مجلة الرسالة/العدد 936/عقيدتي
→ الرعايا غير العبيد | مجلة الرسالة - العدد 936 عقيدتي [[مؤلف:|]] |
رِسَالَة الشِعْر ← |
بتاريخ: 11 - 06 - 1951 |
للفيلسوف الإنجليزي المعاصر برتر اند رسل
ترجمة الأديب عبد الجليل السيد حسن
مقدمة المؤلف:
حاولت في هذا الكتيب أن أقول ما أعتقده عن مكانة الإنسان في الكون ومدى إمكانياته على بلوغ الحياة السعيدة. ولقد عبرت عن مخاوفي في (إيكاروس) أما في الصفحات التالية فإني قد عبرت عن آمالي (والتناقض واضح بين الموقفين) ولكن الإنسان لم يحذق فن التنبؤ بالمستقبل إلا في علم الفلك. غير أننا نرى في الأمور الإنسانية: قوى تعمل على السعادة وقوى أخرى تعمل على الشقاء، ولا ندري لأيهما سيكون الظفر والغلبة.
فلكي نعمل بحكمة، علينا أن نكون حذرين من كليهما.
برتر اند رسل
الفصل الأول
الطبيعة والإنسان
إن الإنسان جزء من الطبيعة. وليس شيئاً يقارن بها، فأفكاره وحركاته الجسمية تخضع لنفس القانون الذي يفسر حركات النجوم والذرات، وإن العالم الطبيعي لضخم إذا قورن بالإنسان - بل وأضخم مما كان يظن أيام (دانتي) - ولكنه ليس في الضخامة التي كان يتصور عليها منذ مائة سنة، فإن كلا منها يعلو وينخفض ويكبر ويضؤل. ويبدو أن العلم آخذ في مشارفة النهاية. فالمظنون أن الكون ذو امتداد ممدود في الفضاء، وأن الضوء يستطيع أن يسير حوله في بضع مئات من ملايين السنين.
والمعروف أيضاً. أن المادة تتكون من (إلكترونات وبروتونات) ذات حجم محدود، منهما يوجد عدد محدود في العالم. ومن المحتمل أن لا تكون تغييراتهما مستمرة كما كان يظن، بل إنها تتقدم على دفعات، لا يمكن مطلقاً أن تكون أصغر عن حد أدنى من الدفعات. ويمكن إجمال هذه التغييرات بسهولة، في عدد صغير من مبادئ عامة، تحدد ماضي العالم ومستقبله، حين يعرف أي جزء ضئيل من تاريخه.
وهكذا يقترب العلم الطبيعي من المرحلة التي سوف يكمل عندها، وحينئذ لن يكون ذا أهمية؛ فحينما تعرف القوانين التي تتحكم في حركات الإلكترونات والبروتونات سيكون الباقي فقط عبارة عن جغرافيا - مجموعة حقائق معينة، تظهر توزيعاتها خلال جزء من تاريخ العالم. ومن المحتمل أن يكون العدد الجم من حقائق (الجغرافيا) المحتاج إليه تعيين تاريخ العالم محدوداً، ومن المستطاع كتابة كل ذلك نظرياً في كتاب ضخم، ليحفظ في بيت (سومرست) ويزود بآلة حاسبة ذات يد تدور، لتعين الطالب على أن يجد الحقائق في أي وقت آخر، بأكثر من هذه النصوص المكتوبة.
وإن لمن الصعوبة بمكان أن نتخيل شيئاً أقل أهمية أو أكثر اختلافاً من الابتهاج الشديد إزاء كشف غير تام، فذلك مثل الصعود إلى جبل شاهق، ثم لا تعثر إلا على مطعم يباع فيه شراب الزنجبيل ويحوطه الضباب، ولكنه مزود باللاسلكي، ولربما كان جدول الضرب مثيراً للعجب أيام أحمس!!
والإنسان جزء من هذا العالم الطبيعي - غير الرائع في ذاته وجسمه كأي مادة أخرى - يتكون من إلكترونات وبروتونات ويخضع تماماً لنفس القوانين، كما تخضع سائر الأشياء التي تدخل في عالم الحيوانات أو النباتات.
وهناك من يقولون: إن الفسيولوجيا: لا تحتاج إلى الطبيعيات، ولكن أداتهم على ذلك غير مقنعة، ومن الحكمة أن نفرض أنهم خاطئين.
ويبدو أن ما نسميه أفكارنا، تعتمد على نظام تلافيف المخ بالطريقة عينها التي تعتمد الأسفار بها على الطرق والسكك الحديدية. ويظهر أيضاً: أن الطاقة المستعملة في التفكير، لها أصل كيميائي - فمثلاً نقص اليود، يحول الرجل الذكي، إلى أبله - والظاهرة العقلية مرتبطة بالبناء المادي للمخ.
