الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 919/إسق العطاش

مجلة الرسالة/العدد 919/إسق العطاش

بتاريخ: 12 - 02 - 1951


للأستاذ حسني كنعان

سألني صديق عن فصل (اسق العطاش)، وسألني آخر عن آثار القباني، وهاأنذا أجيب على السؤالين.

اسق العطاش: نوع خاص من أنواع الموشحات العربية القديمة المجهولة المتوارثة اختصت بحفظه مدينة حلب وحدها دون سواها من المدن العربية. ولهذا النوع من الأثر طابع خاص عرف به في النظم واللحن والإنشاد طغت عليه النزعة الصوفية. فأنت إذ تصاقح أذناك هذا النوع من الموشحات الأخاذة الساحرة وتصغي بكل حواسك وجوارحك إليه تخال نفسك كأنك قابع في زاوية من زوايا السادة الصوفية تضوعت في جنباتها روائح الند والمسك والطيب فتذهل عن الدنيا لشدة ما يعتريك من الخشوع والطرب والورع تأثراً بهذه الأنغام الرائعة والمعاني الممتعة فيأخذك العجب مما جادت به قرائح الأجداد الفياضة التي إن دلت على شئ فإنما تدل على ما كانوا عليه من شغف بالفن وانكباب مجهود في إحيائه والنهوض به. . .

والفصل برمته مأخوذ عن كتاب خطي قديم عنوانه (سلافة الألحان) يقع في مائة وخمسين صفحة على الجملة، قد دون بخط جامعه السيد (محمد الوراق) الحلبي المنبت وكان رحمه الله من الملمين بهذا الفن البارزين. وله في حلب عدة تلاميذ لا يزالون حتى الآن يحفظون له هذه اليد.

وكان منشداً في التكية الهلالية قد انقطع للنسك فيها والعبادة والتصوف، وقد تيمه الحب وهاجه الوجد والغرام في هذه الطرق، فجمع هذا الفاصل الأثري وعني بتعلمه وتعليمه فكان له ما أراد من فضل في نشره وإحيائه. . .

ولقد اختلف الرواة في منبع هذه الموشحات، فمنهم من نسبها إلى مصر وذهب إلى أن مياه النيل في عام من الأعوام قديماً قد نقصت وضنت السماء على سكان الوادي الخصيب بالمطر فما جادت عام مئذ بقطرة واحدة، ففزع أهل القطر إلى العراء يستمطرون الرحمة والغوث من لدن رافع السماء وباسط الأرضيين، جاء في مطلع أدعيتهم:

يا ذا العطا ... يا ذا الوف يا ذا الرضى ... يا ذا السخا

إسق العطاش ... تكرماً

فالعقل طاش ... من الظما

ومن قائل إن هذه الحادثة وقعت بحلب، ودليله على ذلك العادة المتبعة حتى الآن من فزعهم ولجوئهم إلى العراء حتى اليوم يستغيثون ويستمطرون الرحمة كلما ضنت عليهم السحب بالغيث فيجأرون بهذه الأدعية والموشحات. وإلى هذا فمصر فيها خزانات لارتواء تربتها يفزع إليها كلما ضن النيل وبخلت السحب بالأمطار.

ومن قائل بأن هذه المخلفات الفنية من وضع الصوفيين تهدف بمعناها ومبناها وموسيقاها إلى نزعة غزلية صوفية يقصد بها الإشارة والمديح للذات القدسية العلية والتغزل بها والتغني بمحامدها ومفاتنها على سبيل التعبد، وأنها تتلى بالأفكار وحلقات التكايا والزوايا لهذه الغاية.

وهي موشحات كما ترى لا تتنافى مع مبادئ الدين الحنيف في شئ، وقد سبق لأبن الفارض والسيد الجيلاني وأبن العربي وعبد الغني النابلسي أقوال كثيرة في هذا المعنى من الغزل الصوفي ولذا نراها تستعمل في بلادنا في كل حفل ديني يؤتي فيه على ذكر الله الملك الديان، ويغلب على هذه الموشحات النغمة الحجازية وقد يدوم إنشادها في الأذكار والحفلات زهاء أربعة ساعات دون انقطاعيتخللها نغمة العراق والعجم في بعض الأحيان، إلا أن نغمة الحجاز هي الغالبية على جميع الأنغام في هذه الآثار.

