الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 926/أبطال اليهود

مجلة الرسالة/العدد 926/أبطال اليهود

بتاريخ: 02 - 04 - 1951


بين القرآن والعهد القديم

للأستاذ محمد خليفة التونسي

قبل عامين كتبت مقالا في هذه المجلة مقدما به إلى قرائها كتابا كان ظهوره في تلك الأيام عجيبا مريبا، وكان موضوعه (موسى) ومؤلفه عالما مصريا، وكان مما لاحظته وسجلته في مقالي عنه يومئذ ما نصه: (والمؤلف يسوق قصة موسى كما وردت في القرآن وقصته كما وردت في التوراة على أنهما متكاملتان، وهذا السياق يوقعنا في خطأ كبير. وهاأنذا أقرر - ولا أدري أحدا سبقني إلى قراري هذا - أن الصورة التي يتبينها القارئ في نصوص القرآن لموسى تختلف اختلافا كبيرا عن الصورة التي يتبينها له من تأمل نصوص التوراة، وأن الله في نظر موسى كما ذكر القرآن يختلف اختلافا كبيرا عن (يهوه) في نظر موسى كما ذكرت التوراة، فإن موسى المؤمن بالله الواحد غير موسى الذي اختص هو وقومه بعبادتهم (يهوه) مرة، و (الوهيم) - ومعناها الآلهة - مرة أخرى)، ثم بينت هناك بالإجمال صورة (يهوه) إله موسى كما تستخلص من نصوص التوراة.

وهذه الملاحظة لا تصدق على موسى والإله في نظره فحسب، بل تصدق على كل أبطال اليهود قبله وبعده ممن رسمت صورهم أو جوانب بارزة منها في القرآن والعهد القديم معا، ولو كانت الوقائع في كلا الكتابين متفقة أو كالمتفقة.

ولا خلل في هذه القاعدة إذا طبقت على أكبر هؤلاء الأبطال وهو إليهم أو على أصغرهم، ولا حاجة بنا إلى تغيير كثير أو قليل فيها إذا قارنا بين صورتي أي بطل عداه من الأنبياء والملوك والزعماء والعامة سواء أكانوا في الصالحين أم في الطالحين ومجمل النتيجة التي ننتهي إليها بعد عقد كل المقارنات يمكن حصره في هذه العبارة الوجيزة: صور هؤلاء الأبطال في القرآن (صور إسلامية) وصور في العهد القديم (صور يهودية).

وقد يشتد الخلاف بين صورة البطل هنا وصورته هناك حتى يبلغ حد التناكر. وتبرؤ كل صورة من الخرى، كاختلاف الضدين أو النقيضين. وقد يدهشنا بقاء هذه الحقيقة خافية - مع قربها ويسرها - حتى الآن.

فالكتابان كلاهما معروفان حق المعرفة للملايين منذ عهود سحيقة؛ ودرس الديان وكت دراسة مقارنة علم (قائم يدرسه علماء مشهود لهم بالتضلع والأستاذية) في كل جامعات العالم، وعلماء أمثالهم في غير الجامعات؛ ولكن دهشتنا عند النظرة الأولى خليقة أن تزول عند النظرة الثانية؛ إذ تتكاشف لنا أسباب خفاء هذه الحقيقة القريبة اليسيرة. فمن أسبابه أن القائمين بدراسة هذا العلم علماء غير أدباء، وهم ينظرون إلى موضوعاته نظرة علمية لا فنية. ومن أسبابه أن أكثرهم من صغار العلماء، والعالم الصغير في يده منهج، وفي وجهه عينان ينظران في اتجاه واحد، وليس يلزم نفسه ولا يلزمه أكثر الناس - حتى المثقفين - أن يكون له في رأسه عقل واسع يعي ما يرى، ولا أن يكون بين جوانبه قلب كبير يحس به، فهو إذن أحسن الفهرسة والتعداد والتنسيق - وهذا غاية وسعة - كان هذا حسبه في نظر نفسه وفي أنظار الناس، لأن المسألة عنده عملية حسابية تجمع فيها أجزاء إلى أخرى، أو تطرح منها، وليس بنية حية تعاشر وتؤلف كالأزواج والأقرباء والأصدقاء. ومن أسبابه أن أكثر القائمين به من اليهود وتلاميذهم الذين يسيرون على نهجهم المغرض العقيم.

فأما العلماء اليهود فمغرضون لأن همهم تبيين فضل الديانة اليهودية وأسفارها على ما تلاها من الديانات والفلسفات الدينية وكتبها وما إلى ذلك، أما ما تأثر الناس به منها؛ أو ما كان لها من آراء كالآراء التي كانت للنابغين قبلها وبعدها عند الأمم الأخرى. ومعلوم أن العهد القديم أقدم أسفار الديانات الكتابية وحصر البحث في الحيز الضيق، وتناول النظم بعد تفتيتها على النهج العلمي الجاف هما الكفيلان ببيان فضل اليهود ونبوغهم. وهذا على فرض أمانة هؤلاء العلماء في البحث وهذا الغرض قد يعذر اليهود بشأنه على ما فيه من مآخذ.

