن أملاكنا وأموالنا التي نتوارثها إن صوت الشعب في الأمور التي يصل إليها إدراكه من صوت الله.)، واختتموا عريضتهم قائلين: (إن عنايتنا يجب أن تعمل على تثبيت حب الشعب والتفاوت قلوبه حول عرش جلالتكم، وإن ولاء النواب وحبهم لجلالتكم قوي مكين.)
ولكن جيمس غضب، وبدأ النضال، وزاد المسألة سوءأن ملوك أسرة استيورت كانوا يؤمنون بمذهب كنيسة إنجلترا الأسقفي ظاهرأن ويبطنون إيمانهم بالمذهب الكاثوليكي الذي كان الشعب بكرهه.
وقد كانت الأزمة المالية العامل الأول في قيام النزاع، فقد أراد جيمس أن يفرض الضرائ حق من حقوقهم وطلبوا أن يناقشوا ميزانية الدولة. وتساءل النواب الساخطون هل للملك حق فرض الضرائب دون موافقتهم؟ ومن الذي يجب أن يشرف على ميزانية الدولة؟ أهو الملك أم البرلمان؟ وكان على الشعب أن يجيب إن عاجلاً أو آجلأن وبطريق السلم أو بطريق الحرب.
وقد مات جيمس الأول 1625 وأجيب عن الأسئلة السابقة بوضوح وجلاء في عصر ابنه شارل الأول أن أجيب عن السؤال التالي: (لماذا كانت إنجلترا أسبق الأمم الأوربية إلى تقييد سلطة مليكها وإخضاعه لإشراف البرلمان، وإلى منح أفراد شعبها حرياتهم المدينة، وإلى تحرير نفسها من سلطان الكنيسة في روما؟).
يجيب بعض المؤرخين على ذلك بقولهم إن الشعب البريطاني والجنس التيوتوني يمتاز بحبه لحريته المدينة وبرغبته في أن يحكم نفسه بنفسه. ويقول مؤرخون آخرون إن موقع إنجلترا بمنأى عن القارة الأوربية لم يجعلها في حاجة إلى الاحتفاظ بجيش قوي للدفاع عن نفسها ضد غزو محتمل، ويؤمن هؤلاء المؤرخون بأن ازدهار التجارة في عصر اليصابات وجميس وانتشار الرخاء كانا من أهم العوامل التي ساعدت على قيام النضال البرلماني في عصر أسرة استيورت.
شارل الاول: 1625 - 1649
كان شارل كأبيه يؤمن بالحق الملكي المقدس ولذلك كرهه الشعب وساعد على ازدياد كراهيته له زواجه من أميرة فرنسية، وسرعان ما قام النضال بينه وبين البرلمان وكان محور النزاع (من صاحب السيادة في إنجلترا؟ أهو الملك أم البرلمان؟).
وكان سبب قيام النزاع مسألة فرض الضرائب، فقد قام شارل بعدة حروب جعلته في حاجة إلى المال، وقد رفض النواب موافقة الملك على فرض ضرائب جديدة فاضطر إلى حل البرلمان مرتين في ثلاث سنوات واضطر إلى عقد قروض إجبارية، على أن الأزمة المالية لم تحل واضطر الملك عام 1628 إلى دعوة البرلمان، وأبى النواب الموافقة على الضرائب الجديدة إلا بعد مصادقة الملك على ملتمس الحقوق 1628 وفيه اعترف الملك للشعب بالحقوق الآتية:
أولاً: لا يجوز للملك فرض ضرائب جديدة على الشعب بدون موافقة البرلمان.
ثانياً: ليس للملك حق عقد قروض إجبارية.
ثالثاً: ليس للملك أن يسجن أي فرد إلا بعد محاكمته أمام محكمة قانونية.
رابعاً: ليس للملك أن يرغم أحداً على إيواء الجند ويعتبر ملتمس الحقوق الوثيقة الثانية في تاريخ الديمقراطية البريطانية.
حكم مطلق:
وعلى رغم توقيع شارل الأول لملتمس الحقوق فإنه ظل يجمع الضرائب بطريق غير قانونية ولم يحترم ملتمس الحقوق، واحتج النواب. ولما رأى شارل إصرارهم فض البرلمان ولمدة إحدى عشرة سنة ظل يحكم بدونه، وتعرف هذه الفترة بفترة الحكم المطلق. لكن النواب قاوموه وأعلنوا أن من يدفع ضرائب لم يقرها البرلمان يعتبر خائناً لوطنه، فاضطر الملك إلى القبص على زعمائهم وإلقائهم في غياهب السجون لامتناعهم عن الدفع، ومع ذلك لم يستسلموا؛ وكان من أشهرهم جون همبدن.
