الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 929/الحاج خواجة كمال الدين

مجلة الرسالة/العدد 929/الحاج خواجة كمال الدين

بتاريخ: 23 - 04 - 1951


(1870 - 1932)

للأستاذ أرسلان بوهدانو وكز

بقلم الأستاذ علي محمد سرطاوي

(الأستاذ أرسلان بوهدانو وكز كاتب هذا المقال الرائع، مسلم بولندي، قد تخصص في التاريخ الإسلامي، وهو مؤرخ نابه، وكاتب ذائع الصيت. . . نشره في عدد ديسمبر سنة 1949 في مجلة إسلامك ريفيو بمناسبة مرور 18 عاما على وفاة خواجا كمال الدين، ترجمناه لقراء الرسالة الغراء بمناسبة سماح الجمعية الإسلامية في وكنج - لندن - لنا بترجمة كتاب خواجه كمال الدين (النبي المثالي) إلى اللغة العربية، وكذلك كتابيه الآخرين (مصادر الديانة المسيحية) و (لماذا اختار الإسلام دينا).

ومجلة الرسالة المجاهدة في خدمة الإسلام أحرى المجلات، بأن يتلاقي القراء على صفحاتها ببطل من أبطال الإسلام الخالدين، الذين تنحى أمام بطولتهم وأعمالهم الخالدة الرؤوس).

ع. م. سرطاوي

قال الخواجه كمال الدين في تعليقه على شرح بعض آي الذكر الحكيم:

(الحب الصحيح يبدو في شعور الإنسان وأعماله التي تنير ما حوله من ظلام، وتدفعه إلى التحليق في آفاق الخير بكل ما يستطيع من عزيمة).

وهذا التعليق يصدق إلى حد بعيد على ما قام به من أعمال، وعلى ما يحمل له الناس في قلوبهم من إكبار عميق، في الحدود الضيقة التي تستطيع لغة الإنسان المحدودة التعبير فيها عن أروع ما في الحياة الإنسانية من جمال وسمو بعيد. . . ولكم يجد من المصاعب إنسان ضعيف مثلي، وهو في سبيل التحدث عن أعمال وحياة عبقري، لم حياته حياة الآخرين؛ ولكنني وأنا أقتحم هذا المسلك الوعر، لا يدفعني إلى ذلك واجب الوفاء لذكراه فحسب، ولكن لأملئ جوانب نفسي بالإيمان، وأنا أصف حياة إنسان كان المثل الرائع لما يجب أن يكون عليه كل مسلم. ولكنني وأنا أتحدث عن ذكرى المؤمن الذي أسس في عاص الإنجليز مسجد (وكنج) ومجلة (إسلامك ريفيو) أتطلع إلى اليوم الذي ينهض لمثل هذا العمل الجليل من هو خير مني وأقدر على تصوير هذه الحياة وأعماله الباهرة التي ألقى على أكتافنا عبء الاستمرار فيها، تلك الأعمال التي نهضت بديننا الحنيف الذي يهدف لخير الإنسانية.

حياته:

ولد الحاج خواجة كمال الدين سنة 1870 في البنجاب، من أسرة كشميرية ذات مكانة في المجتمع الهندي؛ اشتهر ماضيها بخدمة الإسلام. كان جده عبد الراشد شاعرا مشهورا، جلس على منصة القضاء لإسلامي في مدينة لاهور رئيسا للقضاء أثناء حكم السيخ، وكان أخوه الأكبر خواجا جمال الدين المسؤول عن نشر التعليم بين المسلمين في كشمير وإمارة جامو؛ لذلك نستطيع أن نعزو إلى الوراثة من أسرته، أقباسا من تلك العزيمة الجبارة التي جعلته داعيا لا يشق له غبار في خدمة الإسلام.

