الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 926/في آفاق مجهولة

مجلة الرسالة/العدد 926/في آفاق مجهولة

مجلة الرسالة - العدد 926
في آفاق مجهولة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 02 - 04 - 1951


عن الموت. .

للأستاذ محمد رجب البيومي

يقسو الموت على الإنسان فيخطفه من بين أهله وذويه، ويحمله إلى حفرة دامسة حالكة، لا يسطع فيها نجم ولا يهب بها نسيم، ووراءه أكباد تتقطع حسرة على فراقه، ودموع تتساقط حزنا على غربته، وأجسام ترتدي السواد، فتثير كامن اللوعة ودفين الوجد.

وقد يحاول كثير من المرزوئين في أحبائهم وأعزائهم التجلد التماسك فيظهرون الرضا والاستسلام بضع ساعات، ثم تهب عليهم الذكريات الموجعة فتطير الأمن وتمزق الصبر، ويصبح الصابر القانع، كالهالع الجازع، فريسة في أيدي الحزن يمزق أحشاءه، ويريق دموعه، حتى يمن الله عليه بالسلو مرة ثانية فيتماسك ويتجلد، إلى حين محدود. . .!

وكنت أسائل نفسي حين أقف موقف الملتاع بين الكارثة والكارثة، أأنا محق في هذه اللوعة التي أكابد غصصها، وأعاني برحها، أم أن الداء يخونني في موقفي فأظل كاسف البال شارد اللب. ومهما تذرعت بالمنطق والحكمة، فلن أجد الجواب الحاسم لهذا السؤل المعجز. ومن لي به، والموت في حقيقة أمره باب موصد محكم تعلوه أقفال غلاظ شداد فلا يمكن لإنسان أن يعرف ما وراءه مهما أجهد الفكر وواصل التنقيب.

ولعل غموض الموت سبب أصيل للحيرة التي يعانيها الإنسان من جرائه، فلو أدرك المرء أمره، وما يعقبه من خطوات مستترة خافية، لا تنتهي إلى نتيجة معينة، ووقف عند حد لا يقبل التجاوز ووطد العزم على قبوله راضيا أو كارها، وهنا تتبدد الحيرة وينتهي التساؤل، ولكن ذلك لن يكون، فالباب موصد، تعلوه الأقفال، ولن يزال ما وراءه خافيا عن الإفهام. . . وهذه الحيرة التي تكتنف كل مفكر في مصيره، متأمل في عقباه، لن يخلو منها إنسان رزق نصيبا من المعرفة. سوء أكان مؤمنا عميق اليقين بما لديه من نصوص أم شاكا يتقلب على جمر الريب والظن. فالإيمان بالله واليوم الآخر لا يحل المشكلة بحال، لأن الذي يعتقد البعث والنشور، يتساءل عما قبل البعث من خطوات فلا يظفر بجواب. وقد يجد أقوالا متفرقة هنا وهناك فلا يلمس فيها النجاة والراحة، بل ربما ضاعفت شكوكه، وأثارت كوامنه. ولقد كان مالك بن دينار رضي الله عنه راسخ اليقين قوي الإيمان، ومات له أخ شقيق فجزع عليه جزعا شديدا، وقال لمن واساه: (والله لن أرتاح حتى أعلم ما هو عليه بعد الموت، ولن أعلم ما هو عليه حتى أصير إليه) فكأنه لا راحة له طيلة الحياة!

