الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 916/القَصَصُ

مجلة الرسالة/العدد 916/القَصَصُ

بتاريخ: 22 - 01 - 1951


دمعة فاجر!

للأستاذ عبد اللطيف الشهابي

(. . . إلى الذين تاهوا في فلوات الغي والضلال. إلى الذين

ابتعدوا عن المورد العذب. إلى فرسان الضباب. . أقدم هذه

الأقصوصة!!).

يالي من عربيد فاجر!.

كنت أجري وراء اللذات، أينما حلت وحيثما ارتحلت، كنت أشتريها بأي ثمن كان، فأندفع إليها اندفاع الطائش المغرور، وأنا غائص في الأوحال. أعمى من رماد الزمن. . تصرعني الجذوة الحمراء وهي تلح ذروة سعيرها!

رافقت الشيطان في رحلته، ورقصت معه على أشلاء الفضيلة ونحن نردد أغانينا المحبوبة: في رقصتي عطر وكأس وجسد!.

كنت أقصى الساعات والليالي بين صخب وعربدة ومجون بين قصف ورشف وأنعام. . تبهرني الأضواء الساطعة، وترسل صداها في نفسي، فتركني مغموراً بدنيا أسراري، بدنيا لذاتي متطلعاً بلهفة قائلة، لعلي أفهم كنه ذلك السر المجهول!

كنت أسير عواطفي، أتقلب بين الشك ويقين، بين الكفر وإيمان، بين حيرة ورشاد. . أندفع بكياني رغم كل شيء، فتتراءى لي من بعيد، من هنالك أخيلة وهواجس، رؤى وأحلام، أنوار وسراب. . فأنسرب في المجهول وأنا غير هياب، أفتش عن سر دفين، عن تلك القوة الهائلة التي تجذبني قسراً إليها، فتحطم أغلال إرادتي. . فأندفع اندفاعه طائشة، وأنا أرتجي الخطوة، أرتجي الأمل الذي يتراءى لي من بعيد - كما أتصور ذلك - فبقيت في حيرتي هذه بين مد وجزر، أفتش عن كل شيء، أريد كل شيء. . . ماذا أريد؟! أريد طريقي!. وأي طريق؟! طريقي القهقري، طريقي الوعر اليابس!! أريد مواكبي! وأي مواكبي؟! موكب الذكرى، مواكب الشباب المضر، موكب التوبة. . ولكني كيف؟! وقد فاتني الشباب، وقد غصت في الأوحال، واندفعت في الخطيئة إلى أبعد مراميها!.

أجل كنت هكذا. . لا أعرف سبيل التوبة ولا طريق الغفران. . قل عني ما تشاء أيُها القارئ. . قل إني فاسق حقير سافل! ولكني تمهل قليلا حتى أسرد لك هذه القصة التي بدلت وجه حياتي. هذه القصة الفاضلة بين لذتي وزهدي بين غوايتي وهدايتي!. بين أغنية الشيطان وبين تسابيح وغفران. . . هي قصة حياتي أقصها كما هي.

(. . . حثثت خطاي الحمر. والجذوة الصارمة تفتك بي وتدفعني بقوة هائلة. . إلى هناك، إلى أحد تلك البيوت السرية المنتشرة في الجانب الغربي من بغداد. وكان معي صديق عزيز، يشاركني وأشاركه في كل شيء لا يتركني في أي لحظة. . . سار. . . من هو؟. . . أنه. . . الشيطان، ذلك الدليل الخبير!.

أجل سار معي إلى هناك في طرف بعيد منعزل، في محلة حقيرة من المحلات، يطلقون عليها اسم (محلة الذهب)، ولا أدري أسماها بهذا الاسم؟! ولم أطلق عليها هذا النعت؟! الآن الذهب يسيل من أصابع روادها، فيغور ويختفي في خزائن أهلها؟.

ودخلنا أحد المواخير، أنا وليلى. . . دخلنا متلصصين، دخلنا نطلب المتعة ونغوص في الآثام!.