والعادة المتبعة عند الحلبيين أن يهيئوا لها أحسن العازفين والمنشدين فتبدأ الأنغام في بادئ الأمر ببطيء متزايد وصوت غليظ ثم يأخذ هذا الصوت في الجدة والشدة والدقة حتى تعلو الأصوات وتدق، ويشتد العزف ويخف بحسب المعنى إلى أن يغدو السامع كأنه بنشوة الطرب، وعندما تكون الحلقات معقودة وتأخذ رجالها النشوة تنزلق أرجلهم وأيديهم وصدورهم إلى البدء في رقص السماح الذي تحدثت عنه الرسالة سابقاً وينقلب هذا الفاصل من الموسيقى إلى فاصل إنشاد رقص وطرب فتسمع وترى عندئذ من القائمين على شؤونه العجب العجاب، وعندما يشعر أبطال هذه الحلقات بتعب أو ضنى ينسل من الحلقة منتحياً ناحية في المكان، فإذا ما شعر غيره بتعب صنع صنيعه وهكذا يظل أبطال الحلقات يتسللون لواذاً الواحد تلو الآخر ويكون ذلك بعد مضي أربع ساعات على لتحقيق إلى أن تنقطع الحلقة وينفض المتحلقون من حولها وينتهي هذا لفاصل الغنائي الرائع الأخاذ.

أذاعت جزءاً من هذا الفاصل محطة حلب الإضافية منذ أمد بإشراف الأستاذين الشيخ عمر البطش الذي فقدته سوريا بالأمس وفقدت بفقده كنزاً ثميناً من الكنوز الفنية التي لا تعوض، وبإشراف الموسيقار توفيق الصباغ. وما كاد يمضي مدة على إذاعة مختارات من هذا الفاصل الأثرى الخالد حتى بادرة إدارة محطة الشرق الأدنى إلى الشخوص لحلب فتعاقدت مع أرباب هذه الصناعة من المذيعين وأخذت تسجيلاً خاصاً عنه. ولا ريب أن محطة دمشق ومصر والعراق وبقية محطات المدن العربية كانت أولى بحفظ هذه المخلفات الأثرية من محطة الشرق الأدنى قبل أن يمضي عميدها المرحوم الشيخ البطش، ولكنا نحن معشر الشرقيين نستهين بتراثنا الفني ونهمل رجالاته فإذا ما فقدناهم ندبنا حظنا وذرفنا الدموع سخينة على أفتقادهم، وإني ختاماً لهذا البحث الفني أراني ملزماً بذكر بعض مقطوعات مما ورد فيه تتمة للفائدة وتعميمها للنفع عسى أن يجد أبناء الفن الباحثون المتلذذون منهم والمتكسبون فيه ما تصبو إليه نفوسهم ويشفى غليلهم.

فالسادة أصحاب الطرق يذهبون في هذه الموشحات مذاهب شتى، فمنهم من يجعل الحبيب الذي يتغزل به غزالاً، ومنهم من يجعله إنساناً ذكراً أو أنثى؛ ولا يعلم إلا الله خفايا أسرارهم فيتغزلون بدعد وهند وليلى وسلمى وإلى ما هنالك من أسماء الأنثى، ومنهم من يتغزل بالذكر ويجعل المحبوب رسولاً أو ولياً من الأولياء فهم بهذه الحالة يظهرون ما لا يبطنون. ومن أقوالهم في ذلك:

