الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 917/إسعاف النشاشيبي

مجلة الرسالة/العدد 917/إسعاف النشاشيبي

بتاريخ: 29 - 01 - 1951


بمناسبة ذكرى وفاته

للأستاذ كامل السوافيري

يصادف ظهور هذا العدد من مجلة الرسالة موعد حلول الذكرى الثالثة لوفاة زعيم العربية وإمام المحققين المغفور له الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي إذ طواه الردى في منتصف ليل اليوم الثاني والعشرين من يناير سنة 1948.

ومن حق الفقيد على مجلته الأثيرة التي خصها بنقلة، أن تفسح صدرها لدمعة عليه في يوم ذكراه وهي المجلة التي استمدت وفاءها من عميدها الكبير الذي كان ثالث ثلاثة استبقاهم الوفاء بجانب الفقيد في ساعاته الأخيرة، والذي عده الفقيد ثالث الكتاب بعد الجاحظ وأبي حيان وقال عنه أنه أمير النثر والناثرين وإنه سيد البلغاء. وهيهات لعلمي العاجز أن يتطاول فيحاول أن يوفي الفقيد حقه، أو يحصر مآثره على لغة الضاد وهو الذي حمل لواء الدفاع عنها خمسة وستين عاماً يصول في كل ميدان، ويجول في كل حلبة فما نبا له صارم ولا كبا به جواد. ولكنها عبرة أسكبها وزفرة أرجيها تقديراً لعلم من أعلام الأدب وكوكب مشرق في سمائه طالما أرسل ضياءه إلى دنيا العرب والعروبة.

ومن حق الفقيد على الأدباء في مصر والعالم العربي أن يحتفلوا بذكراه وهو الذي دوى صوته مجلجلاً في القدس ودمشق وبيروت والقاهرة وبغداد فهز القلوب بأسلوبه الرائع، وبيانه الساحر. ولكننا في الشرق - والأسى يملأ الجوانح - نضن بالوفاء على الأحياء فكيف بمن ضمهم الثرى، ووارهم التراب.

لقد كان الفقيد طرازاً خاصاً من الأدباء تعصب للفصحى واعتز بلغة الضاد وتصدى للداعين لنبذها والاستعاضة عنها برلمانة الغوغاء ورماهم بشواظ من بيانه فأخرس ألسنتهم، وله في ذلك مواقف رائعة تختال لها لغة عدنان بشراً وطرباً.

تعصب إسعاف للغة العربية لأنه يراها أهم عنصر في القومية، فمن تنكر للغته فقد تنكر لقوميته؛ ومن تنكر لقوميته فقد غدا حرباً على أمته وبلاده. وفي هذا يقول (اللغة هي الأمة، والأمة هي اللغة وضعف الأولى ضعف الثانية، وهلاك الثانية هلاك الأولى. واللغة ميراث أورثه لآباء الأبناء، وأحزم الوارث صائن ما ورث، وأسفههم في الدنيا مضيع، وإنا أمم اللسان الضادي لعرب وإن لغتنا لهي العربية وهي الإرث الذي ورثناه وإنا لحقيقون - والآباء هم الأباء واللغة هي اللغة - بأن نبقى عربية الجنس وعربية اللغة.) ولقد قضى الفقيد القسم الأول من حياته مدرساً للغة العربية في مدارس فلسطين قبل الانتداب البريطاني وبعده ثم سمت به كفاءته فارتقى حتى وصل إلى درجة التفتيش العام للغة العربية في القطر بأسره. فنهض بها نهضة ارتفعت بها إلى أسمى الدرجات رغم أن حكومة الانتداب البريطاني كانت تقاوم ازدهار اللغة العربية، وتحول دون تبوئها المكانة اللائقة كلغة قومية في قطر عربي. ومن مآثره الجليلة في هذه الناحية كتاب أسماه البستان اختار فيه مقطوعات شعرية، وكلمات نثرية يستظهرها الطلاب في مدارس فلسطين الابتدائية والثانوية، وكان موفقاً كل التوفيق في الاختيار إذ بث في نفوس الناشئة حب الوطن، والتطلع للمجد، والتأهب للوثبة. وله غير بستانه الزاهر رسائل منها كلمة في اللغة العربية وكلمة في رثاء أمير الشعراء شوقي بك، وثالثة في الزعيم إبراهيم هنانو. وآخر مؤلف طبعه كتاب الإسلام الصحيح. ورغم أن إسعاف قد ارتقى إلى ذروة المجد، وتسلم الشهرة في أفق اللغة والأدب، فقد كان على جانب كبير من دماثة الخلق، وحسن الطبع، وعظم التواضع حتى ليشعر محدثه بأنهما في مستوى واحد، والفرق كبير والبعد شاسع. وهو محدث لبق، والذين أتيح لهم أن يصغوا إليه في الكونتنتال حين يتوسط الحلقة، ويدير الدفة يشهدون ببراعة في الحديث وإجادة في التعبير. ولقد وقف إسعاف حياته على خدمة العربية لغة القرآن، وما رأيته إلا قارئاً أو خطيباً أو كاتباً أو معقباً أو مصححاً يستتر بأسماء متعددة ويتخفى بأزياء متباينة لأنه لا ينبغي مزيداً من شهرة أو ظهور.