ومن أشهر الضرائب التي لجأ شارل الأول إلى فرضها في تلك الفترة ضريبة السفن وهي تعطينا فكرة عن مدى حاجة الملك إلى المال وعن مدى مقاومة الشعب له. كانت ضريبة السفن في أول أمرها عبارة عن بعض السفن تقدمها الموانئ ولكنه أمر أن تستبدل السفن بالنقود ثم عممهأن فبعد أن كانت قاصرة على الموانئ أمر الملك بجمعها من المدن الداخلية، ولكن النواب (أعضاء البرلمان المنحل) رفضوا الدفع وطلبوا من الناس أن يمتنعوا عن دفعها كذلك ففعلوا وقبض الملك على همبدن وأعوانه وسجنهم، فلم يلينوا ولم يضعفوا وذهب همبدن مثلاً للبطولة البريطانية.
وفي 1640 اشتدت حاجة الملك إلى المال بسبب حروبه مع اسكتلندا فاضطر إلى البرلمان للموافقة على الضرائب، ولكن البرلمان ناوأ الملك مما اضطره إلى فضه، ويعرف هذا البرلمان بالبرلمان القصير.
لكن الملك عجز عن تسيير دقة الحكم واضطر إلى دعوة برلمان آخر عرف باسم الطويل (1641 - 1653). اجتمع هذا البرلمان ووجه كل همه للقضاء على أعوان الملك، فقبض على لورد سترافورد ولو وأعدمهما ثم قبض على السلطة وألغى غرفة النجم وطلب أن يكون هو المتصرف في كل شيء؛ يعين الوزراء ويقيلهم وكذلك يعين قواد الجيش، ولكن الملك رفض قائلاً (إني لو منحتكم (النواب) ما تطلبون فلن أكون إلا ملكاً بالاسم.)
حاول الملك التخلص من النواب واسترداد سلطته فانتهز فرصة الخلاف بين أعضاء المجلس وذهب إلى دار البرلمان للقبض على زعماء المعارضة؛ ولكن المحاولة فشلت واندلعت نيران الثورة، وناصرت لندن أعضاء البرلمان، واضطر الملك إلى أن يهرب إلى شمال إنجلترا.
نظم الجمهوريون قواتهم بزعامة أليفر كرمويل وحاربوا الملك شارل الأول وهزموه في موقعتي ناسبي ومرستن مور ثم سلم نفسه للبرلمان فحاكمه وحكم عليه بالإعدام 1649 يقول جرين: (أثارت أنباء إعدام شارل الأول فزعاً ورعباً في جميع أنحاء أوربأن فطرد قيصر الروسيا وزير بريطانيا من بلاطه، وسحبت فرنسا سفيرها من لندن، وكانت هولندا أشد عداء للجمهورية التي قامت في بريطانيا.)
جمهورية:
بعد إعدام شارل الأول أعلنت الجمهورية في إنجلترا واختير كرومويل حامياً لهأن وكان من المنتظر أن تتوطد دعائم الديمقراطية في عهد الجمهورية، ولكن هذه الآمال تبددت وانتقلت السلطة إلى يد كرمويل وقد عرض عليه عرش إنجلترا فأبى وهكذا ضرب مثلاً في الإخلاص للمبدأ والبعد عن المنفعة الذاتية. وامتاز عهد الجمهورية أيضاً بسيادة التقشف والزهد. وظلت الجمهورية قائمة ما بقى كرمويل، فلما مات انتخب ابنه مكانه ولكنه كان ضعيفاً فثار عليه الشعب وطلب إلى شارل الثاني ابن شارل الأول العودة إلى إنجلترا ففعل وتولى العرش 1660 وبذلك كانت حياة الجمهورية في إنجلترا قصيرة 1649 - 1660 ويرجع ذلك إلى أن الشعب لم يكن ميالاً للجمهورية، وإلى أنه كان قد ألف النظام الملكي، وكذلك كانت الجمهورية قائمة على أكتاف كرمويل ورجال الجيش فلما مات كرومويل انتهت الجمهورية.
الملكة العائدة: 1660 - 1688
كان شارل الثاني من أحب ملوك إنجلترا إلى الشعب البريطاني، وهناك قول مشهور (إن شارل الأول كان رجلاً طيباً وملكاً سيئأن أما شارل الثاني فقد كان رجلاً سيئاً وملكاً طيباً.) عاد شارل إلى لندن من منفاه فكان أول أعماله دعوة البرلمان إلى الاجتماع وكان هذا البرلمان ملكاً أكثر من الملك.
