الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 928/الدين والسلوك الإنساني

مجلة الرسالة/العدد 928/الدين والسلوك الإنساني

مجلة الرسالة - العدد 928
الدين والسلوك الإنساني
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 16 - 04 - 1951

10 - الدين والسلوك الإنساني

للأستاذ عمر حليق

التعاليم الدينية والقانون:

القوانين الخلقية للجماعة تؤلف جزءا أصيلا جوهريا للنظام الاجتماعي الذي تعيش عليه والذي يستوحي الفرد منه سلوكه ويعتمد عليه في صلاته مع الناس. فالقوانين الخلقية هي أسبق من العادات والتقاليد والنظم والشرائع القانونية (المدنية) في توجيه السلوك الإنساني. وقد يأتي حين من الدهر تمتزج فيه هذه العناصر جميعها لتؤلف الأسس الجوهرية للنظام الاجتماعي، ولكن القوانين الأخلاقية تظل محتفظة بمكانتها الرئيسية، مهيمنة على بقية العناصر التي يتألف منها النظام الاجتماعي.

والدارس للمجتمعات البدائية يدرك كيف أن القوانين الأخلاقية (الدينية) تجد من يعبر عنها في الحكم والأمثال التي تلعب دورا كبيرا في تلوين السلوك الإنساني بطابع الرشاد والطهارة والعمل الصالح.

فالحكم والأمثال والأقوال السائرة نوع من التفلسف يستمد أصوله من القوانين الدينية؛ وهذه كما رأينا في مقال سابق من هذا البحث تستند إلى الغريزة الروحانية التي تعيش في كيان الإنسان.

فالحكم في القرآن والحديث مثلا على نوعين: -

(1) نوع يعالج الأخلاق والفلسفة العملية في السلوك الإنساني.

(2) نوع يتوسع في الوعظ والإرشاد ويلجأ إلى الأمثال الشعبية المستمدة من صميم الحياة اليومية وعبر الأيام والحوادث قديمها ومعاصرها ليعزز الحكمة الخلقية والفلسفية القرآنية العملية بشروح ميسرة مبسطة تجد سبيلها إلى قلوب الخاصة وعقول العامة من الناس في لغة مستمدة من شتى أوجه النشاط الإنساني الدنيوي.

فالنوع الأول إذن يعالج المشاكل الخلقية الروحية على أسس منطقية، العقل والروح من أسلحتها. والنوع الآخر يتمم الاجتهاد فيضرب الأمثال بالحياة العملية وعبر التاريخ، وبجمعها في أسلوب محسوس ملموس، والإقناع فيه يستند إلى اختبار الناس وما يتواردونه من أنباء وحوادث، وما يلاحظونه من خير أو شر في نشاطهم الدنيوي.

وكلا النوعين في الإسلام متمم للأخر، وكلاهما قوام على نشر رسالة الدين على أوسع ما يكون الانتشار، وحافظ للأسس الجوهرية والتفصيلية للوظيفة الدينية التي جاء بها القرآن وشرحها الحديث وتراث السلف الصالح.

ومن هذا التمازج استمد أهل الاجتهاد العون على استنباط التشريع الذي صاحب نمو الجماعة الدينية واتساع حاجاتها الدنيوية، وتطور أوضاعها الاقتصادية والسياسية، وازدياد حياتها الاجتماعية تعقدا وتشويشا. وهذا التطور الطبيعي الذي لا مفر منه هو الذي استدعى أكثر فأكثر تحديد العقيدة الدينية، والسعي لإحاطتها بسياج من الوقاية تحول دون التحريف والتأويل وتستهدف صيانتها من سوء الاجتهاد الذي كثيرا ما يلتبس عليه تحديد جوهر العقيدة في خضم هذه الذخيرة الطائلة من الحكم والأمثال والعبر الذي استشهد بها القرآن والدين والسلف الصالح في معرض شرحهم لذلك الجوهر.

ولعل هذا الالتباس هو السبب في ضلال بعض الكتاب المعاصرين الذين يحاولون تطبيق النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعاصرة على تعاليم الإسلام، أو تبرير هذه النظم على ضوء الحكمة والفلسفة الإسلامية.

