مجلة الرسالة/العدد 935/الكتب
→ الأدب والفن في أسبوع | مجلة الرسالة - العدد 935 الكتب [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 04 - 06 - 1951 |
شباب وغانيات
تأليف الأستاذ محمود تيمور بك
للدكتور زكي المحاسني
في حياة كل أديب تطور. والأديب الذي يجثم على حال لا يريم عنها يكون صخري السجية، كأنه قد سمر بمكانه. وليس من صفات الحياة الجمود، وافضل ما يميز الأحياء الحركة والتطور. كذلك حقت هذه الحالة على الأديب وعلى أدبه فكان اجمل ما يميز واحداً من غيره دراستنا لمراحل هذا التطور في أدبه وشؤون تفكيره. ولو أتيح لكل أديب أن يسجل آثار العوامل التي غيرت مجراه؛ كما تغير أحداث الطبيعة مجارى الأنهار، وكما يبدل المواسم والفصول هبات الرياح، لأتى على ذكر أمور تغرى بالمعرفة، فيها غرابة وفيها ظرف كثير. لم يتعود ذلك أدباؤنا ليوفروا المؤونة على النقاد والباحثين. وكان خيرا لو فعلوا ذلك؛ فهم اعلم بمصائر شعورهم وسير نفوسهم بين الاماسي والإصباح وعلى أطراف الشهور والسنين.
وصديقنا القاص الكبير الأستاذ محمود تيمور بك قد خضع أدبه لهذا الميزان الاجتماعي والمقياس النفسي. وأنا أجد أدبه مواتياً لذلك في تطوره واتساع آفاقه. لقد بدأ أدبه مرسلا على السجية لا تأخذ لفظه وتعبيره عنجهية ولا كلفة وكانت قصصه تجتذب قارئها بمعانيها وبساطتها وكان القارئ يسلك إلى تلك المعاني عن طريق قصيرة قريبة، وان تكن طريقاً غير ممهدة الجنبات، ولا مفروشة الثرى، بالبلاط المنقوش.
وحين استوى الأستاذ تيمور بك على أمد من الشهرة في عالم الأدب المعاصر أخذت قصته بالتطور، فأطلقت العبارة جناحيها في قصصه، وصار قراؤه يضمون إعجابهم بفنه القصصي إلى إعجابهم بأسلوبه وأدائه. وهذه الطريقة من التعبير الحر الذي ينبغي أن يضمن للقصة تخليدها. وقديما قيل: ما خلد المرء مثل أسلوبه. وكان الجاحظ من هذا الفريق الذي يؤثر جمال اللفظ وحلاوة المعنى، بل كان يقول اكثر من ذلك في أن المعاني مطروحة بالطريق.
ذلك ما أراه من أثار التطور في أدب القاص تيمور بك في مرحلة أولى من مراحل تجديده. ثم حدثت آثار ثانية في قصصه تدعو إلى أن تعد مذهبا تجديدياً، أو تطورا أخر.
فلقد عرفناه في اكثر قصصه إذ سمت وقور، غير متخفف في اللفظ ولا في المعنى، يسوق الحوادث في تجوالها الاجتماعي فيصور الشخوص تصويرا رائعا، ويحلل المشاعر تحليلا دقيقاً. أخذ من البيسيكولوجي بنصيب كبير، لكنه لم يكن قبل هذا الكتاب الجديد الذي أخرجه للناس وسماه (شباب وغانيات) قد خاص في حوادث الغرام العنيف العارم.
كنت أقرا منذ سنين قصة آناكاريننين للشيخ تولستوي فأعجب للعنف في تصوير الغرام الآثم الذي يهدد الأسرة ويشتت شملها؛ ويرمي الزوجة في مطارح الرذيلة ومطاوي الخلاعة والعار، فلما قرأت قصص شباب وغانيات لتيمور بك قلت الآن أجد في شخوصه مثل ذلك الصخب النفسي الذي يصرخ فيه الهوى بصوت جاهز صراخ الذئاب النهمة التي يعلو عواؤها حين تعس في سواد الليالي.
كان سامي، وهو بطل القصة الكبيرة من هذه المجموعة القصصية، صفحة نقية، لكن القدر شاء أن يسطر فيها بمداد. الهوى سطورا فيها أثام وفيها نحول عنيف، فهو لم يسلم في صغره من المفاسد، فحاضنته أم تعلمه فنون الإغواء والإغراء. ثم نجد بطل القصة وهو سامي قد وقع في حبين. . واحد لفتاة كانت بنت ناظر في المدرسة الابتدائية التي كانت يتعلم فيها، وحب ثان وقع فيه لبنت امرأة سرية كانت تفد عليهم من استنبول بين الحين والحين. وتلتقي الفتاتان في بيته، وتكيد الغنية منهما للفقيرة.
وبعد ذلك تشتبك حوادث القصة اشتباكاً فيه تعقيد حينا وفيه أسجاح حينا آخر، حتى يطلع المؤلف على القاري بفجاءات هن من اجمل الفن القصصي التيموري. ما كان أبرا عه في أدائها، فإذا أخو سامي وهو الذي نشأه ورباه يتزوج الفتاة المترفة اللعوب التي كان يعشقها سامي ويغوص سامي في وحول من المساوئ الخليقة فيكون عشيقاً لزوجة أخيه. ثم يموت أخوه ويكر الزمن كرته ويتسفل سامي ويرتاد بيوتاً داعرة، فإذا هو ذات ليلة يرى في مخدع من مخادع تلك البيوت الدنيئة زوجة أخيه.
