4 - الفارابي مجلة الرسالة/العدد 929/الفارابي في العالم الإسلامي وفي أوربا بمناسبة مرور ألف عام على وفاته للأستاذ ضياء الدخيلي هذا ما نقله في كتابه الدكتور توفيق الطويل مدرس الفلسفة بكلية الآداب بجامعة فاروق الأول ولكني قرأت في مفتاح السعادة (ج1ص259) ثناء عاطرا على الفارابي إذ قال المولى أحمد بن مصطفى المعروف بطاش كبرى زاده (ومن جملة أساتذة الحكمة الفارابي الحكيم المشهور صاحب التصانيف في المنطق والحكمة وغيرهما من العلوم وهو أكبر فلاسفة الإسلاميين لم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه، وتخرج أبن سينا بكتبه وبعلومه، وانتفع في تصانيفه. وعدد مصنفاته من الكتب والرسائل سبعون كلها نافعة ولا سيما كتابان في العلم الإلهي والمدني لا نظير لهما، أحدهما المعروف (بالسياسة المدنية) والآخر (بالسيرة الفاضلة) وصنف كتابا شريفا في إحصاء العلوم والتعريف بأعراضها لم يسبق إليه أحد، ولا ذهب أحد مذهبه ولا يستغني أحد من طلاب العلم، وكذا كتابه في (أغراض أفلاطون وأرسطو) اطلع فيه على أسرار العلوم وثمارها علما أن وبين كيف التدرج من بعضها إلى بعض شيئا فشيئا، ثم بدأ بفلسفة أفلاطون يعرف بغرضه منها ثم أتبع ذلك بفلسفة أرسطو ووصف أغراضه في تواليفه المنطقية والطبيعية فلا أعلم كتابا أجدى على طالب الفلسفة منه) فأين هذا المديح من ذلك التهجم القبيح، وكيف اجتمع النقيضان في صعيد واحد. .؟ ولقد أمسى هذا الفيلسوف هدفا للمؤلفين في كل العصور؛ فلئن انتقده القدامى لفساد عقيدته واختلالها (كما يرون) فإن المتأخرين الذين لم يتطبعوا على فهم لغة القدماء الصعبة المسالك الغامضة الأغراض على أبناء العصر الحديث - لم يمنعهم التريث عن التحامل عليه رحمه الله، فقد أخذ المتأخرون يطعنون في أسلوب الفارابي ويلحقون به مسبة الغموض والاضطراب، وإذا كان بعض هؤلاء النقاد لا يسلم إهابه من وخز البيت القائل: وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم فإن الباقين ممن نجل مكانتهم ونعلي شأنهم. ولكني في الحقيقة كيف يدعي الكتاب المحدثون فهم كتب أبن سينا والفارابي بلغتها واصطلاحاتها المهجورة؟ وقد كنا معذبين من شيوخ أساتذتنا في النجف الأشرف فكانوا يقفون عند كل كلمة وينشرون لنا ما فيها من بطون وما علق عليها أصحاب الحواشي والشارحون فإذا عثروا بكلمة (فتأمل) وقفوا عندها وأطالوا البحث شارحين وجه التأمل وقد كان له (فإن قلت قلنا) ميدان واسع يجول في مجاله فرس الشيخ الوقور ويصول، فمن أفهم شباب العصر أسرار (فتأمل) ومن غاص بهم في أعماق العبارات؟ وهل تقوى عيونهم على قراءة الحواشي الدقيقة الخطوط المتعرجة وهي على الأخص في مطبوعات إيران ذات أشكال غريبة؛ فمنها ما نضد ونظم على شكل (الباذنجان) ومنه ما جاء على شكل (أوراق الورد) أما الخطوط فما غرب تعليقات لدارسين فيها فهي تتلوى بين السطور كالأفاعي، فكيف فهم العصريون تلك الكتب الغامضة التي أظن أن المتنبي قصدها بقوله: ملاعب جنة لو سار فيها ... سليمان لسار بترجمان فكيف فهم الأستاذ إسماعيل مظهر (أسفار ملا صدرا) حتى أخذ يحدثنا في كتابه (ملقى السبيل) عن أحيلة الملا صدر الدين الشيرازي وأوهامه في أسفاره ونحن في النجف الأشرف لا نقرأ كتاب الأسفار إلا بعد أن يدرس الطالب علم المنطق بكتبه القديمة مثل حاشية الملا عبد الله على منطق التهذيب، وشرح الشمسية، وشرح المطالع، وشرح منظومة الشيخ هادي شليله، وشرح منطق إشارات ابن سينا، ثم يقرأ في علم الكلام شرح التجريد والأصل لنصير الدين الطوسي والشرح لتلميذه العلامة الحلي أو شرح الملا علي القوشجي عليه، ويدرس في الفلسفة شرح إشارات ابن سينا لنصير الدين الطوسي وردوده على (الفاضل الشارح) فخر الدين