وابتدأ تعليمه في كلية (فورمان) المسيحية في لاهور، وإلى هذه الكلية تعزي معرفته العميقة بأسرار الديانة المسيحية، وأدق التفاصيل في الكتاب المقدس، وكان لهذا الاطلاع العميق أثره المباشر في التغلب على رجال الدين من المسيحيين في المناظرات العامة التي كانت تقام بينه وبينهم في لندن. وحصل على درجته الجامعية (ب. ع.) عام 1895، وتسلم وسام جامعة البنجاب في العلوم الاقتصادية، وهذا النجاح مهد إليه الطريق لكرسي الأستاذية في التاريخ والاقتصاد في الكلية الإسلامية في لاهور، وبقى هناك أربع سنوات أصبح في نهايتها مديرا لهذه الكلية. وبعد حصوله على بكالوريوس الحقوق عام 1898 اشتغل محاميا ناجحا في بشاور مدة سنوات ست، وعاد عام 1903 إلى لاهور حيث أصبح من المحامين الممتازين في محكمة البنجاب العليا، كان فيها موضع احترام القضاة والناس بلا استثناء، وبقى في لاهور حتى شد الرحال إلى بلاد الإنجليز عام 1912.

وفي بداية هذه الفترة من حياته الأخيرة في لاهور، أخذ يحس إحساسا عميقا بالهوة التي ينحدر إليها الإسلام تدريجيا من الانحلال والتراخي، ولهذا السبب راح يستعمل ما عنده من أوقات الفراغ فيطوف في أرجاء الهند ملقيا المحاضرات عن الإسلام. ولم يمض على عمله هذا غير وقت قصير حتى اعترفت الجامعة الإسلامية في إليجات أداه للإسلام من خدمات فقررت منحه عضويتها، وأصبح في نفس الوقت أحد أمناء مجلسها العلمي.

السفر إلى الشرق:

كان في قمة النجاح عام 1912، وكان ذلك النجاح يبشر بمستقبل باهر عظيم، ولكنه وهو في رأس تلك القمة، استمع إلى نداء يدوي في أعماق شعوره، فلبى النداء، وأشاح بوجهه عن الذهب الذي كان يتساقط على أقدام مجده في بلاد الهند، وأقبل على طريق مملوء بالأشواك وعلى مستقبل غامض لليقصر ما بقي له من تلك الحياة على خدمة الإسلام. ولكي يستطيع القيام بذلك على أحسن وجه اختار طريقا موحشا لا أنيس فيه، فبدلا من البقاء بين مواطنيه، قرر أن يغترب مدافعا عن قضية الإسلام في المكان الذي كان يتلاعب بمقدرات العالم الإسلامي يصرفها كما يريد. . . قرر أن يذهب إلى أوربا واختار مدينة لندن مركزا دائما لذلك النشاط الذي تكاد تطل عليه أطياف عابسة منه من وراء آفاق الغيب.

إن المؤرخين الذين كتبوا عنه بعد وفاته عام 1932، والذين كان ينقصهم التعمق في الدرس ليصلوا إلى الحقائق المجردة من التاريخ، لم يعطوا هذا القرار ما يستحقه من تقدير، ولكننا ونحن في نهاية سنة 1949، وقد حصل كل قطر إسلامي تقريبا على استقلاله السياسي، ولا سيما في الهند، تستطيع أن ندرك خطورة ذلك القرار بإعلان الجهاد عن طريق الدعوة إلى مبادئ الإسلام، وأن نعطيه ما يستحقه من أصالة رأي وعبقرية فذة، ولعله كان إلهاما من الله ليتم على يده المعجزة في بلاد الإنجليز. ولكي ندرك تمام الإدراك أخطر هذا القرار علينا أن نعرف ماذا كان يعني عام 1912 في تاريخ الإسلام والمسلمين.