والإنسان إذا استبدت به الحيرة، ودفعته إلى التفكير في أمر مبهم غامض، لا يزال ينتقل من رأي إلى رأي ومن مذهب إلى مذهب، حتى إذا اطمأن إلى معتقد راسخ عاودته الشكوك فتركه إلى سواه. وهذا سر التشعب فيما قيل عن حقيقة الموت وما يليه من خطوات. ومن المسلم به أن كثيرا من الناس قد فكروا في مصايرهم، وخرجوا بنتائج تقترب وتبتعد، وتتفرع وتتجمع، ومنها ما يقف من الآخر موقف المناقض المباين، وأنت تجد بين هؤلاء من يحذر الموت ويخشاه وينظر إلى يومه المحتوم خائفا مذعورا، كما تجد بينهم من ينشد الموت، بل ربما ركض إليه واثبا، فأشاح عنه وتعذر عليه، ولكل من الفريقين دليله المستمد من ظروف معيشته، وواقع حياته - في الغالب - وقد يكون من الأوفق أن نسأل من يحذرون الموت لم يحذرون؟ كما نسأل من ينشدون الموت لم ينشدون؟ ولكل وجهة هو موليها، فبأي منطق يجيب.

لقد كان للفكرة القاتمة التي يأخذها الطفل عن الموت منذ نشأته أثر بغيض يعكس على نفسه شتى الصور الرهيبة، ويزيل من مشاعره معاني الاطمئنان والأمن، فهو في - سنيه الأولى - يسمع الصراخ الفاجع، ويرى الدموع المتقاطرة من أقاربه وذويه، فيسأل عن سر هذا الفزع، فتطرق سمعه لأول مرة كلمت الموت ممزوجة بالنشيج والبكاء، فيبكي هو الآخر متأثرا بما يرى ويسمع، ويتوالى الحمام كعادته بين الناس، فيعيد إلى الطفل ما عرفه من البكاء والنحيب، فيعلم أن الموت كارثة فادحة، ومصيبة حارة، ويتغلغل هذا الأمر في إدراكه ووجدانه، فيشب كارها للموت قبل أن يدرك حقيقته، وقد دأبنا أن نلقن الطفل في مختلف أدواره التعليمية أنباء قاسية عن ملك الموت وما تعانيه لدى انفصالها النهائي من هم وتبربح، فيتعاظمه الأمر، ويتخيل نفسه وقد أحيط بهذه الكوارث فلا يجد مفرجا من ضيق. هذا إلى الأساطير الخيالية التي تتحول في بعض الأذهان عقائد ثابتة، فترسم للذهن الزبانية والمقامع النارية في صور رهيبة حالكة، فلا يسعه إلا الفزع من الموت، ذلك الغول الرهيب الذي ينقل الناس فجأة من الجنة إلى النار. ولو أننا أعطينا للطفل صورة مقبولة عن الموت، وبعدنا بينه وبين من يحتضرون، فلا يشاهد ما يعانيه المريض في مرحلته الخيرة من آلام وتبريح، لهان الأمر علي بعض الشيء، ونظر إلى الموت - فيما بعد - كأمر تنتهي إليه الكائنات، ولكن متى يكون ذلك!

وليست ملابسات الموت وحدها السبب في خوف الإنسان وفزعه من القدر المحتوم، بل يضاف إليها أشياء وأشياء، فكل إنسان مهما تجنب الرذيلة، وآثر الفضيلة، لا بد متعرض في بعض مراحل حياته إلى ما يغضب ربه من الآثام، والضمير رقيب يقض غير نائم فيظل يذكر المرء بما اقترفه، وإن كرت الأيام عليه، فإذا تصور الإنسان وقد حان حينه، ودقت ساعته الآزفة مع أنه قد أسلف ما أسلف من ذنوب سيحاسب عليها حسابا منصفا تأكد من العقاب العادل، وعجز عن حمل التبعة الثقيلة، ومن ثم فهو يبغض الباب القاتم الذي يدفعه إلى الجزاء والحساب، وينظر إلى موعده المحتوم نظرة الخائف المتفزع. ونحن وأن كنا نطمع في عفو الله، ونأمل في الصفح والغفران، لا بد من صور معقولة لهذا اليوم تصد النفس الأمارة بالسوء، على أن نتخيل بجانبها صور بهيجة ذات مفاتن وأضواء لمن يعتصم بالأدب والأخلاق، وهنا يكون الموت غير مخوف إن آلم بذوي المروءة والدين، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقائه كما قيل.