وامتازت الفترة التي أعقبت عام 1660 بانتشار اللهو والمجون والترف كأن القوم كانوا ينتقمون للزهد والتقشف اللذين اضطروا إليهما زمن الجمهورية.
ورغم هذا كان شارل الثاني يؤمن بالحق الملكي المقدس ويقول (إن الملكية لا يتفق وجودها مع وجود هيئة سياسية تحاسبهأن لأن الملك الذي تنقض آراؤه ويحاسب وزراؤه ليس له من الملك إلا الاسم.) ولكنه كان بعيد النظر كثيراً التساهل ولذلك لم تقم ثورات دستورية في عهده.
وأحب أن أضرب لك مثلاً عن مدى تقيد شارل الثاني برغبات شعبه فأذكر لك أنه كان يدين بالعقيدة الكاثوليكية التي كان الشعب يكرههأن ومع ذلك ظل شارل يبطن حقيقة عقيدته الدينية حتى إذا جاءه الموت أعلن وهو يودع هذا العالم أنه قد عاش ومات وهو يؤمن بهذه العقيدة، مع أنه ظل طول حياته يظهر للشعب أنه يؤمن بمذهب كنيسة إنجلترا الأسقفي.
وقد امتاز عهد شارل الثاني ببدء ظهور الأحزاب السياسية في إنجلترأن إذ ظهر حزب التوري وحزب الهويج وقد تطورا فأصبحا حزبي الأحرار والمحافظين
ثورة: 1688
مات شارل الثاني وتولى بعده جيمس الثاني وكان كاثوليكياً متعصباً يؤمن بالحق الملكي المقدس ميالاً إلى التسامح مع الكاثوليك ولذلك كرهه الشعب والبرلمان، وقد أصدر لائحة التسامح الديني وأمر رجال الدين بتلاوتها في الكنائس ولكنهم امتنعوا فقدمهم إلى المحاكم ونكن حكم ببراءتهم.
وأخيراً كان الشعب يمني نفسه بأنه عند انقضاء أجل جيمس ستعتلي العرش ابنته ماري وكانت بروستانتية، ولكن في 1688 ولد له ولد من زوجته الكاثوليكية وبذلك صار وارثاً للعرش فلم يطق الشعب صبرأن وثار ضد جيمس واستدعى ماري وزوجها وليم أورنج من هولندا للحضور إلى إنجلترا لتولى العرش فقدما.
أرسل جيمس جيشاً ليحول بينهما وبين النزول في أرض إنجلترأن ولكن الجيش رفض أن يحارب الشعب وانضم إلى صفوفه في الترحيب بماري ووليم وأسقط في يد جيمس واضطر أن يغادر إنجلترا إلى فرنسا. وتعرف هذه الثورة بثورة 1688 المجيدة
بعد فرار جيمس اجتمع البرلمان وقرر أن عرش إنجلترا خال ودعا ماري ووليم لاعتلائه، وكان هذا معناه أن الملك مولى من قبل الشعب وبذلك سقطت نظرية التفويض الإلهي. بعد ذلك قدم البرلمان إلى الملكة وثيقة الثالثة في تاريخ الديمقراطية البريطانية وبمقتضاها تقرر.
أولاً: لا يعتلى عرش إنجلترا إلا من يؤمن بمذهبها الديني. (حرم العرش على الكاثوليك من أبناء جيمس).
ثانياً: ليس للملك أن يعطل القوانين التي يصدرها البرلمان أو أن يحتفظ بجيش أو أن يفرض ضرائب جديدة بدون موافقة البرلمان.
ثالثاً: أعضاء البرلمان أحرار في آرائهم ولا يحاسبون على أقوالهم داخل البرلمان وكذلك تقررت حرية الانتخاب للناخبين
وهكذا نرى أنه بعد نضال دام قرناً تقريباً تقررت المبادئ المعتدلة التي نادي بها أعضاء مجلس العموم فأصبحت الضرائب لا تفرض والقوانين لا توضع والجيش لا يدعى إلا بموافقة أعضاء البرلمان، كما تقرر أنه لا يجوز سجن فرد بمجرد صدور أمر ملكي، كما أنه لا يجوز أن تعطل القوانين بأوامر ملكية، وكذلك كفلت حرية المناقشة في البرلمان.
أبو الفتوح عطيفة
مدرس أول العلوم الاجتماعية بنود الثانوية