أفاق العالم الإسلامي مظلمة عام 1912

تعتبر سنة 1912 ابتداء ذلك العصر المظلم في تاريخ الإسلام الذي انتهى عام 1918 بالقضاء على استقلال آخر دولة إسلامية هي تركيا؛ فإن هذه الدولة بعد خسارتها طرابلس آخر أملاكها في أفريقيا سنة 1910، كانت على وشك خسارة مماثلة في أوربا عام 1912 نتيجة مباشرة لحرب البلقان الدامية. فإذا أضفنا إلى ذلك قيام حركة وطنية، في تلك الآونة، أخذت تمكن لنفسها في تركيا، مندفعة وراء مبادئ مخالفة لتعاليم الإسلام، استطاعت هذه التعاليم بعد سنوات عشر أن تبعد تركيا عن زعامة العالم الإسلامي، أدركنا تمام الإدراك التيارات العتيقة التي كانت تبعث بفلك العالم الإسلامي والمسلمين في ذلك الوقت.

إن قرار خواجة كمال الدين في الدعوة إلى الإسلام في أوربا يبدو محيرا غريبا لأولئك الذين لا تدرك بصائرهم وراء مظاهر الأشياء والحوادث، ولذلك لا يبدو محيرا ما جره عمله الجريء هذا عليه من عداء أولئك الذين في قلوبهم مرض، وأولئك الذين يريدون خدمة الإسلام بأضعف الإيمان، وبأقل من ذلك، بأمور ووسائل لا تتجاوز الصلاة وجلب المنافع لأنفسهم عن طريق هذا الدين.

والآن، وبعد مرور سبعة وثلاثين عاما، والإسلام يحتل المركز اللائق به في شؤون العالم السياسية، أصبح من اليسير الحكم على صواب ما رأى وما عمل خواجة كمال الدين. ومن المحقق أن عظمته الحقيقية ما كانت لتبدو على فطرتها لو لم يتخذ مثل هذا التصميم في خدمة الإسلام. ومن حسن الحظ أنه لم يكن من ذلك الطراز الذي يجري وراء الحوادث، وإنما كان من ذلك النوع الذي تجري الحوادث لاهثة متعبة وراء قدميه. لقد استبق معاصريه بخطواته الجبارة، فكان الفذ الذي لا يجارى، والسباق الذي لا يشق له غبار، والبطل الذي تزيل إرادته الجبال، فاضطلع بتلك الأعمال الخطيرة ورسم المستقبل واضحا لغاية كريمة واضحة.

والواقع أن العالم الإسلامي عام 1912 كان في حاجة ماسة إلى تقوية نفوذه في أوربا مركز الاستعمار، الذي كان يتوقف عليها مصيره، وبعبارة أخرى كان هذا العالم في حاجة إلى سفير في تلك القارة لا يمثل أمة أو بلدا من بلاد الإسلام، وإنما يمثل ما في روح الإسلام من مثل إنسانية رائعة لا يعزفها الناس هناك. ويحسن ونحن نتحدث عن أوربا أن نذكر كيف كان الناس هناك ينظرون إلى الإسلام والمسلمون. ولكي يأخذ الإسلام المكانة اللائقة به، لم يكن هنالك مناص من إثارة عظمة الإسلام وأمجاده في نفوس المسلمين أولا، وأن يؤمن أولئك المسلمون الذين امتلأت ضمائرهم وقلوبهم بمركب النقص، من جبروت الاستعمار وظلم المستعمرين وفقدان الكيان السياسي، بأنفسهم إيمانا صحيحا صادقا. وفي سبيل الوصول إلى هذا الهدف كانت هنالك ضرورة ملحة تتعلق بشباب المسلمين الذين هرعوا في القرن العشرين إلى جامعات الغرب يتلمذون على الحضارة الغربية، والذين راحوا تحت تأثير هذه الحضارة يتحللون من كل ما يفرضه عليهم الدين الإسلامي من واجبات وما ينهاهم عنه من محرمات. لذلك كان من الضروري مقاومة هذه الأمور الخطيرة في المكان الذي تنتشر منه، وباللغة التي تنتشر بها، وأصبح من الضروريأيضاً أن يفهم الشباب المسلمون الخطر الذي يتواري وراء مادية الغرب والتطور الصناعي الجارف، والميل إلى التحلل من كل ما يمت للإنسانية بصلة، وما ربحته في جهادها الطويل، والمثل الروحية التي أدى الإسلام دورا خطيرا في بثها وإشاعتها في الوجود وأخيرا أصبح من الضروري أن يقام في أوربا الغربية مركز يجتمع فيه المسلمون للصلاة دون أن تحول بينهم الفوارق القومية أو الطائفية.