يا غزالي كيف عني أبعدوك ... شتتوا شملي وهجري عودوك

يا غزالاً بالبهاء ما أجملك ... يا ترى في قتلتي من حالك

كنت لا أعشق خلاً من خلاك ... حملوك الهجر حتى واصلوك

قلت رفقاً يا حبيبي قال لا ... قلت راع الود يا ريم الفلا

قل من يهوي فلا يشكو الفلى ... قلت حسبي مدمعي قال سفوك

قلت مولى قال ذا شيء بعيد ... قلت عبداً قال لا أرضى عبيد

ومن قولهم في ذلك! أهوى الغزال الريرني باهي الجمال ... حلو المباسم سكري ريقه حلالي

أهيف حوى كل المحاسن والكمال ... إذا نبدي ينجلي مثل الهلال

يا عاذل اقصر كلامك عن غزالي ... ما للعواذل في هوى روحي ومالي

وهذان موشح من النوع الذي يتغزل فيه بالأنثى:

هيمتني تيمتني ... عن سواها شغلتني

أخت أنس ... ذات شمس

دون كأس ... أسكرتني

لست أسلوها ولو ... في نار هجران كوتني

ذات عقد ذات بند ... أسبلته فوق نهد

أيها الساقي فندندن ... باسم من قد آنستني

عاذلي ماذا عليها ... باللقا لو أنحفتني

صوتها العود الرخيم ... يسلب القلب السليم

تسبل الشال السليم ... فوق أعطاف سبتني

ليلة بت معاها ... بالصفا لما دعتني

وإليك نوعاً آخر من أنواع الغزل الصوفي تختتم به هذا النوع من الموشحات:

مولاي أجفاني جفاهنالكرى ... والشوق لا عجه بقلبي خيما

مولاي لي عمل ولكن موجب ... لعقوبتي فامنن على تكرما

واجل صدى قلبي بصفو محبة ... يا خير من أعطى الجزاء وأنعما

يا ذا العطا ياذا الوفا يا ذا الرضا ... يا ذا السخا إسق العطاش تكرما

أغث اللهفان وأرو الظمآن ... واسقنا يا رحمن من منهل الإحسان

أما الاستيضاحات التي طلبها من السيد محمد يوسف نجم من جامعة فؤاد الأول فالجواب عليها أورده على الجملة فيها بلى عساه باقي فيه ما تصبو إليه نفسه:

1 - لم يسبق محاولة مسرحية في سوريا قبل القباني وإنما الذي عرف أن أستاذه علي حبيب الحكواتي كان يخاطب الصور الخيالية من وراء (خيمته) بلهجةتمثيلية فيها الحوار والسؤال والجواب. وكان القباني يلازمه ويقتبس من لهجته التمثيلية ومحاورته اقتباسات أفسحت أمامه المجال لوضع نواة التمثيل في مخيلته، وكانت فرقة فرنسية أمت سوريا للتمثيل فيها فحلت من مدرسة (العذاري) في باب توما، فحضر القباني هذه الروايات وشهدها جميعها فأخذ فكرة عن التمثيل والمسرح. وفي عهد الوالي عبد اللطيف صبحي باشا ظهرت أولى مسرحياته فألف رواية (ناكر الجميل) ومثلها أمامه سنة 1288 وكانت سوريا والبلاد العربية لا تعرف شيئاً عن التمثيل قبل هذا التاريخ.

2 - أما كتبه ومؤلفاته المسرحية فإنها مذكورة في كتاب الموسيقي الشرقي لمؤلف المرحوم كامل الخلعي. ولقد أجهدت نفسي كثيراً لأحصل على نسخ منها فلم أظفر لأن ولده المرحوم خليل أودع مؤلفات واده عند شريك له في المحاماة من آل العجلاني، ولما توفي خليل المذكور أنكرها وأحتجزها لنفسه كما فعل شقيق الشاعر الزين رحمه الله بأشعار أخيه الفقيد. وعبثا حاولت الحصول على نسخ منها. ولما أعيتني الحيلة والأمانة للعلم والبحث قصدت نائب دمشق الأستاذ فخري بك البارودي وطلبت مساعدتي للحصول على تراثالقباني، فجال بمكتبته الفخمة جولة ثم عاد يحمل إلي روايتين مطبوعتين في القاهرة بقلم القباني نفسه قد أكلت حشاياهما الأرضة وعفى عليهما النسيان، إحداهما رواية، هارون الرشيد، والثانية رواية الأمير محمود نجل شاه العجم، فعثرت بعثوري عليهما على كنز أو معدن نادر. ولم أتبين تاريخ وضع رواية الرشيد لإهتراء مغلفها، أما السلطان محمود فلقد طبعت بالمطبعة العمومية بمصر سنة 1318 هـ.

