الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 915/للأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 915/للأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة - العدد 915
للأدب والفن في أسبوع
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 15 - 01 - 1951


للأستاذ عباس خضر

أشرت في عدد مضى من (الرسالة) إلى المحاضرة التي ألقاها الدكتور أحمد أمين بك في حفلة افتتاح مؤتمر مجمع فؤاد الأول للغة العربية، وموضوعها (جمع اللغة العربية) ووعدت بتلخيصها تلخيصاً يتضمن فكرتها كاملة. واليوم أذكر هذه الخلاصة، ثم أعقب عليها ببعض الملاحظات.

بدأ الدكتور بأن المثقفين كانوا في العهد الأول وصدر من الدولة العباسية يأخذون اللغة من لأفواه العرب، وكان بعضهم يذهب إلى البادية ويقيم فيها يتعلم فصيح اللغة من أهلها، فلما جاءت موجة التدوين أهتم قوة بجمع اللغة، فجمعوها أولا من لغة القرآن الكريم والأحاديث التي صبحت عندهم، ثم تنقلوا بين القبائل العربية يجمعون كال ما يسمعون. ثم جد المؤلفون بعد ذلك في حذوهم أهل الحديث، فقسموا اللغة إلى متواتر وآحاد. وبين المحاضر معنى كل من المتواتر والآحاد، وعنى خاصة بالاعتراض على طريق المختلفة لجمع اللغة، ووصل من ذلك إلى أنها كانت بدائية غير منتظمة، إذ قال: إنما كان عملهم في الجمع بائيا غير منظم، إذ قال: إنما كانوا يلتقطون ما يسمعون من الألفاظ ويدونها ولم ينصوا في الأعم الأغلب على القبيلة الواحدة التي جمعوا منها ألفاظهم.

وأعبر تلك المقدمة عبراً، فالمحاضر - فيما يبدوا لي - يبغي من عرض طرق جمع اللغة وما أدت إليه من الكثرة وتضخم المعاجم، الوصول إلى (الترادف) ليفنذه وببسط فيه رأيه. فالترادف أصله جمع الألفاظ من القبائل المختلفة لتكون كلها لغة عربية ويقع فيها تعدد الكلمات لمعنى واحد آتياً من استعمال كل قبيلة لكلمة منها، يقول الدكتور: والقبائل كانت أعقل من أن تضع كل قبيلة لفظين لمسمى واحد، فالقبيلة التي تستعمل كلمة (السكين) لا تستعمل كلمة (المدية) والقبيلة التي كانت تستعمل كلمة (البئر) لا تستعمل كلمة (الفليب) فلما كان الجمع بدائيا، وجدت ألفاظ كثيرة مترادفة، ومن ثم كانت المعاجم مملوءة بالمترادفات. وفي رأيي أن المترادفات مع إعادتها للشاعر خصوصاً في الشعر العربي الذي يلتزم القافية وخصوصاً في الملاحم الطويلة التي تشمل على أبيات كثيرة يحتاج معها إلى مترادفات كثيرة. وقد أنكرها ابن فارس وثعلب، فقد روى أن ابن خالويه ق حضرة سيف الدولة بن حمدون: إني أعرف للسيف خمسين اسماً، فقال ابن فارس إني لا أعرف له إلا اسماً واحداً وهو السيف. فقال ابن خالويه: وماذا تقول في المهند والصمصام والمتار؟ قال إنها صفات. يعني بذلك أنها اختلفت لدلالاتها على صفات غير الاسم، وذلك كأسماء الله الحسنى فإنها تدل على صفات أكثر مما تدل على الذوات. والترادف في نظري ليس مزية من مزايا اللغات، بل هو عيب من عيوبها، فإن كان موجوداً في اللغات القديمة. والمثل الأعلى للغة: لفظ واحد لكل مسمى، فلا ترادف ولا اشتراك، ولذلك كانت المترادفات في اللغات القديمة أكثر منها في اللغات الحديثة. ومع أن ألفاظ كثيرة عدت مترادفات وإن لم تكن مترادفة لدقة الفروق بينها مما أدى إلى عناية بعض العلماء من المستشرقين وعرب إلى تأليف كتب في الفروق، كما فعل أبو هلال العسكري وكما فعل بعض الآباء اليسوعيين - إلا أنها مع ذلك من غير شك كثيرة في اللغة العربية، مما ملأ المعاجم بالمترادفات وضخمها ضخامة كاذبة.