والمجلات الشهيرة في العالم العربي وفي مقدمتها الرسالة في مصر ومجلة المجمع العلمي في دمشق زاخرة بأبحاث الفقيد في شتى النواحي العلمية والأدبية.

ولقد كان إسعاف قوي الإيمان، راسخ العقيدة. فاهماً للإسلام حق الفهم، القرآن حداؤه وغناؤه، والرسول الكريم قدوته وفي (خورنقه) نجد اسم محمد ﷺ معلقاً أمامه على الجدران في صور متعددة. يا محمد - أنا عبدك يا رسول الله.

وتهتز أعطافه عندما يرتل آي الذكر الحكيم ترتيل العربي الصميم الذي أحاط بأسرار اللغة العربية ففهم الآيات الفهم الكامل وأدرك ما ترمي إليه من أهداف ومقاصد، وهو الذي يقول في القرآن:

(يا أيها الكتاب المعجز، لقد هلك من يدرك فصاحتك، ويكتنه بلاغتك، ويقدرك حق قدرك، لقد هلك من كنت تتلو عليهم آياتك فيدهشون ويخرون سجداً وبكيا. وهل يعرف بلاغتك المعرفة البالغة إلا عربي قح صليب لم تشن ملكته العربية من العجمة شائنة ولم تؤذ أذنه كلمة قلقة)

وبعد فقد عرفت إسعاف عندما استظهرت أول مقطوعة من بستانه في مدارس فلسطين؛ ثم امتد بي الزمن فالتقيت به وعرفته محدثاً ومحاضراً وكاتباً وخطيباً مفوهاً يستحوذ على القلوب ويلعب بالعواطف، وكان إعجابي به يتزايد وتقديري له يعظم؛ ولكني دهشت للجهد الجبار الذي بذله في إخراج كتابه (الإسلام الصحيح) الذي تفضل بإهدائه إلي منذ عشرة أعوام.

لقد أخرجت مطبعة العرب في القدس هذا الكتاب سنة 1354هـ وقد ذكر فيه المؤلف بعض المراجع، وأخذت أنا أحصي ذلك البعض فإذا به لا يقل عن مائتي مرجع في شتى العلوم والفنون من لغة وأدب وتاريخ وملل ونحل وفقه وشريعة وأصول، ولما تصفحت الكتاب وجدت في ثنايا صفحاته مراجع أخر غير التي ذكرت قبلاً فلم أستطع تجاه ذلك المجهود إلا أن أحني هامتي إجلالاً واحتراماً لتلك القدرة على الدرس والبحث والاستقصاء التي قلما تتهيأ لكثير من الناس.

ولقد صدر الفقيد ذلك الكتاب الذي نفدت طبعته بمقدمة صغيرة جاءت آية في البلاغة والإعجاز وبرهان صدق على تمسك الفقيه بدينه، واعتزازه بيقينه؛ إذ يقول عن الإسلام (الإسلام هو دين الحق. ومن يتبع غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ومحمد خير الخلق وهذا الكتاب وهذا الأثر وهذا تاريخ البشر فاقرأ كتاب كل دين وانظر أثر كل عظيم وفتش صحف التاريخ واحكم إن كنت من الحاكمين. هات، هات وهيهات أن تجد مثل القرآن وحياً أو رقيماً، واذكر نظير محمد نبياً أو عظيماً إن تذكرت أو تفكرت ونقبت وحققت فمثل القرآن كتاب الله مات أوحى الله وما أنزل، ومثل محمد (صلى الإله على محمد) فمثل محمد في الدنيا ما كان ومثل محمد في العالم لن يكون) ويتحدث عن القرآن فيقول:

الضياء قد بهر إشعاعه في حروف وكلمات، والكهربية إلهية تسري في عبارات، والمعجزات - لا الشعبذات - بينات في آيات وإلهي من لدن الله يسير في الأرض مع الناس هادياً ودليلاً ذلكم هو القرآن الذي يتلوه القارئون.

محمد دينه التساوي ودينه العدل والنصفة، فلا شريف ولا مشروف ولا كبير ولا صغير ولا أمير ولا مأمور ولا قبيل أفضل من قبيل ولا قوم خير من (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) والفضل بالفضل والتقديم بالفعل وأن ليس للإنسان إلا ما سعى.

رحمك الله إمام العربية، وأمطر على قبرك شآبيب الرحمة والرضوان جزاء ما أسديت للغته وقرآنه.

كامل السوافيري