الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 917/الفارابي في الشرق والغرب ومكانته في الفلسفة

مجلة الرسالة/العدد 917/الفارابي في الشرق والغرب ومكانته في الفلسفة

مجلة الرسالة - العدد 917
الفارابي في الشرق والغرب ومكانته في الفلسفة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 29 - 01 - 1951

الإسلامية

- تتمة -

للأستاذ ضياء الدخيلي

والحقيقة أن سمو مكانة الفارابي في الفلسفة كان حديث المتقدمين ولم يزل حديث المتأخرين العصريين. قال الأستاذ (أبو ريده) في تعاليقه على كتاب (تاريخ الفلسفة في الإسلام) للمستشرق (دي بوير) إذا كان الكندي قد أعتبر فيلسوف العرب تمييزاً له عن أقرانه من الفلاسفة غير العرب فإن الفارابي يعتبر فيلسوف المسلمين بالحقيقة كما يقول صاعد الأندلسي في طبقات الأمم وفيلسوف المسلمين غير مدافع كما يقول القفطي في أخبار الحكماء. أما ابن خلكان فإنه يقول في وفيات الأعيان إن الفارابي كان أكبر فلاسفة المسلمين ولم يكن فيهم من بلغ رتبته ويقول ظهير الدين البيهقي في كتابه تاريخ حكماء الإسلام المخطوط في دار الكتب المصرية، وكان أبو علي تلميذاً لتصانيفه وأورد هذا الرأي الشهرزوري أيضاً في كتابه نزهة الأرواح وروضة الأفراح المصور بمكتبة الجامعة المصرية. ويكاد يلمس الإنسان صحة هذا الكلام فيما يفوق الحصر من آراء ابن سيناء التي أخذها عن الفارابي من غير تغيير ف ألفاظها. ونكاد لا نجد في فلسفته شيئاً إلا وأصوله عند الفارابي. ويقول ديترصي في مقدمته لرسائل الفارابي (إن الفارابي مؤسس الفلسفة العربية) والذي يقرأ الفارابي يجد في تفكيره طرافة ونضوجاً وفهماً عميقاً يدل على طول تأمل في الفلسفة. وإذا كان الكندي الفيلسوف العربي كما ألمع (دي بوير) قريب الصلة بالمتكلمين وبالفلاسفة الطبيعيين - ونستطيع أن نعرف هذا من أسماء مؤلفاته - فقد لا نكون بعيدين عن الصواب إذا قررنا أن الفارابي أول فلاسفة الإسلام على الحقيقة وقد كان يحيا حياة الفلاسفة من زهد وانقطاع إلى التأمل.