وإذا كان اتخاذ قرار خطير يتطلب شجاعة عظيمة، فإن تنفيذ مثل هذا القرار يتطلب صفات أخرى لا تقل أهمية عن اتخاذ القرار نفسه، قلما وجدت مجتمعة في شخص واحد، يجيد الخطابة والكتابة، والتنظيم، والاقتناع، ذي جلد على العمل الذي يحطم الأعصاب، وأن تسند كل ذلك ثقافة عميقة شاملة، واطلاع واسع المدى. ولكن إرادة الله شاءت أن تجتمع هذه الصفات في خواجة كمال الدين. لقد كان، رحمه الله، فارسا من فرسان البيان، ولسانا من ألسنة الحق، ومنقطع النظير في البلاغة وقوة الحجة والاقتناع، ولقد ترك من الآثار الأدبية تراثاً رائعاً عظيماً سيأتي الحديث عن بعضه في مكانه من هذا المقال.

لقد كان الطريق إلى النجاح الذي وصل إليه في أوربا مملوءا بالأشواك، ولكنه لم يبال بكل ذلك، ولم يكتف بالوصول إلى درجة لا تبلغ في عمقها وشمولها من الثقافة الإنجليزية، واللغة التي تحمل هذه الثقافة، وإنما هضم الفلسفة الأوربية هضما لم يتيسر لإنسان قبله، فكان يحاضر أرقى الطبقات في أعقد مشاكل الفلسفة الألمانية في سهولة ويسر وبراعة لا يشق لها غبار.

أما قدرته على العمل فكانت شيئا لا تحتمله الطبيعة البشرية، وأدى ذلك الإجهاد إلى موته في غير أوانه. وإذا قيس العمل بالنتائج كان عمله معجزة من أثاره قدرة الله. وعلى الرغم من وصوله القمة في ذلك النجاح، لم ينقطع عن مواصلة السعي في خدمة الإسلام، حتى في سنواته الأخيرة التي قضاها محطم الأعصاب، خائر القوى. ولقد مات، رحمه الله، وجزاه عن الإسلام خير الجزاء وهو يكتب تعليقا على بعض سور لتنشر في العدد التالي من المجلة التي أسسها، مجلة إسلامك ريفيو.

أما مقدرته الخطابية فتبدو جلية في سيطرته على الجماهير المثقفة من الإنجليز نسوا الساعات الطويلة وهو يتحدث عن الإسلام وكأنها مسحورة، تحملها نشوة جارفة إلى آفاق من الحق والخير.

ولما وصل إلى لندن، استقر به المقام، بادئ ذي بدء، في (ريشموند) وبدأ في الحال يلقي المحاضرات، والخطب، ويشترك في اجتماعات الجمعيات اللاهوئية الإنجليزية، وينشر المقالات في الصحف والمجلات، وما لبث أن احتل مركزا ممتازا بين رجال اللاهوت في العاصمة البريطانية. وقبل أن تواتيه الظروف لتحقيق هدفه العظيم في نشر الإسلام في بريطانيا، مدت العناية الإلهية يدها إليه في تلك الوحدة، فعلم بوجود مسجد في ضاحية (وكنج) وقد استطاع الاستيلاء عليه في الحال، فكانت هذه الحادثة بداية الطريق إلى نجاحه العظيم.

للكلام صلة.

علي محمد سرطاوي