ولكن لهم غاية شر من هذه الغاية وهم يسيرون على هذا النحو المضلل، هي تشكيك المسيحيين والمسلمين_وهم أقوى مزاحمي اليهود_في الديانتين، فالعالم إذا تمكن من تفتيت الدين، وأعاد كل فتات إلى مصدر قلبه ولو لم يكن المصدر يهوديا_استطاع أن يمحق قداسة الدين في القلوب والعقول، وبخاصة عند المسلمين الذين يعتقدون أن القرآن وحي من الله أنزله على محمد فبلغه من غير أن تكون له مشاركة فيه، وهذا يخالف ما يعتقد المسيحيون في الوحي، إذ يرون أن كتاب الأناجيل هم كاتبوها بإلهام من الله وإشراف عليهم منه.

ونحن إذ نلاحظ ذلك غير غافلين عن أن هذا المنهج قد طبقي مجال أوسع مما أراد اليهود، فقد قام علماء من غير اليهود ومن اليهود أيضا بعقد مقارنات بين كثير مما جاء في العهد القديم ولا سيما التوراة وما جاء في الشرائع والعقائد السابقة له عند الأمم القديمة كالمصريين والبابليين والهنود وغيرهم فزعزعوا من مكانة العهد القديم ما زعزعوا، ولكن في أنظار غير اليهود، فأما اليهود فهم متمسكون بنصوص كتبهم المقدسة وحروفها ونقطها برغم كل نقد وهدم سواء في ذلك أحبارهم والملحدون الذين ينكرون الله والأديان فيهم. فحتى السلع التي يصنعها اليهود في نقد كتبهم إنما هي سلع للتصدير إلى غير اليهود لا للاستهلاك المحلي بينهم كما يقال بلغة التجارة، وهم يروجونها بكل مالهم من حول وحيلة، لأن ضررها واقع على غيرهم لا عليهم، وإنما مثلهم في ذلك مثل صناع المسكرات والمخدرات وتجارها الذين لا يعاقرونها.

وأما تلاميذهم من غير اليهود فمعظمهم ببغاوات (تبغبغ) بما تلقن دون فهم أو تصور، أو هم مورطون بأهواء تحول بينهم وبين الخارج على أساتذتهم، وأكرم هذه الأهواء أنهم أمام أساتذتهم كهان أوثان في عالم وثني أو شبه وثني يعترف لأوثانهم بالتقدير والإجلال عن جدارة أو عن غيرها. وليس مما يليق في (صناعة) الكهانة، ولا مما يغتفر أن يهون الكاهن من شأن وثنه أمام الناس صراحة أو رمزا، على حين أنه لا ينتظر منهم أن يحترموه إلا لسبب واحد هو أنه كاهن ذلك الوثن. فتقديره لوثنه تقدير لكهانته هو، ودفاعه عنه دفاع عن نفسه، فهو ملتزم شريعته أمام الناس؛ ولو كان هو به في أعماق سريرته أكفر الكافرين.

وهؤلاء التلاميذ على خير الوجوه علماء لا أدباء، وهمهم التحليل والتركيب، والمنهج التحليلي وحده لا يمكن أن يتأدى بنا إلا إلى ضلال.

ومن أسبابه أن من وراء هؤلاء وهؤلاء مستهلكين أو مروجين لا ناقدين ولا صناعا، وهذا على فرض أن هذه الموضوعات من همومهم، فكيف وليست هي كذلك ولو كانوا من الثقافة في أرفع مكان.

ومن أسبابه أن هذه الموضوعات تتناول مسائل الدين، وهي دقيقة شائكة، والتورط فيها غير مأمون العواقب، وأكثر الناس - ولا جناح عليهم - يؤثرون لأنفسهم السلامة والعافية، فلوفهم المهتمون بها شيئا منها، لآثروا - حبا للسلامة والعافية - أن يقتصروا منها على الفهم لأنفسهم أو مع خلصائهم غير ملومين، ويتوجسون خيفة أن يظهروها، وحسبهم بعد كل أنهم (فاهمون).

ومن أسبابه أن هذا العلم - أو هذا النمط من المعرفة الموكل بدراسة الموضوعات - علم حديث أو ضيق على رغم ذيوعه، والدراسة لم تتسع حتى تشمل كل موضوعاته ولا سيما على النهج الفني الذي نريده، وهو لم يظفر حتى اليوم بالأدباء والأكفاء الذين يستطيع الواحد منهم أن يحيد فيها علما وشعورا بموضوعه الذي يتصدى له، ويفقهه حق الفقه، ونحن مفرطون في الشطط والوهم إذا انتظرنا من أديب واحد أن يستوعب كل موضوعاته، فبحسب الأديب إتقان ما يتعرض له منها.