ولن ننسى في هذا المقام ما يبعثه القبر المظلم الضيق في النفوس من رهب وإيحاش، فكثير من الناس تتفتت أكبادهم حسرة حين يتصورون أجسامهم في حفرة دامسة خانقة لا يقر بها النور والهواء، وكأني بهؤلاء الجازعين وقد وهموا أن إحساسهم سيصحبهم في هذه الغياهب الحالكة، فيشعرون بما يشعر به الحي حين يوضع في صندوق مقفل خانق، ولو كان الأمر كذلك حقيقة، لجل الصبر، وعظم الخطب، ولكن أما يتناقص الجسم يوما بعد يوم؟ أما ترتع فيه الديدان والهوام أسوأ مرتع في محبسه الرهيب؟ أما يمر علي يوم ينعدم فيه ويتلاشى وتتحول بقاياه إلى ذرات؟ أين إذن يكون الألم والإحساس؟ وإذا سلمنا منطقيا أن الجسم لا يألم بعد وفاته وانعدامه، فلم لا يندرج عليه هذا الحكم حين ترتع به الديدان والهوام وهو سجين حبيس! ولم نخاف الظلمة والضيق والهامد الراقد لا يشعر بها بحال؛ ذلك نوع من الخيال!؟

لقد سطر كثير من الكتاب صحائف مفزعة عن القبر وما يتراكم فيه من ظلمات وأهوال، فتركوا أسوأ الأثر في نفوس ونغصوا على الناس حياتهم ومعاشهم شر تنغيص. وهل كان الحمام محتاجا إلى ما يريدونه من الإرهاب والتخويف، فجاءوا يضيفون إلى أهواله الحقيقية والمتوهمة أكداسا فوق أكداس!

هذه بعض الهواجس التي يرددها الخائفون الوجلون، وقد حاولنا أن ننقذها بعض الشيء مما يغمرها من المبالغة والتهويل، ولن نتمادى معهم في مخاوفهم المتشبعة، فلدينا الفريق الآخر الذي يرحب بالموت ويرسل في تمجيده الشوارد السائرة، وأنت تجيل طرفك فيما سطره هؤلاء فتجد سيلا جارفا من الحكم والأمثال قد سيق سوقا في هذا المضمار، فمثلا قائل (مقابر من ماتوا منازل راحة) (إن سئمت الحياة فارجع إلى الأرض. .) ومن قائل (ضجعت الموت رقدت يستريح الجسم فيه). . (فيما موت زر إن الحياة ذميمة) ومن قائل (وقفت حين تركت الأم دار)، (خضم الحياة بعيد النجاة) وقد فاقهم جميعا من يقول في رثاء صديق:

كذبتك لم أجزع عليك وقد رمى ... فؤادك من نيل الحمام ظلوم

تمر الليالي لا نحس صروفها ... فيما ليتني في الهالكين مقيم

تجوت من الدنيا نجاة نفسها ... عليك ولو أن الفراق أليم

ولم أر مثل العيش أزهاره الردى ... ولا عاصفا كالموت وهو نسيم

فهل عان على هؤلاء طعم الحياة كما يقولون، وهل يحنون إلى التراب حنينا خالصا بريئا؟ وماذا أعجبهم في المستقبل المجهول وهو ملئ بالغرائب والشكوك؟

وجه هذه الأسئلة إلى من يصبون اللعنات على الحياة، ووجه هذه الأسئلة إلى من يرحبون بالانتحار؟ فلن تظفر من هؤلاء بكلمة صادقة في حب الموت، فهم غارقون إلى آذانهم في مخاوفه ومآسيه، ولكنهم يلمسون القسوة الصارمة من الحياة. فيتعرضون إلى الفشل المخجل والخسارة الفادحة، والناس لا يرحمونهم في شيء، بل يلوكون أحاديثهم، ويمضغون مآسيهم شامتين فرحين، ويدور الفاشل بعينه فلا يرى من يرمقه بالعطف، أو يلتمس له العذر في ذلة، وقد يتضاعف وهمه فيظن أن الناس جميعا يتندرون به في كل مجتمع وناد، فيضيق في وجهه العيش، وتسود في عينيه آفاق الحياة، ويفزع إلى مصرعه البغيض كارها مرغما، وهو يوطن نفسه على ما ينتظره من شدائد وأهوال.