وتذكرني كلمة (ديترصي) هذه التي تحدثنا عن إعجاب الفكر الغربي بالطرافة والنضوج والفهم العميق الذي بدل على طول تأمل في الفلسفة والأمور التي يوجدها في ما دونه الفارابي من الآثار الخالدة - يذكرني هذا بما قرأته للعقاد في رسالته عن (أثر الع الحضارة الأوربية) إذ قال إن الآراء الفلسفية التي قال بها أمثال الفارابي والكندي وابن سينا والغزالي وابن رشد وابن طفيل - لا تعد غريبة كل الغرابة عن مذاهب العصر الحديث لأنها لم تخل عن آراء تكلم فيها أساطين الفلسفة الإسلامية وعرضوا لها إما بالإسهاب أو بالإيجاز) وقد قال العقاد بعد ذلك ومن المشابهات غير البعيدة (أي بين آراء القدماء والمصريين) ما يصح أن يسمى الطور الأول لمذهب التطور (الذي نسب إلى داروين وكتابه أصل الأنواع) وقد عبر عنه الفارابي حيث قال في آراء أهل المدينة الفاضلة مفسراً لأقوال المعلم الأول إن ترتيب هذه الموجودات هو أن تقدم أولاً أخسها ثم الأفضل فالأفضل إلى أن تنتهي إلى أفضلها الذي لا أفضل منه. فأخسها المادة الأولى المشتركة والأفضل منها الأسطقسات (وهي الأصول والعناصر وهي على زعمهم الماء والتراب والهواء والنار) ثم المعادن ثم النبات ثم الحيوان غير الناطق وليس بعد الحيوان الناطق (أي الإنسان) أفضل منه. وقد تقدم لديترصي أن أعتبر الفارابي المؤسس للفلسفة العربية ويظهر أن هذا الرأي لم يقتصر على ذلك الكاتب الغربي فقد شاركه فيه بعض المؤلفين في الشرق فقد جاء في كتاب (دروس في تاريخ الفلسفة) في رأينا أن الفارابي (950م) على الرغم من جهل الناس به هو الأب الحقيقي للفلسفة الإسلامية فقد شاد بناءها وألم بأجزائها الرئيسية رابطاً بعضها ببعض ولا نكاد نجد فكرة عند خلفائه إلا ولها أصل لديه، وكل ما لهؤلاء من فضل غالباً أنهم وضحوا غامضه وفصلوا القول فيما أجمله. ويخيل إلينا أنه أعرف فلاسفة الإسلام بتاريخ الفلسفة لذلك نراه يتحدث عن المدارس اليونانية وبين الفوارق التي تفصل كل واحدة منها عن الأخرى ويحاول التوفيق بين أفلاطون وأرسطو طاليس (فيلسوفي يوناني في رأيه بلا جدال) وقد ألف كتباً عدة بعضها شرح لمؤلفات أرسطو طاليس أو مختصرات لها وبعضها الآخر كتبه ابتداء ليعبر به عن رأيه وبحثه الخاص وما وصلنا من هذه الكتب كاف لتفهم نظريته) وفي كتاب (نزهة الجليس ومنية الأديب الأنيس) أن الفارابي التركي الحكيم المشهور صاحب التصانيف المشهورة في المنطق والموسيقى وغيرهما من العلوم كان من أكبر فلاسفة المسلمين ولم يكن من بلغ رتبته في فنونه ويقول الأستاذ محمد فريد وجدي في (دائرة المعارف) الفارابي أبو نصر التركي الفيلسوف المشهور هو أكبر الفلاسفة الإسلاميين له تصانيف عديدة في المنطق والموسيقى وغيرهما من العلوم لم يكن من المسلمين من بلغ رتبته في فنونه) وترى تقارب العبارتين في الصيغة والمعنى والمبنى والظاهر أن مؤلف دائرة المعارف أخذ الترجمة من هذا الكتاب أو كلاهما تطفلاً على مؤلف ثالث، وكان العباس بن علي بن نور الدين المكي الحسيني فرغ من تأليف نزهة الجليس سنة 1148هـ.

ويقول الدكتور حسن إبراهيم حسن في كتابه (تاريخ الإسلام السياسي والثقافي والاجتماعي) ومن أشهر فلاسفة الإسلام أبو نصر ويعتبر أكبر فلاسفة المسلمين حتى لقب بفيلسوف المسلمين بالحقيقة وفيلسوف المسلمين غير مدافع أما ابن تغري بردى الأتابكي في (النجوم الزاهرة) فإنه يورد فيمن ذكر الذهبي وفاتهم في سنة 339 هـ قوله (وأبو نصر الفارابي صاحب الفلسفة) أما أبو الفداء المتوفى سنة 732 هـ فيكتفي أن يقول في تاريخه وفي هذه السنة توفى أبو نصر الفيلسوف ثم يتحدث عنه وعن دراسته وأسلوب حياته وأشياء أخرى ولكنه لا يهبه تلك الألقاب الضخمة التي يضفيها عليه من ذكره من المؤلفين الآخرين. ويقول ابن النديم من القرن الرابع في (الفهرست) (أبو نصر. . . من المتقدمين في صناعة المنطق والعلوم القديمة وجرجي زيدان من المتأخرين يقول عن الفارابي في كتابه (تاريخ آداب اللغة العربية) (وكان فيلسوفاً كاملاً درس كل ما درسه من العلوم وفاق في كثير منها وخصوصاً المنطق) ويقول الزركلي في (الأعلام) الفارابي ويعرف بالمعلم الثاني أكبر فلاسفة المسلمين ويقول ابن الأثير في التكامل) (وفيها توفي الفارابي الحكيم الفيلسوف صاحب التصانيف فيها) ويقصد إعادة الضمير من (فيها) إلى الفلسفة المفهومة ضمناً. ويحدثنا ياقوت الحموي المتوفى سنة 606هـ في (معجم البلدان) وإليها (إلى فاراب) ينسب أبو نصر الفارابي الحكيم الفيلسوف صاحب التصانيف في فنون الفلسفة.

وهنا نلاحظ أن ياقوتا الحموي وابن الأثير وغيرهما يذكرون في التعريف بالفارابي أنه صاحب التصانيف في فنون الفلسفة فلا بد أن تكون لفيلسوف المسلمين جملة مؤلفات ولكن المتداول والمعروف منها شيء زهيد لا يثير الكاتب عن الفارابي لأن ينعته ويعرفه بأنه صاحب التصانيف في فنون الفلسفة. ثم إن مؤرخي حياته يقولون أنه كان يقضي حياته بين الأشجار يكتب. إذن فهو مواظب دائب على الكتابة والتأليف منقطع عن الناس منعزل قد توفر وكرس وقته للكتابة وذلك يقتضي أن يكون كثير الإنتاج فأين ذهبت آثاره؟ لا شك في أنه كان له جملة كتب ومؤلفات ضاعت من العالم الإسلامي فيما ضيع من كتب علمائه وفلاسفته بتأثير النكبات وغزوات التتار.