الرازي مدافعا عن الشيخ الرئيس و (محاكمات الداماد) الذي أقام نفسه حكما يفصل بين الشارحين، ويدرس شرح منظومة السنرواري في الحكمة، ويدرس الشفاء لابن سينا ثم يدرس بعد كل هذا أسفار الملا صدر الدين الشيرازي، ونسيت عد الشوارق للملا عبد الرزاق اللاهجي في الكلام. ولأغرب من هؤلاء المدعين فهم تلك الكتب الصفراء - ادعاءات المستشرقين الأجانب فهمهم تلك الكتب الوعرة المسالك وكنا لا نتورط في مجاهلها إلا بدلالة من أساتذة بارعين نشأوا وشبوا وشابوا على خوض غمارها فكيف تسنى لأمثال (دي بوير) الهولندي أن يفهم مذاهب فلاسفة الإسلام؟ وكيف تهيأ ذلك وتيسر لجيوم الإنجليزي ونلينو الإيطالي؟ وكيف ترجم أسلافهم هذه الكتب إلى اللغات الأوربية؟ إني أكاد أجزم بفساد تلك التراجم وشيوع الأغلاط فيها. وبعد هذا ألا يحق لنا أن نعذر المرحوم الأستاذ مصطفى عبد الرزاق على وصفه الفارابي في ما كتبه بالغموض والاضطراب إذ قال في كتابه (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية) وبعد الكندي أبونصر الفارابي المعلم الثاني المتوفى سنة 335هـ (والمعروف أن سنة وفاته 329هـ) فعرض لتجديد معنى الفلسفة وعرض للإحاطة بأقسامها وذكر الغاية منها والفرق بين الدين والفلسفة في بيان أفصح وأبسط لكنه فرق هذه الأبحاث في مواضع من كتبه لمناسبات، ولم يعمد إلى جمعها في نسق ولم تخل أقواله على بسطها من اضطراب وغموض في بعض الأحايين). ولكن أبن العبرى المتوفى سنة 385هـ وكان قد عاصر وعاشر نصير الدين الطوسي في مراغة قال في تاريخه (مختصر الدول) يثني على أسلوب الفارابي ويصفه بلطف الإشارة وصحة العبارة إذ ذكر (أن الفارابي استوطن بغداد وقرأ بها العلم الحكمي على يوحنا بن حيلان المتوفى في أيام المقتدر واستفاد منه وبرز في ذلك على أقرانه وأربى عليهم في التحقيق وأظهر الغوامض المنطقية وكشف سرها وقرب متناولها وجمع ما يحتاج إليه منها في كتب صحيحة العبارة لطيفة الإشارة منبهة على ما أعفله الكندي وغيره من صناعة التحليل وإنحاء التعاليم فجاءت كتبه المنطقية والطبيعية والإلهية والسياسية - الغاية الكافية والنهاية الفاضلة) فترى ابن العبري لا يجد الغموض والاضطراب الذين وصم أقوال الفارابي بهما صاحب كتاب (لتمهيد لتاريخ الفلسفة) ولعل العلة من صنع الزمن؛ فإن ابن العبري من أبناء القرن السابع الهجري ولغة كتب الفارابي (المعقدة) لغة عصره العلمية - تقريباً لتشابه العصرين في لغة التأليف. والحق أنك لتجد كتب المؤرخين طافحة بالإعجاب بفضل الفارابي والإعلاء من مكانته ولئن كان إطراء بعض هؤلاء عديم القيمة لجهله الفلسفة فهو بلا ريب مرآة لآراء العارفين. قال ابن الأثير المتوفى سنة 630هـ (وفيها توفى أبو نصر الفارابي الحكيم الفيلسوف صاحب التصانيف فيها وهذا الشيخ زين الدين عمر بن الوردي من القرن الثاني الهجري يقول في تاريخه عن الفارابي وألف في بغداد معظم تصانيفه ثم دخل مصر ثم دمشق وأقام بها أيام سيف الدولة بن حمدان فأكرمه وكان على زي الأتراك، وحضر يوما بدمشق عند سيف الدولة وعنده فضلاؤها فما زال كلام الفارابي يعلو وكلامهم يسفل حتى صمتوا ثم أخذوا يكتبون ما يقول وقد نقل قصة دخوله على سيف الدولة هذه وكيف أن العلماء أخذوا يتلقفون فرائد كلماته ويسجلونها في دفاترهم أبو فداء المتوفى سنة 732هـ ولعل هذه الأقصوصة المتواضعة هي أصل تلك القصة الفضفاضة التي تنسب للفارابي البراعة الخارقة في الموسيقى التي استطاع أن يلعب بها بسيف الدولة وندمائه من إضحاك وإبكاء وترقيد، كل ذلك بسحر الموسيقى. ولعل تلك القصة تتحدث عن موقعة ثانية فقد جعل القصاص مسرحها حلب وهذه وقعت في دمشق. ويختصر ابن تغري بردي الأتابكي في النجوم الزاهرة ويلخص إجلاله