فرأي في أسلوب الروايتين لا يخرج عن رأي أديب يرى في هذا الأسلوب المشجع أسلوباً لا يليق أن يتخذ قدوة في هذا العصر، فرواية الرشيد تدور حول مؤامرة القصر والست (زبيدة) وحادثتها مع قينة الرشيد (قوت القلوب) وموضوعها لا بأس به على الجملة. أما الرواية الثانية فليس لها مثل أسلوب الأولى وليس لها مغزاها. ولقد صدرت رواية الرشيد بعهد الخديوي عباس ودليلي على ذلك ما جاء فيها من قول مؤلفها:

دام في عصر مشيد ... غوثنا عبد الحميد

وبه نجم السعود ... قد تبدى في صعود

وبعباس المعالي ... بسمت بيض الليالي

ومن هذه الأرجوزة الجذلة تعرف مقدار فهم القباني ومقدار مواهبه الشعرية والنثرية. ولا أضن أن للمكتبات الكبرى في القاهرة تخلو من آثار القباني إذ أنها كلها مطبوعة في القاهرة. وكانت في عصره منتشرة ولا يعدم الباحث المدقق وسيلة للعثور عليها كما وجدت أنا الوسيلة للاطلاع على بعضها على رغم فقدانها.

3 - أما ما ورد في السؤال الثالث عن احتمال وجود مدرسة فنية في دمشق اهتدت بهدى القباني وتتبعت خطاه، فهذا أمر ينفيه الواقع. لأن القباني بعد مغادريه الديار الشامية وهجرته لمصر انقطعت أخباره عن سوريا وتعطل المسرح من بعده وأنتقل هذا الفن إلى الديار المصرية حيث لقي بها تربة خصبة وصدراً رحباً وكان وصوله غليها في عهد الخديوي توفيق وعاصر عباساً ولم يعد إلى بلاده إلا بعد أن نشر الفن في ربوع النيل السعيد وتخرج هناك على يديه الكثيرون ممن ذكرتهم في مقالاتي السابقة في الرسالة الغراء. والشيء الذي أريد أن أقوله: أن القباني وقد مضى على تاريخ وفاته هذه السنون الطوال لا يزال أعقاب بعض أعدائه من الشيوخ المحافظين الذين كانوا يناوئونه ينظرون إليه نظرة المخرق الخارج الذي أحدث ثلمة في الدين وأوجد بدعة بما قام به من أعمال فنيه في ذلك الزمن. وهم يلومونني إذ أكتب عنه هذه الفصول. وهذا دليل على التأثير البالغ الذي أحدثته رواياته وقتئد لدى آبائهم وأجدادهم المعاصرين له، وقد غالى بعضهم في اللوم والعتاب وحظر على الكتلية في هذا الموضوع بداعي أنه يثير حزازات قديمة، وهؤلاء الأعقباب كما ترى قد ورثوا العداء لهذا المغني العالمي كابرا عن كابر، وأنا إذ أعود إلى نبش هذا الموضوع من جديد ألقي التبعة في ذلك على اتق السيد نجم لأنه هو السبب في أثارته من جديد فعليه يقع الكفر، وأنا إنما أنقل ما يطلب إلي، وناقل الكفر ليس بكافر

4 - وما طلب السيد نجم بإتمام بحثي عن القباني وفي الرسالة فهذه مهمة سأتفرغ لها وأكتب فصلاً خاصاً عن القباني الموسيقي كما كتبت عن القباني الممثل إجابة لرغبته وإن كانت هذه الرغبة تكلفني غالياً كما أشرت.

دمشق

حسن كنعان