فهذا النوع من الاجتهاد يتطلب تحفظا بالغا في البحث والاستقراء، والمنهج العلمي الصادق لا يقتبس الفقرة من سجل مجردة عن المعنى الشامل الذي استعملت فيه تلك الفقرة، والأمانة في الاقتباس والاستشهاد تستوجب استعراض المجال الواسع الشامل الذي جاءت منه تلك الآراء أو المعاني أو الحكم التي اقتبست واستشهد بها. فبعض كبار الأئمة مثلا يراعي شرح أسباب نزول الآيات القرآنية والأحاديث النبوية قبل أن يجيزوا بفتوى أو يدلوا برأي له بالعقيدة الدينية مساس مباشر.

ولقد رأينا أن الاجتهاد والتشريع يصاحبان نمو الجماعة وتطورها التاريخي، فينشأ إلى جانب الفلسفة الدينية بمعناها الشامل فلسفة اجتماعية تستمد عناصرها من التطور الجديد وما يخلقه من محاسن أو مساوئ. وقد تكون التعاليم السماوية قد حددت وظيفة الدين إزاء هذه العناصر المستجدة تحديدا بينا واضحا، وفي مثل هذه الحالة لا يمكن للتعاليم السماوية أن تتحمل سوء الاجتهاد. وقد يحدث أن تكون إشارة التعاليم السماوية إلى العناصر المستجدة في التطور الاجتماعي إشارة مستترة؛ التعرف عليها يتطلب مزيدا من الاجتهاد والبحث والاستقراء. ومثل هذا الوضع يلقى على أمانة المجتهد والباحث عبئا جليلا لا يكفي للقيام به مجرد الاقتباس والاستشهاد المجرد من المعنى الشامل للنص الأصيل كما يبدو مع الأسف عند كثير من الذين حاولوا معالجة التطور الاجتماعي على ضوء التعاليم السماوية. ودراسة النصوص الدينية في ناحيتها الاجتماعية عمل خطير، والاستعداد للقيام به يتطلب - بالإضافة إلى إخلاص النية والنزاهة العلمية وصواب منهج البحث - تعرفا على طبيعة المجتمعات التقليدية التي نزلت عليها تلك التعاليم. ولقد وفر علم الأنثروبولوجيات لنا في هذا العصر أسلحة نستطيع به أن ندرس - على قدر الإمكان - عقلية تلك المجتمعات ونظمها وأساليب تفكيرها ومعيشتها وألف نوع ونوع من هذه المميزات التي تتباين بها المجتمعات الحديثة عن المجتمعات القديمة.

والسلوك الإنساني في جوهره متماثل في الجماعات البدائية والجماعات المتقدمة وإن اختلفت أساليب ذلك السلوك بفضل التطور الحضري. ووظيفة الدين الاجتماعية في جوهرها لم تتأثر بالتطور الحضري، إذ أن الدين - كما رأينا في مقال مضى من هذا البحث - من الخصائص الغريزية التي ولدت في النفس البشرية كالأكل والشرب والتزاوج. وقد ارتقت أساليب الناس في إشباع هذه الغرائز الجسمانية بارتقاء الحضارة، إلا أن جوهر تلك الغرائز لا يزال كما كان عليه منذ طرد آدم وحواء من الجنة. ومثل هذه الحقيقة تنطبق بشكل أدق وأصدق على الحياة الدينية الروحانية والحياة الدينية في جميع مراحل التاريخ الديني، مستندة إلى اتجاهين كلاهما يعزز الآخر.

أولهما: - التطلع إلى الخالق الأعظم الذي بيده الحياة والموت وهو على كل شيء قدير.

وثانيهما: - الامتثال إلى تعاليم ومثل وقيم أخلاقية توجه السلوك الإنساني وتعدد للحياة الصالحة السعيدة في الدنيا والآخرة. ومن الصعب جدا كما قال الأستاذ (برات) أن نفرق بين هذين الاتجاهين.

فإذا سمحنا لأنفسنا بأن نصف الاتجاه الأول بأنه العقيدة الدينية، والثاني بأنه الوظيفة الاجتماعية للدين، فإن على الباحث في وظيفة الدين الاجتماعية أن يراعي أشد المراعاة تمازح ذينك الاتجاهين، وإلا فإن أسلوبهفي البحث لا يحقق النفع ولا يتمشى مع حقائق الوضع الاجتماعي، ولا يأخذ بعين الاعتبار جوهر السلوك الإنساني بمعناه الشامل وهو أصدق المعاني وأقربها إلى الحقائق الاجتماعية التي شرحها لنا (دير كهايم).