أعرف ثريا موسرا رتع في بحبوحة النعمة والترف أمدا غير قصير ثم ضربه المرض بذات الجنب فكان يتقلب على سريره متأوها صارخا وقد حاول الأطباء أن يهدئوا من لوعته فما رجعوا عليه بطائل. وفي غفلة من أهله ألقى بنفسه من شرف عال، فلفظ بقية أنفاسه. وأعرف عشرات غيره من المعدمين البائسين بهظتهم الحياة بتكاليفها الضرورية، وتضورت بطون أطفالهم جوعا وحرمانا، فها لهم أن يقعد بهم العدم عن إسعاد أولادهم فخفوا إلى الموت مرغمين، وفي صدورهم مراجل من اللوعة تغلي وتحتدم حتى تنفجر انفجارا، يراه الناس انتحارا فجائيا، في الواقع بعيد الأمد عميق الجذور! فيا هؤلاء لا تقولوا إنكم تحبون الموت، ولكن قولوا إنكم لم تجدوا مفرا من الموت فسعيتم إليه فزعين غير مختارين!

ولكن مالنا نزيد الأمر هولا فوق هول، فنؤكد المخاوف، ونقلق النفوس، وأولي بنا أن نعمد إلى شيء من التهدئة، والتلطيف! الحق أن الفناء رهيب مهول، وأن من دافعوا عنه يلجئون إلى العقل وحده فيقنعونه تارة ويدفعهم تارات، أما العاطفة فقد أوصدت منافذها دونهم أي إيصاد، فما وصلوا إليها في قليل أو كثير، وأنت تقرأ لهؤلاء في تمجيد الموت والترحيب به أقوالا أخذت سمت المنطق في القياس والاستدلال، فلا تجد شيئا من قبولك الصريح وهيهات أن يكون ذاك، واسمع ما يقوله أحد فلاسفة الإسلام على سبيل المثال:

قال ابن مسكويه - ما فحواه - (والإنسان في أصح تعاريفه حيوان ناطق ميت، فبالموت يبلغ كماله ويصل إلى نضجه فلم يخاف إذن من الكمال؟ وكل ينشده ويبتغيه) فهل راقك هذا الكلام؟ قد يتحير عقلك بين الرفض والقبول، إن لم يرفضه بادئ ذي بدء دون نقاش، أما العاطفة فتأباه وتتحاشاه، والإنسان ليس عقلا فقط، ولكنه عقل ووجدان!

لقد مات سقراط وهو يتحدث عن الخلود مرحبا، وجاء بعده مئات من الفلاسفة والحكماء فشغلوا أنفسهم بما شغل به سقراط، فهل اقتنع بمنطقهم إنسان، وهل رغب أحد في الموت ليصل إلى الخلود والبقاء؟ لقد ذهب كلام الفلاسفة أدراج الرياح، وجاءت الأديان فأنقذت الملايين من البشر ومالت بهم إلى عقيدة ثابتة بددت شكوككهم، وأغثتهم من الحيرة والارتياب، حتى إن جاهليا بدائيا تقلقه وساوسه فيسعى إلى الجمع الحاشد بعكاظ فيوجه إليه هذا السؤال (ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا فأقاموا، أم تركوا هناك فناموا؟) وتمضي الأيام مديدة طويلة فلا يرجع من الراحلين عائد ينبئ بما شاهد، وأنى لغائب أن يعود، وقد قامت دونه الصفائح، وسجنته الأجداث!

ربى حولها أمثالها إن أتيتها ... قرينك أشجانا وهن سكون

كفى الهجر أنا لم يضح لك أمرنا ... ولم يأتنا عما لديك يقين

(المنصورة)

محمد رجب البيومي