ولو أهم موضوعنا هذا أحدا من المسلمين قبل اليوم، وكان له أهلا لما عز عليه أن يناله لأنه قريب يسير، ولا تحفنا بكتاب ذي أجزاء عدة في هذا الموضوع الطريف.

وهذه هي أهم الأسباب التي يمكن أن تقال - إزالة لدهشة الجهل، وتعليلا لخفاء هذه الحقيقة - وهي أن صور أبطال اليهود في القرآن (صور إسلامية) وصورهم في العهد القديم (صور يهودية) والخلاف بين صورتي كل بطل منهم خلاف واسع، قد يصل إلى حد التناكر والتبرؤ، كما يختلف العدوان اللدودان. وأهم ظاهره في هذا الخلاف هو عصمة هؤلاء الأبطال في القرآن عما لا يليق بهم، وعدم عصمتهم في العهد القديم عن ذلك، وهذا باب واسع، والطريق من ورائه طويل كثير العقبات، والسير فيه محفوف بالأخطار، ومجمل ما يقال إتماما للبيان أن الديانتين الإسلام واليهودية - مع اتفاقهما في النظر إلى كثير من الأعمال والحكم عليها حكما واحدا - مختلفان أبعد الاختلاف في النظر إلى أعمال أكثر منها، وفي الحكم عليها، فمن الأعمال ما تعده اليهودية فرضا لازما، ويعده الإسلام محرما كل التحريم، فتحديد ما يليق وما لا يليق عمل شاق كل المشقة وإن يكن ممكنا يسيرا. ومرجع ذلك إلى أن اليهود فوجئوا بديانتهم قبل أن يتمدنوا ويأتلفوا مع غيرهم، ويحسوا بالإخاء لهم، وتمت ديانتهم وهم قبيلة بدوية تضرب في آفاق شرقا وغربا، فتداس من القبائل التي هي أقوى منها، وتستبعد من الأمم التي تتصل بها، وبقيت هذه الديانة راسخة متماسكة حتى الآن في القبيلة لأسباب يطول شرحها، فهي لا تحس بواجب عليها نحو غيرها من البشر، لأنها عندما تكونت ديانتها كانت في حالة حرب مع كل الناس ومع الطبيعة نفسها وإلههم نفسه لم يسلم من هذه العداوة رغم حرصهم على عبادته وحده، فهم لا يتفوهون باسمه مثلا، وهم يقسمون البشر. إلى يهود وهم الشعب المختار، وجويهيم من عداهم من البشر، ومعنى جويهيم الكفرة والوثنيون والأنجاس والحيوانات، وتترجم أحيانا في العربية كلمة الأمميين، وقد عثرت لها على لفظ قرآني ليته يشتهر ليغنينا في ترجمة إذ جاء في سورة آل عمران في بيان عدم اعتراف اليهود لغيرهم من الناس بأي حرمة (ذلك بأنهم قالوا: ليس علينا في الأميين سبيل) أي أنهم غير ملتزمين بأي شريعة في معاملة غيرهم، فلهم قتل غير اليهودي وسرقت ماله وانتهاك عرضه، ولا جناح عليهم في ذلك عند إلههم (يهوه) كما كانوا يعتقدون، وكما لا يزالون يعتقدون إلى اليوم فالأمر إنكار كل حرمة، لا الاعتراف بها والتعدي عليها.

واعتذر عن سلسلة هذه الحقائق الكثيرة كلها في هذا الإيجاز الذي قد يجعل بعضها غامضا، فأكثر هذه الحقائق رءوس موضوعات، أو قواعد في حاجة إلى مثال بل أمثلة، وكل واحدة منها لا يجليها إلا مقال كامل، وقد أشرت إشارة قصيرة إلى المنهج الأدبي الذي أراه أنسب المناهج لدراسة هؤلاء الأبطال وعقد المقارنات بين صورة كل بطل في القرآن وصورته في العهد القديم وأعني به فن التراجم، فالمنهج الذي يغني هنا هو المنهج البيوجرافي الذي يهتم برسم الصور لا سرد السير، وإبراز (التركيبة) حية كاملة كما فعل بلوتارك في كتابه (العظماء) والعقاد في (عبقرياته) دون الاستغراق في الأجزاء التي تتركب منها (التركيبة) على طريقة العلماء المحققين من المؤرخين، ولو استوعبت كل جزء.

ولن يفوتني أن أهدي هذا المفتاح المتواضع لمن يتقدم إلى فتح باب هذا الموضوع الطريف، ولن أعفي نفسي من استعماله مرات في مقالات ستأتي إن شاء الله وعذري في إيجاز المقال ضيق المجال.

محمد خليفة التونسي