وفي غرفة حقيرة، تكاد تكون مظلمة، لولا ضوء خافت يتأرجح من مصباح زيتي معلق في ركن من أركانها: جلسنا هناك على أريكة متداعية، راحت تئن تحت ثقل أجسامنا! ورحت أنقل بصري في أرجاء هذا الخداع، إن جاز لنا أن نسميه مخدعاً. وإلا فهو أشبه ببيت أرملة فقيرة أتت على البقية الباقية من مخلفات زوجها؛ فلم يبق منها ما يستحق الذكر، أو ما يستحق أن تبيعه! هناك سرير قديم محطم الأوصال مزعزع الأركان، عليه فراش قذر تمزقت أطرافه، وأطلت منها بجزع شديد بقايا من صوف أدكن، وكأنه امتزج بحفنات من طين.

وربطت فوق هذا الفراش ستارة بالية مهلهلة، توارى لونها الأبيض وحل مكانه لون قاتم سقيم. . وتناثرت هنا وهناك بقع جامدة كأنها عيون فاجرة، أو كأنها بصقات الشيطان.

وعلى الجدار. . علقت حصير صغير عض عليها الزمن فسلب ألوانها، وكأنها شعرت بهذا الخزي الفاضح فراحت تتلاشى في الجدار، وتختفي وراء صور باهتة ممزقة انتزعت من مجلات عديدة. وفي طرف آخر، وقرب نهاية السرير، علقت مرآة كبيرة قد تخر الدود إطارها الأسمر، فأصبحت كخلية نحل مهجورة فباتت الصراير فيها وتصفر.

جلسنا هناك، أنا وصديقي، تفضي ليلة حمراء، ليلة صاخبة رعناء. وبقينا هنيهة جالسين، تنتظر شريكتنا وهي فتاة ممشوقة القوام، ريانة العود. اخترتها حين دخولي في هذا الوكر.

وران علينا الصمت. . . فبقيت أتملى في أرجاء المخدع. . . ماذا؟! لا أدري ماذا اعتراني؟! كأن عيني في تلك اللحظة لم تألفا رؤية هذه الأشياء، وكأنني لم أتردد إلى مثل هذا المكان من قبل. . . تخيلت في تلك اللحظة أن عيوناً ترقبني وتترصد حركاتي، وكأنني أرى وجوها تتطلع إلى باحتقار واشمئزاز، فأخذت أضغط على نفسي وأعتصرها بقوة، لعلها تهرب من هذه اللجة الطاغية، من هذه السور العاتية. . . أردت أن أفر من تلك الكابوس المخيف الذي استولى على في تلك اللحظة. . . عند ذلك، وفجأة امتدت يدي إلى جنبي وأخرجت زجاجة صغيرة بيضاء، لأغسل جوفي بما فيها من سائل أبيض كالحليب!. . . وبعد لحظات قصار شعرت ببعض الهدوء يسيطر على نفسي، وببعض الاستقرار يدب في أحاسيسي وهي تحرر في عنف وجنون. . . ولم أشعر آخر الأمر، إلا أنني أستفيق من شروري على كف بضة تمتد إلى برفق ولين فتربت على كتفي!. فرفعت رأسي قليلا وكأنني قد نسيت تماما أين أنا؟! وماذا أريد؟! ومن جاء بي إلى هذا المكان؟! ولكن. . . تذكرت بعد أن ارتفعت ضحكة ماجنة في فضاء الغرفة وإذا بها غانيتي التي ستشاركني ليلتي هذه. . . وكانت قد أخفت قسمات وجهها وراء أصباغ ومساحيق. . . وراحت نحو السرير بخطوات متعثرة واهنة واستقلت عليه بإعياء شديد.