ولو كان هذا كذلك، لما استطعنا أن نفرض أن الإلكترون أو البروتون الفرد، يستطيع التفكير، كما لا يمكن أن نتوقع كذلك فرداً واحداً يلعب كرة القدم، ولا يستطيع أيضاً أن نفرض أن تفكير الإنسان يبقى في جسد ميت؛ لأن الموت يمزق نظام المخ ويبدد الطاقة التي تمد تلافيف المخ.
ووجود الله وفكرة الخلود وهما العقيدتان الرئيسيتان، في الديانة المسيحي، لا يجدان لهما أية دعامة من العلم، ولا يمكن القول أن كلا من العقيدتين ضروري للدين؛ لأن كليهما لا يوجد في البوذية (أما من ناحية الخلود، فإن هذه الحالة في إحدى صورها المبهمة، قد تقود إلى الخطأ، ولكنها صحيحة في التحليل الأخير) ولكننا في الشرق، تعودنا أن نفكر فيهما كألزم لوازم اللاهوت.
وليس هناك من شك في أن الناس سيستمرون في الاستمتاع بهذه العقائد، لأنها سارة، كما أنه من السار أن نعد أنفسنا فضلاء وأعداءنا أشراراً.
أما من جانبي فأنا لا أرى أي أساس لكليهما، ومع ذلك فأنا لا أدعي أن في طوقي أن أثبت أن ليس هناك من إله؛ أو أن أبرهن على أن الشيطان خرافة، فقد يوجد الإله المسيحي، وكذلك قد توجد الأولب، أو مصر القديمة أو البابليون؛ ولكن. . . ليس هناك واحد بين هذه الفروض، بأكثر احتمالاً من الآخر، فهي كلها توجد خارجاً، حتى عن دائرة العلم المحتمل، ومن ثم. . . فلا داعي هناك لكي نأخذ بأحدهما - ولن أتوسع في هذه المسألة، فقد عالجتها في مكان آخر.
إن مسألة الخلود الشخصي، تقوم على أساس مختلف نوعاً ما، فهنا يتضح أن كلا الطريقين ممكن، فالأشخاص جزء من العالم المادي الذي يتعلق به العلم، والحالات التي تحدد وجودهم معروفة، فقطرة من الماء ليست خالدة، فهي قد تتحلل إلى (أكسجين) و (هيدروجين) ولذلك إذا فرضنا: أن أية قطرة من الماء أصرت على أن لها خاصية من المائية، ستحفظ عليها تحللها فإنا أقرب إلى أن نكون شكاكاً مسفسطين.
وبمثل هذه الطريقة نعلم أن المخ غير خالد؛ وأن الطاقة المدبرة للجسم الحي تصبح كما كانت غير موجودة عند الموت، ومن ثمت، فليست جديرة بعمل جماعي، ولذلك كان من المعقول أن الحياة العقلية تتوقف حينما تتوقف الحياة الجسمية، وهذا دليل محتمل فقط، ولكنه في قوة الأدلة التي تبنى عليها معظم النتائج العلمية، وكل البراهين ترينا أن ما نعده حياتنا العقلية مرتبط ببناء المخ، وبالطاقة المدبرة للجسم، ومن المحتمل أن تهاجم هذه النتيجة بمقتضى أسس مختلفة، فالبحث الطبيعي يقر أن الحصول على برهان علمي صحيح لا يشك في حيثياته، عن البقاء أمر صحيح من الوجهة العلمية، وبرهان من هذا القبيل قد يكون من القوة بحيث أن أي إنسان ذي نزعة علمية لا يستطيع رفضه، ولكن أهمية الارتباط بالبرهان يجب أن تعتمد على السابقة المحتملة لفروض البقاء؛ فهناك طرق متباينة لتعليل أية مجموعة من الظواهر، ولكننا نفضل من بينها السالفة الأقل استحالة.
وهؤلاء الذين ظنوا احتمال الحياة بعد الموت، سيكونون متأهبين لقبول هذه النظرية كخير تعليل للظاهرة النفسية، وعلى العكس هؤلاء الذين ينظرون إلى هذه النظرية على أنها شيء غير معقول، سيبحثون عن تعاليل أخرى. . . أما من جانبي فأنا إلى الآن، أعتبر أن الحجة التي يقدمها البحث النفسي في صالح البقاء أو هي من الحجة الفسيولوجية في الجانب المقابل، ولكنني أعترف كل الاعتراف أن تلك الحجة قد تصبح في أي وقت أقوى منها الآن، وحينئذ سيكون من غير العلمي، أن لا يعتقد في البقاء ولكن بقاء الجسد بعد الموت أمر مغاير للخلود، فقد يعني ذلك تأجيلاً للموت الطبيعي فقط، ولكنه هو الخلود الذي ينشد الناس الاعتقاد فيه.