وها هنا وجه التطور الجديد في قصة تيمور، فإن هذا القاص قد عرف أن الأجيال آلاتية والمعاصرة ستحاسبه على قصصه، وسيقول له قائلوها الناقدون الذين لا يشفقون، انه أهمل العنف في الحوادث الاجتماعية والغرامية وهي تقع في الوجود، بل تكاد تكون مسارح زمنا وألاعيبه، فأراد أن يدخل بقصصه في هذه الزاوية. وهو تطور حديث المرحلة في القصة التيمورية.
واستطاع تيمور بك في مجموعة قصصه كلها - منذ كتب القصة - أن يصور الطبقة لا يزال الأرستقراطية لأنه قد عرفها وعاشرها وعايشها، وهذه الطبقة لا يزال الفن يطالبه في تحليل أغوارها وأسرارها. أما الطبقات التي دون ذلك فلا يخلو أدب القصة عند تيمور بك من تصوير معايشها وما يلقي البؤساء فيها من ضروب الحرمان. ويعوزه هاهنا تصوير اعمق وجلاء اكثر. فلقد سألوا الشاعر القاص المعاصر فرنسيس كاركو كيف استطعت أن تصور المباءات الشقية المعوزة التي يصهرها الفقر كما تصهر النار ذوب الحديد؟ فقال:
إني عشت فيها طويلا وتمرغت في حمأتها الوبئة.
وقد آخذ على عميد القصة المعاصرة انه ليس ذا نزعة فلسفية خاصة، أو أراء معروفة بعينها يبثها خلال قصصه فيحملها شخوصه.
لقد كان دوستويفسكي يحمل شخوصه آراءه. وفعل ذلك اناطول فرانس، وبورجيه، وشارل موراس. ويفعل هذا كثير من القصصيين المعاصرين وقد سمعت كثيرا من آراء دوهاميل في كلام شخوص رواياته، وبد لي تحليل نفسه خلال أبطاله. وهذا يعود إلى طبيعة المؤلف وحالته من هدوء يلازمه أو إعصار يهيجه.
ورائد القصة المعاصرة تيمور بك في قصته الأخيرة شبابا وغانيات داخل زاوية جديدة في فنه إذ ادخل لونا عنيفا على قصصه. وسيأتي دهر ينظر فيه القارئون أدبنا المعاصر ويؤثرون يوم ذاك التصريح على التلميح، والنقد على التفريط. وجدير بنا ألا نترك لهم مجال القول فينا ذا سعة؛ لأنه بأيدينا تصوير الوجود على ما هو موجود دون غلو وتقصير. ومن حق القراء على الأدباء ألا يقصروا من أجلهم في تعمق الأمور وجلاء الصور. كما يكون من شأنهم أيضا أن يستخلصوا من أبطال الرواية آراء المؤلفين.
هذه كلمة في ثمرة واحدة من شجرة طيبة خيرة. وتيمور بك جواد في التأليف، خير بالقصص، يتمنى النقاد والكاتبون لو ينالوا آثاره كلها بالدرس والتحليل. فإنه لا تشفى الغليل حسوة من ماء عذب فرات، ولا إطلالة واحدة على روض جميل وما كان أدب تيمور إلا النهر العذب والبستان الخير الريان.
القاهرة
زكي المحاسني
القسم الأول من كتاب الملل والنحل
تحقيق وتعليق الأستاذ محمد فتح الله بدرا
للأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي
ظهر هذا الكتاب القيم، أو على الأصح القسم الأول منه في 672صفحة من الحجم الكبير بتحقيق وشرح وتعليق الأستاذ الجليل الشيخ محمد فتح الله بدران الأستاذ بكلية أصول الدين بالأزهر الشريف.
وقد عكف الأستاذ بدران نحو عشر سنين على كتاب الملل والنحل للأمام الشهرستاني المتوفى علم 548هـ - 1153م دراسة وبحثاً وتحقيقاً، وهذا القسم هو أول ثمرة لهذا المجهود العلمي المشرف الطويل، وسيليه الأقسام الثلاثة الباقية المكملة للكتاب بتعليق الأستاذ بدران، حيث حقق نصوص الكتاب، وعرض أصوله وابتكر فهارسه، وانفرد بتقسيمه، ومهد لتخرجه، وعلق عليه وحلل الكتاب وترجم لمؤلفه.
ومما يضاعف من قيمة من قيمة هذا العمل العلمي القوي المشرف إن الناشر نشر مقاله زردشت في المبادئ التي سقطت من شتى طبعات الكتاب وترجماته ومن الكثير من مخطوطاته أيضا، وانه نشر مقدمة الكتاب التي قدم المؤلف بها كتابه للوزير نصر الدين، وقد سقطت كذلك من طبعات الكتاب المتعددة. . هذا فضلا عن تقسيمه الكتاب تقسيما علميا منظما، وعنايته الكبيرة به في النشر والإخراج.
إن هذه الخدمة الجليلة لكتاب (الملل والنحل) لتدل على مواهب أصيلة، واطلاع عميق، ودراسات واسعة، وفضل كثير، وهي لون من ألوان كفاح العلماء في سبيل الثقافة الإسلامية وأحياء أثارها فحيا الله الأستاذ بدران وبارك هذا المجهود الحافل.
محمد عبد المنعم خفاجي