وبقيت في مكاني، كأنني قد سمرت على المقعد، أو كأن أغلالا قوية قد ربطت جميع أطرافي. . . يا للهول!! ماذا أحس؟! وماذا أرى؟! زاغت نظراتي، إلى هناك، إلى تلك المرآة المعلقة على الجدار، فتطلعت إلى صورتي، إلى قسماتي!! وحملقت فيها مشدوهاً وفتحت فمي كالمرعوب، وأردت أن أنطلق بشيء، أن أزعق، أن أصرخ. . . ولكن. . . ولكن الكلمات احتبست في عنقي، وغاض السخط في نفسي. . . أتلك هي صورتي؟! تنطلق بالرجس والخسة، تنطلق بالشر والجريمة. . لقد أنكرت كل شيء، ورحت التفت حولي، وأردت نظراتي فسقطت لاهثة متعبة على جسد تلك الأنثى، ذلك الجسد الذابل المنهوك التي تفوح منه رائحة المعصية. . لقد تخيلته في تلك اللحظة - ولا أدري لماذا!؟ - جيفة نتنه تطفو على مستنقع آسن، تصورته أشلاء متناثرة وأعضاء آدمية مشوهة لطخت بالدماء والأوحال!!.

فثارت نفسي ثورة عاتية، ثورة صاخبة. . . ورأيتني وبدون أن أشعر، أتحفز الوثوب والانقضاض. . . على من؟! وتلفت حولي فلم أجد من أستحق عليه لعنات ثورتي، لم أجد هنا غير هذا الجسد المستباح، غير الفريسة المستسلمة الخانعة وهي لا تزال في ضجعتها على السرير. . . وكأنها اطمأنت لهدوئي وسكينتي فراحت تستريح من وصب الحياة، بل راحت تسترد قواها المنزوفة طيلة النهار.

ورحت أنظر إليها متهالكة تنظر إليَّ نظرة عطف وإشفاق. . . بل رحت أقارن بيني وبينها: إنها ضحية مجتمع فاسد ونظم بالية سقيمة!. لقد دفعتها الأوضاع الشاذة في طريق الإثم والجريمة، بعد أن امتدت إليها أصابع الزمن العاتية، فاستلت منها خيوط الرجاء والسعادة، فأصبحت مومساً فاجرة تعيش قسراً بهذا المحيط الموبوء، وهي موصومة ببصقات الاحتقار. . . إنها عرض مهدر وشرف مضيع يعبث به من يشاء، بثمن زهيد!

وأنا. . . عربيد فاجر. . . ولا أقول ضحية ثانية من ضحايا هذا المجتمع. . . أنا دفعت بيد هذه المسكينة وبأمثالها من بنات حواء، إلى مثل هذا الطريق الشائك، طريق الإثم والغواية! وجررتها إلى مثل هذه الحياة الملتوية القذرة. . . فالويل لي ولأمثالي من أبناء آدم، والويل كل الويل لأمة لا تستطيع أن تكفل لأبنائها لقمة العيش!

وفجأة، شعرت أن بركاناً ثائر الأنفاس كان قد انبثق في تلك اللحظة في أغواري، وأحسست أن جميع أدراني وأوزاري قد تساقطت على الأرض الواحدة تلو الأخرى، وكأنني شعرت بموجة من الندم تطغى على مشاعري، وأن شعاعاً لذيذاً تسرب إلى أوصالي، فراح ينير لي تلك الزوايا المظلمة من جوانب نفسي ونوع من الشعور لم أعرفه من قبل: هذا عجب! إن روحي تغتسل في هذا الفيض الإلهي الذي يغمرني. . . فأصبحت لساعتي - وبهذه السرعة - ثائراً على الأوضاع والتقاليد ساخطاً على أهل الصلف والعجرفة من الأغنياء، كارهاً لدهري الطاغي، ناقماً على المجتمع الذي احترف الخداع ودرجة على الشر والظلم، فراح يسدل على الحقائق ستاراً من العفة الكاذبة والورع المصطنع! كل هذه الثورة قذفتها على العالم، على هذا الكون المائج بالخبائث والمنكر، وأنا لا أوال على المقعد لا أريم؛ عند ذاك قمت من مكاني وأنا في أشد حالات الهياج والسخط، قمت لأصب غضبي، لأقذف شتائمي ولعناتي. . . ولكن على من؟ وليس أمامي غير هذا الجسد النضو الطليح، غير هذه الضحية البريئة التي تحركت من مكانها ونهضت جالسة حين أحست بخطواتي تقترب منها. . . وجلست بقربها، وأخذت أحدق بعيونها، فوجدتها جميلة أخاذة، يشع منها بريق فيه ذل الوضيع، فيه ثورة المتكبر! وعلى قسماتها لاحت ومضات إنسان ثائر تلتمع من تحت رمادها جمرات من أنوثة ملتهبة!