والمعقدون في الخلود، سوف يرفضون الأدلة الفسيولوجية التي استعملتها بحجة أن الروح والجسد شيئان منفصلان كلية، وأن الروح شيء مفارق تماماً لمظاهرها التجريبية خلال أعضائنا الجسمية، وأنا أعتقد أن هذا خرافة (ميتافيزيقية) فإن العقل والمادة، وهما في ذلك سواء عبارات مناسبة لمآرب معينة، وليست حقائق نهائية؛ فالإلكترونات والبروتونات مثل الروح أوهام منطقية، وكل منهما في الحقيقة عبارة عن سيرة وسلسلة من الحوادث، وليس ذات يد واحدة ثابتة. وهذا جلي في حالة الروح من بين حقائق النمو؛ فإن كل من أنعم النظر في الحبل والحمل والطفولة، لا يمكنه أن يعتقد جاداً: أن الروح شيء لا يتجزأ، وأنها كاملة تامة، خلال كل هذه الأطوار. ومن الجلي أنها تنمو كالجسم، وأنها تنشأ عن كل من الحيوان المنوي والبويضة، ولذلك لا يمكن اعتبار الروح غير قابلة للتجزئة، وليس هذا هو المذهب المادي، إنه فقط التسليم بأن كل شيء موضوع للتحضر، وليس لمادة أولية وقد قدم الميتافيزيقيون حججاً لا تحصى، ليثبتوا أن الروح يجب أن تكون خالدة، ولكن ها هو ذا اختبار بسيط يمكن هدم هذه الحجج به، فهم يثبتون جميعاً أن الروح يجب أن تكتنف وتتخلل كل الفراغ. . . ولكن بما أننا لسنا متلهفين على أن نعيش طويلاً، فإن أحداً من الميتافيزيقيين في هذه المسألة لم يلاحظ قط هذا الوضع لأداتهم، وهذا مثال من سلطان الرغبة العجيب الذي يغفل حتى الفطنين ويجرهم إلى الأغاليط التي كانت تتضح في الحال في أي وقت آخر وإني أعتقد أنه لو لم نكن وجلين من الموت لما ظهرت فكرة الخلود أبداً.
إن الخوف أساس العقيدة الدينية كما هو أساس الكثير من أمور الحياة الإنسانية، والخوف من الكائنات البشرية، أفراداً وجماعات، يسود كثيراً من حياتنا الاجتماعية، ولكن الخوف من الطبيعة هو الذي جعل مكاناً للدين. وتباين العقل والمادة كما قد رأينا، أمر وهمي تقريباً، ولكن هناك تباين أكثر أهمية - أعني بين الأشياء التي تتأثر برغباتنا، وتلك التي لا تتأثر بمثل ذلك. والحظ بين الاثنين ليس بالنشيط أو الخامد، فكلما يتقدم العلم، تدخل تحت يد الإنسان أشياء أكثر وأكثر.
ومع ذلك توجد أشياء قطعية في الجانب الآخر، وتقع بينهما كل الحقائق الكبرى في عالمنا، وهي حقائق من النوع الذي يدرسها علم الفلك، والحقائق التي فوق - أو قريبة - من سطح الأرض هي وحدها التي تستطيع - إلى مدى محدود - تشكيلها بحيث تلائم رغباتنا، وحتى على سطح الأرض قوانا محدودة جداً، فقبل كل شيء لا نستطيع أن نمنع الموت، وإن استطعنا تأخيره غالباً.
إن كان الدين لمحاولة التغلب على هذا التناقض. ولو أن العالم يدبره الله، ويمكن تحريك الله بالصلاة والدعاء، فإنا بذلك ننال حصة من القدرة المطلقة. وفي الأيام السالفة كانت تحدث المعجزات استجابة للدعاء، وما زالوا يفعلون ذلك إلى الآن في الكنيسة الكاثوليكية، ولكن البروتستانت قد فقدوا هذه القدرة، ومهما يكن من شيء فمن الممكن أن يستغني عن المعجزات لأن الله قد قضى بأن تنفيذ القوانين الطبيعية سيأتي بخير النتائج الممكنة، ومثل هذا الاعتقاد في الله ما زال يصلح لتهذيب عالم الطبيعة. وجعل الناس يشعرون بأن القوى الفسيولوجية هي في الواقع حليف طيب. وبمثل هذه الطريقة يزيل الخلود الخوف من الموت، فالناس الذين يعتقدون أنهم حين يموتون سيرثون النعيم الأبدي؛ ينتظر أن يواجهوا الموت دون ما فزع. ومع أن هذا لا يحدث بلا تغيير لحسن حظ رجال الطب، ومهما يكن فهو يهدئ من مخاوف الناس بعض الشيء، حتى حينما لا يلاشيها كلية.