والحروب والفتن الداخلية وقد لاقت كتبه مقاومة عنيفة من الغزالي وأنصاره ومن ابن تيمية وأتباعه ومن الحنابلة الذين لعبوا في بغداد أدواراً مهمة في اضطهاد الفلسفة. ويؤيد ما تقدم من ضياع كثير من مؤلفات الفارابي ما وجدته في كتاب (فصول الحكماء) إذ يروي مؤلفه محمد أبو الهدى الصيادي الرفاعي عن البيهقي أن للفارابي كتباً كثيرة يجهلها الناس وقد قال إن العلامة ظهير الدين البيهقي رأى في خزانة نقيب النقباء بلري كتباً كثيرة من مؤلفات الفارابي لم تطرق سمعنا وهي بخط الفارابي) وهذا مما يؤيده العقل إذا رجع إلى الأسباب المتقدمة.

والحق أن الناس قد تحدثوا كثيراً عن مكانة الفارابي في الفلسفة. قال الأستاذ مصطفى عبد الرازق يقولون الحكماء أربعة اثنان قبل الإسلام وهما أفلاطون وأرسطو، واثنان في الإسلام وهم أبو نصر الفارابي وأبو علي ابن سينا. وكان بين وفاة أبي نصر وولادة ابن سينا حوالي ثلاثين سنة وكان أبو علي بن سينا تلميذ لتصانيف الفارابي يعترف أنه لولاهما لما اهتدى إلى فهم ما بعد الطبيعة. وكما لقب أفلاطون بالحكيم الإلاهي وأرسطا طاليس بالمعلم الأول لقب الفارابي بالمعلم الثاني وابن سينا بالشيخ الرئيس وآراء الناس مختلفة في تقديم الفارابي أو ابن سينا. يقول ابن خلكان عن الفارابي (وهو أكبر فلاسفة المسلمين ولم يكن منهم من بلغ رتبته في فنونه والرئيس أبو علي بن سينا المقدم ذكره بكتبه تخرج وبكلامه انتفع في تصانيفه) أما الشهرستاني فيقول عند الكلام على فلاسفة المسلمين (ومنهم الفارابي وإنما علامة القوم أبو علي ابن سينا) فهو إذن يقدم ابن سينا على من اعتبره ابن خلكان أستاذه.

وهذا ابن سبعين الفيلسوف الصوفي الأندلسي الذي يقال أنه انتحر بمكة شوقاً إلى الاتصال بالله سنة 669هـ ويقول في كتاب له مخطوط ما نصه نقلاً عن المجموعة التي نشرها الأستاذ ماسنيون المستشرق الفرنسي المعروف (وأما الفارابي فقد اضطرب وخلط وتناقض وتشكك في العقل الهيولاني وزعم أن ذلك تمويه ومخرفة ثم شك في النفس الناطقة هل غمرتها الرطوبة أو حدثت بعد وتنوع اعتقاده في بقاء النفوس بحسب ما ذكر في كتاب الأخلاق وكتاب المدينة الفاضلة والسياسة المدنية وأكثر تآليفه في المنطق وعدة كتبه نحو خمسة وسبعين كتاباً وفيها من الإلاهيات تسعة وهذا لرجل أفهم فلاسفة الإسلام وأذكرهم للعلوم القديمة وهو الفيلسوف فيها لا غير، ومات وهو مدرك ومحقق وزال عن جميع ما ذكرته وظهر عليه بالحق بالقول والعمل ولولا التطويل لذكرت ذلك مفصلاً) هذا ما يقوله أبن سبعنين وقد تناول بالنقد اللاذع بل بالتحقير الشنيع أبن سينا والغزالي وأبن رشد.

إلى هنا نقف لنعود في القريب العاجل لنعرض لقراء الرسالة الكرام صفحات رائعة لأثر فلسفة الفارابي في العقل البشري فنستعرض سياحة الفارابي في أوربا ونشهد الموجات العنيفة الثورة التي صدمت هذا الفيلسوف فنستعرض الفارابي تحت مطارق خصومه في الشرق والغرب فإلى الملتقى.

بغداد

ضياء الدخيلي