وراحت تحدثني حديثاً عابراً لا شيء فيه، فكأنها اطمأنت إلى هدوئي ودعتي، وكأنها استقرت على رأي قاطع، تكهنت في أمره فلم أظفر بهذا القول الذي قطع على تصوراتي، قالت وهي تبتسم ابتسامة مغتصبة:

- بربك. . . خبرني ماذا تريد؟! لقد حيرتني. . .

فأجبتها وأنا على حيرة من موقفي هذا:

- جئت لأعرف قصتك!.

قلتها وأنا متهيب، فأجابت على الفور:

- قصتي؟!

وانفلتت منها ضحكة تخيلتها عواء مبحوحاً انطلق في جوف ذلك الليل المختنق الأنفاس، ثم أردفت وهي عابسة:

- قصتي. . . هذا بديع. . . إذن أنت لم تطلب مني لذة الجسد.

- لا. لا. . . أريد قصتك، الحقيقة أصارحك القول جئت أول الأمر في طلب اللذة، ولكنني الآن عدلت عن رأي، فلم أطلب منك شيئاً غير قصتك. . . وكفى.

وراحت تتفرس في وجهي. . . وكأنها تريد أن تنفذ إلى أعماقي لتستجلي السر الدفين الذي دفعني لأن أطلب منها هذا الطلب اليسير! ولما اطمأنت إليَّ وعرفت صدق قولي ونبل غايتي، ابتسمت قائلة:

- إذن سأكشف لك عن جراح قلب أدمته الأيام. . . قصتي أيُها الصديق تتلخص في سطور قليلة، ولا حاجة هناك للشرح الطويل والمقدمات المسهبة: تزوجت من شاب أحببته وأحبني. . . وبقيت سعيدة هانئة في ظلال الزوجية. . . ومرت ثلاثة أعوام كلها صفاء وبلهنية!. ومن ثم ضحكت الأقدار هازئة ساخرة، وانقلبت الكأس الحلوة، فانثالت قطراتها على اليباب!. مات زوجي مصاباً بالتدرن الرئوي وتلفت حولي فلم أجد فسخة من الأمل المنتظر، لم أجد في هذه الحياة من أركن إليه وأستظل تحت جناح رحمته، لم أجد من ينقذني مما أنا فيه. وأظنك ستسألني عن أهلي. لقد مات أبي بعد زواجي بأيام قلائل، وتبعته أمي بعد عام واحد. . . أجل لقد بقيت وحدي ضالة شريدة، حتى التقطني رجل فاجر سكير، كان قد افتتح له محلاً في شارع (الرشيد)، وقد أطلق على محله (وسيط الخدم). . .

- وسيط الخدم!!

- أجل. . . وهذا الوسيط باعني بدوره إلى تلك السمسارة التي رأيتها عند دخولك هذا المكان وهي جالسة عند الباب الداخلي وتراني ملهاة لكل من ينهد الإثم والخطيئة، أغوص في هذا المستنقع العفن، هالكة مع رغبات الرجال، أمنح نفسي لطلاب اللذة والجسد، وللكلاب المنتشرة الحائمة على الجيف، أرافق فرسان الضباب في غزواتهم ونزواتهم!.

انتهت من قصتها وأنا أتطلع إلى وجهها الذابل وقد التهبت خلفت هذا الذبول تلك الشعلة التي اعتصرتها أصابع الزمن، وخنقتها أحضان الفجور. . . فأطرقت خجلاً وحياء. . . ممن؟! لا أدري!! ولكنني شعرت بأنني أغوص إلى أذني في العار والإثم، وأنا أسمع من بعيد ضحكات عريضة مجهولة تتجاوب في أنحاء الغرفة!. تلك كانت ضحكات الشيطان!