إن الدين منذ كان مصدره الرعب، قد عزز بعض أنواع معينة من الخوف؛ وجعل الناس لا يعدونها مخزية، وهو بذلك قد قدم للإنسانية أعظم إساءة، فكل المخاوف سيئة، وينبغي التغلب عليها، ولكن ليس بأساطير العفاريت، بل بالشجاعة والتفكير المعقول. وأنا أعتقد أني حينما أموت سأتعفن، ولن يبق من ذاتي شيء. ولست حدث السن، ومع ذلك فأنا أهوى الحياة ولكني سوف أستخف بالارتعاد فرقا لفكرة الهلاك. والسعادة لم تبلغ حتى ولا أقل من درجة من السعادة الحق؛ لأنها لا بد أن تنتهي. ولكن الفكر والحب لا يفقدان قيمتهما لأنهما ليسا بخالدين. وكم من إنسان حمل نفسه إلى المشنقة فحورا، ومن المؤكد سيعلمنا مثل هذا الفخر أن نفكر بإمعان في مكانة الإنسان في العالم؛ حتى ولو جعلتنا أول الأمر نوافذ العلم المفتحة، نرتعد من بعد الدفء المريح داخل الأساطير الإنسانية التقليدية، وفي النهاية يأتي الهواء العليل بالنشاط، وللفضاءات العظيمة جلالها الخاص.
إن فلسفة الطبيعة شيء وفلسفة القيم شيء آخر. ولن يحدث إلا الضرر نتيجة الخلط بينهما، فما نعده حسناً وما نبغيه، لا علاقة له مطلقاً بما وهو، الذي هو مطلب الفلسفة الطبيعية. وفي الجهة المقابلة لا يستطاع منعنا تقدير هذا وذاك، على أساس أن العالم غير المتحضر لا يقدره، ولا يستطاع كذلك إجبارنا على الإعجاب بشيء لأنه قانون الطبيعة. ومن دون شك نحن جزء من الطبيعة التي خلقت رغباتنا وآمالنا ومخاوفنا بناء على القوانين التي يكتشفها العالم الطبيعي: وبهذا المعنى نحن جزء من الطبيعة، وفي فلسفة الطبيعة نحن شيء ثانوي بالنسبة للطبيعة، فنحن نتيجة للقوانين الطبيعية وضحاياها أخيراً يجب أن لا تكون فلسفة الطبيعة ترابية مهنية؛ لأن الأرض ليست إلاّ واحدة من أصغر سيارات أصغر نجوم المجرة، وأنها لمهزلة أن نطوي فلسفة الطبيعة لكي نأتي بنتائج تسر الطفيليين الصغار في هذا السيار الذي لا يؤبه له. والمذهب الحيوي كفلسفة، والتطوري، يظهر أن من هذه الجهة، الافتقار إلى معنى المطابقة النسبية والمنطقية؛ لأنهما يعتبران أن وقائع الحياة ذات الأهمية لنا شخصياً، كشيء له أهميته الكونية. وليست أهمية مقتصرة على سطح الأرض. ومذهب التفاؤل ومذهب التشاؤم كفلسفات كونية، يظهر نفس سذاجة المذهب الإنساني؛ والعالم العظيم بالقدر الذي نعلم ليس خيراً أو شراً وليس حريصاً على أن يجعلنا سعداء أو أشقياء. ومثل هذه الفلسفات تبعث عن الاهتمام بالذات، وتقوم خير تقويم بقليل من علم الفلك.
ولكن ينعكس الموقف في فلسفة القيم فالطبيعة ليست إلاّ جزءاً مما نقدر على تخيله، وكل شيء سواء كان حقيقياً أو متخيلاً أستطيع تقديره، مع أنه ليس هناك من مقياس خارجي نتبين به الصحة أو الخطأ في تقديرنا؛ لأننا أنفسنا الحكم النهائي الذي لا ينقض في أمر القيم. والطبيعة في عالم القيم ليست إلا جزءاً، وهكذا نحن أعظم في هذا العالم من الطبيعة. والطبيعة في ذاتها محايدة في عالم القيم، فليست بالخيرة أو الشريرة، ولا تستحق الإعجاب أو العذل، فنحن أنفسنا الذين خلقنا القيمة، ورغباتنا هي التي منحتها أهمية، ونحن ملوك في هذه المملكة؛ ونحط من قدرنا إذا حنينا الهام للطبيعة، فمن أجلنا تتحدد الحياة السعيدة، لا من أجل الطبيعة أو حتى من أجل الطبيعة تتمثله في الله.
للكلام صلة
عبد الجليل السيد حسن