إذن فاستنباط التشريع الجديد من التعاليم السماوية واجتهاد الباحثين في علاقة تلك التعاليم بالحقائق الاجتماعية يجب أن يتقيد بهذا التمازج الطبيعي الذي لا مفر منه بين العقيدة الدينية والحقيقة الاجتماعية.

وبمثل هذا المنطق يمكننا أن نعالج موقف الجمود الذي يقفه بعض حفظة الدين في العصر الحاضر إزاء التطور الاجتماعي الذي صاحب نمو الجماعة الدينية. فدراسة الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المعاصرة ومساوئها يستوجب على حفظة الدين أمرين: -

أحدهما التسلح بعلوم مستجدة كعلم الأنثروبولوجيات وعلم النفس الاجتماعي وعلم التاريخ الثقافي وغيرها من ألوان المعرفة الحديثة المتشعبة لزيادة تبحرهم في العلوم الدينية وتسلحهم بألسنة العلم الحديث لنشرها بين الناس والدفاع عنها إزاء العبث وسوء الاجتهاد. والآخر يستوجب تفهما صادقا للمشاكل الجوهرية في التطور الذي ألم بحياة الجماعة في شتى أوجه النشاط الإنساني. فتحت لواء هذا التطور تنطوي أصناف من المحاسن والمساوئ خلقتها الفلسفة والثورات الصناعية وتطور الأوضاع السياسية والاقتصادية وما خلفته عن عقد ومشاكل، وما وفرته من أسباب المتعة والإغراء ومن أسباب التفكير الحديث، وكل ذلك خصائص لم تختبرها المجتمعات القديمة التي نزلت عليها التعاليم السماوية في العصور الغابرة. ولما كان الإسلام يصلح لكل زمان فإن وزر القصور في إعادة فتح باب الاجتهاد بأسلحة العلم الحديث وزر خطير، والقصور عن القيام به مع القدرة عليه إثم عظيم.

وخلاصة القول بصدد هذه النقطة من البحث أن في علوم العصر معاول جديدة لتفهم الحقيقة الدينية ووظيفتها الاجتماعية في عالم مضطرب، ومن العبث الذي لا طائل منه أن ينساق المصلحون والمشرعون الاجتماعيون للنيل من العقيدة الاجتماعية والتصدي لحقائقها. فهذه الحقائق تستمد وجودها من الغريزة الدينية، والغريزة الدينية تلعب دورا رئيسيا في أي لون من ألوان الإصلاح الاجتماعي بمعناه الشامل.

ومن العبث أن نحارب الحياة الدينية لأن بعض مظاهرها قد تحمل ألوانا من الشذوذ لا يستسيغه السلوك الإنساني في عصر الرادار والطاقة الذرية. فالحقائق الاجتماعية التي تركن وراء تلك المظاهر لم تندثر ولن تندثر لأنها سنة الله في خلقه ولن تجد لسنته تبديلا. والإصلاح الصادق النافع لا يستهدف معالجة الظواهر وإنما يدلف إلى الجوهر؛ عندئذ يسهل التوجيه وتزداد الرغبة في الإصلاح بين المصلح والذي يرغب في إصلاحهم.

وهذا العبث يصح إطلاقه كذلك على جمود بعض حفظة الدين في التهيب من فصل بين سلامة العقيدة الدينية وبين الاجتهاد في إعادة الدرس في وظيفة الدين الاجتماعية على ضوء التطور الذي استجد في حياة الجماعة الدينية المعاصرة. فجوهر العقيدة الدينية لا خوف عليه لأنه من الغرائز التي لا تندثر، إنما الخوف أن يزداد نفور الناس من الامتثال إلى التعاليم الاجتماعية لتلك العقيدة فيفقد الدين إحدى دعائمه القوية وهي الوظيفة الاجتماعية التي هي جزء من ذلك الاتجاه المزدوج في الحياة الدينية؛ ألا وهو التطلع إلى الخالق عز وجل كمصدر للحياة الروحانية، والسير على الأرض بنور تعاليمه السماوية.

نيويورك

(للبحث صلة)

عمر حليق