للفارابي بأن يقول. . وأبو نصر الفارابي صاحب الفلسفة ويحق لأبي نصر أن تعزى إليه الفلسفة فهو من أول بناتها في دنيا الإسلام أما صلاح الدين بن أيبك الصفدي فيقول عنه في الوافي بالوفيات. أبو نصر التركي الفارابي الحكيم فيلسوف الإسلام. وتلاحظ أن المؤرخين تسالموا تقريبا على أنه تركي غير عربي وإن كان من تلاميذ المدرسة العربية في الفلسفة. وقد جرت تركيته الشعوبيين أن يجدوا فجوة وثغرة لغمز القومية العربية، قال الأستاذ العقاد في كتابه عن (أثر العرب في الحضارة الأوربية) (وقد أتخذ الشعوبيون من كون الفارابي وابن سينا من غير العرب - ذريعة للطعن في الذهنية العربية، وأن من ضروب التجني التي لا تحمد من العلماء أن يقال إن العقل العربي لن يستطيع التفلسف بحال من الأحواللأن الفارابي وأبن سينا كانا من سلالة فارسية (كذا) على أشهر الأقوال ولم يكونا من سلالة عربية أو سامية كأنما كانت للفرس قبل ذلك فلسفة فارسية أو كان لهم عذر كعذر العرب في هجر البحوث الفلسفية طوال العهود التي مرت بهم في الحضارة والعمران؟. . على أن الكندي عربي أصيل وفلاسفة الأندلس كانوا من العرب الخ. ونؤاخذ الأستاذ العقاد على اعتباره الفارابي فارسيا وهو تركي وكم من البون الشاسع بين القوميتين؟ ويقول عنه جرجي زيدان في تاريخآداب اللغة العربية (ج2ص213) وكان فيلسوفا كاملا درس كل ما درسه من العلوم وفاق في كثير منها وخصوصا في المنطق وألف كتبا في مواضيع لم يسبقه أحد إليها ككتابه في (إحصاء العلوم) وكتاب (السياسة المدنية) وهو من قبيل الاقتصاد السياسي الذي يزعم أهل التمدن الحديث أنه من مخترعاتهم وقد كتب فيه الفارابي منذ ألف سنة. وأصلح ما بقى من الترجمات غير مصلح ولخصها. أوعز إليه بذلك منصور ابن نوح الساماني فأجاب وسمى كتابه (التعليم الثاني) ولذلك سموه المعلم الثاني كما في كشف الظنون (ج1ص448) ومن مؤلفاته الباقية إلى الآن نحو (12) كتابا في المنطق متفرقة في مكاتب أوربا، بعضها منقول إلى اللاتينية أو العبرانية أكثرها في الأسكوريال، وبعض الترجمات اللاتينية مطبوع في البندقية وغيرها الخ. وقد طعن العقاد فيما يدعيه بعض المؤرخين من هذه الصلة بين الفارابي ومنصور بن نوح الذي يرى العقاد أنه صار ملكا بعد موت الفارابي بإحدى عشرة سنة كما تقدم. أما تلقيبه بالمعلم الثاني فإن دي بوير في كتابه في (تاريخ الفلسفة الإسلامية) يرى له وجها آخر إذ قال ولم يتعين حتى الآن الترتيب التاريخي لمؤلفات الفارابي، وإذا صح له أن رسائل صغيرة نحن فيها منحى المتكلمين والفلاسفة الطبيعيين، وإذا صح أنها كانت على هذه الصورة التي انتهت إلينا فهي مؤلفات كتبها للجمهور أيام صباه؛ فلما أوغل في الدرس انتقل إلى دراسة مؤلفات أرسطو ولهذا سماه أهل الشرق المعلم الثاني، فهو إذن قد اكتسب هذا اللقب الجليل بشروحه لمؤلفات المعلم الأول. ويقول العقاد في رسالته عن الفارابي. . ومهما يكن من شيء فإن عناية الفارابي بالمنطق واهتمامه بشرح آراء المعلم الأول وبيان فلسفته وتقريب فهمه إلى معاصريه جعل له عند العرب مكانة لا تداني حتى أنهم لقبوه بالمعلم الثاني. وقد فهم (هامر خطأ أن الفارابي سمي بالمعلم الثاني لأنه كان ثاني فلاسفة المسلمين، المبرزين، ونحن نجد هذه التسمية لأول مرة عند البيهقي ثم نجدها بعد ذلك عند الشهرزوري. وقد ذهب طاشكبرى زاده وحاج خليفة إلى أن لهذه التسمية سببا هو أن الفارابي صنف كتابا سماه (التعليم الثاني) هذب فيه وصحح ما ترجمه الأوائل من كتب المعلم الأول الخ. . . ومهما تعددت الروايات في سبب تسمية الفارابي (والأصح تلقيبه) بالمعلم الثاني فإنهما جميعا تتلاقى في الدلالة على ما كان له من عظيم القدر ورفيع المكانة. للبحث صلة ضياء الدخيلي