ونظرت مرة ثانية، إلى تلك المرآة المصدئة. . . فرأيتها. . . يا للعجب! قد انجلى الغبار عنها، وتساقطت تلك الأقذار التي كانت تغطي وجهها الصقيل، فإذا بها تتلألأ بأنوار ساطعة ولمعان غريب، ينفذان إلى الأعماق. وسقطت نظراتي هادئة رخية، ورحت أتفرس في قسمات وجهي. . . أحقاً ما أرى؟ أراها مشرقة لامعة، تشع بأنوار زاهية، ببريق ساحر أخاذ لم أعهده منذ زمن بعيد. . . منذ عشر سنوات، عندما كنت، في ذلك الزمن: أدرج في النور، وأتعشق الهدوء والاستقرار، كالطفل البريء ببسمتي الضاحكة وأساريري المشرقة. . أجل كنت هكذا قبل أن أخوض هذا الخضم المتلاطم، قبل أن تجتاحني أنواء الزمن العاصفة، قبل أن اشترك في معركة هائلة، أصبحت فيها حليف الشيطان وعبد شهواته، أسير في موكبه طائعاً ذليلاً. . . قبل أن أكون سيد ضميري وعبد إرادتي، قبل أن أكون من راكبي الآثام والموبقات. . . قبل تنتصر جيوش الرذيلة الفاتكة على فلول الفضيلة المنحدرة. . .

والآن. . . وفي هذه اللحظات، وبعد هذا الانقلاب الفجائي، حلفت نفسي تفتيش عن طريق المتاب، تريد أن تحرق دموع الندم على عتبات المستقبل القريب.

وتلفت حولي في أرجاء المكان، وهناك امتدت نظراتي تفتش عن منفذ للخلاص، عن طريق مستقيم، عن منقذ جبار أفزع إليه بعد إخفاق الأماني. . . فرأيت صديقي، ذلك الشيطان قد نحر نفسه خائباً على عتبة هذا المخدع الذي ارتفعت في فضائه ألحان التوبة والغفران، من قلوب طهرتها الأيام وغسلتها دموع الندم والاعتراف.

وعاودت أنظر إلى صاحبتي، فرأيتها تبكي بدموع غزيرة راحت تتساقط كاللؤلؤ المنثور على خديها وتنساب على وسادتها. . . يا لها من دموع طاهرة نقية. يا لها من لحظة عصبية كشفت أمامي سر هذه الروح المعذبة الملتاعة، هذه الروح التي صفدتها أغلال الغواية، أغلال الإنسان الآثم الجاحد. . . هذه الروح التي هصرتها يد الطغاة الظالمين، فتركتها نفاية حقيرة ملقاة في زوايا النسيان.

وطغت على موجة من الإشفاق والحنان، موجة استحوذت على كيان وشغلت أحاسيسي، فصممت على أمر عظيم، أمر أقل ما يوصف به إنه عمل إنساني يثلج له صدري، وأستحق عليه مرضاة وجه ربي ومغفرته، لعله يمحو ما بذمتي من عقوق وكفران! فأمسكت بيدها ورفعتها إلى فمي لأطبع عليها قبلات حري، قبلات استفزت فيها عصى الدموع، تلك الدموع التي كنت أضن بها يضن الشحيح على كنزه. وتلفتت نحوي كأنها تستجير بي، كأنها تريد أن تقول لي: أهرب بي من هذا الأتون المتهب، من هذا الجحيم المسعور. . . هيا. . . هيا.

ولم أشعر بعد ذاك، إلا أنني أمسك بيدها وأخرج بها مسرعاً من الدار، كما لو كانت ترقبنا ألف عين، وتتسمع إلينا ألف أذن. . . وكان الليل يجود بأنفاسه الأخيرة، والشوارع توشك أن تقفر إلا من رواد الظلام، وعشاق الحانات، وفرسان الشهوات والآثام. . .

وغبنا في ثنايا الطريق، ورحنا نقطع الدروب على هدى ضوء باهر انبثق من قلبينا المتفجرين بإيمان جديد. . . ومشت معي طائعة سلسة القياد: لأقضي معها بقية عمري، ولأدفن بين يديها بقية من عفة لا تزال تضج في القلب.

العراق - الحلة

عبد اللطيف الشهابي