وأخيراً قال الدكتور: ماذا نستنتج من كل ذلك؟ نستنتج منه أن اللغة قد تضخمت تضخماً مزيفاً كثيراً، وكانت نتيجة ذلك تضخم المعاجم تضخماً أيضاً مزيفاً، وقد كان يقبل هذا لو تدهمنا الحضارة الغربية بكثير من المسميات والمعاني نحتاج لها إلى ألفاظ كثيرة، وهي تغمرنا كل يوم بمئات المصطلحات التي كثيراً ما نعجز عن مسايرتها، فكان المعقول أن نتخفف من كثير من الكلمات، لنفسح مكاناً لها في المعاجم. وقد فعلت قريش خيراً مما فعله جامعو اللغة العربية ومؤلفو معاجمها، فإنهم صفوا اللغات المختلفة ونقوا خيرها واستعملوه لغة لهم وبها نزل القرآن، فلم يجمعوا كل ما قيل عن القبائل بل نخلوه واقتصروا على ما حسن وقعه في أسماعهم وراق في أذواقهم. بقى سؤالان عامان، وهما: ألم يرد في القرآن الكريم مترادفات لنثبت أن قريشاً اختارت من اللغات أحسنها، والسؤال الثاني: أيهما خير، أنضحي بوحدة القافية في الشعر لتنقية اللغة من المترادفات، أم نبقى عليها للإبقاء على الشعر العربي في شكله القديم؟ ومن رأينا في الإجابة عن السؤال الأول أن ليس في القرآن مترادفات، وإنما كلمات باختلاف موضعها، فقد تكون كلمة أوقع في محلها، وتكون الأخرى أوقع في محلها الآخر، وقد أدرك الجرجاني في دلائل الإعجاز ذلك إذ قال إن كلمة أيضاً ليست من الكلمات التي تستحسن في الشعر ولكن وردت جميلة في بيت شعر وهو: غير أني بالجوى أعرفها ... وهي أيضاً بالجوى تعرفني

وأما عن السؤال الثاني فيمكننا أن نهدر المترادفات ونهدر معها ورود القصيدة على قافية واحدة، ويمكن في الملاحم وأمثالها أن نغير القافية في كل عدة أبيات كل اضطر البستاني أن يفعل في ترجمة الإلياذة، وبذلك كله نفسح مكاناً واسعاً في المعاجم للكلمات الحديثة والمصطلحات الحديثة. وإذا لم تتح لنا فرصة الإجادة في الشعر المرسل كما حدث في بعض اللغات، فليس أقل من أن نغير القافية بين جملة من الأبيات وأخرى، وليست وحدة القافية بالأمر المقدس الذي لا يصح أن نخرج عنه، ولكنه أمر اعتيادي وتقليدي، مرده كله إلى الأذن الموسيقية.

تعقيب

نرى أن النتيجة العملية التي يستخلصها الدكتور أحمد أمين بك من ذلك البحث الذي يعتبر حلقة في سلسلة بحوثه اللغوية التجديدية التي يلقيها في مؤثرات المجتمع - هي إعادة النظر في ذلك التراث المتضخم دون فائدة لنحذف منه المترادفات كي تحل محلها في المعاجم الكلمات والمصطلحات الحديثة، ويرى الأستاذ أن المثل الأعلى للغة أن يستعمل فيها لفظ واحد للمعنى الواحد وأن لا حاجة إلى المترادفات إلا في قافية الشعر التي يمكن أن نستغني عنها. وأنا أوافق الأستاذ الكبير على أن قافية الشعر ليست مقدسة وأنها لا تبرر ذلك التضخم الذي وصفه، بل إنني أذهب إلى أبعد من ذلك، فأعجب كيف ثرنا على القافية في النثر المسجوع وأقررنا في الشعر، والأمر فيهما واحد من حيث القيد الصناعي الذي يرجع إلى الأذن الموسيقية.

ولكن هل الغرض من الترادف الإعانة على القافية؟ لقد جاء في تعبير الدكتور بالمحاضرة قوله: (فإنهم صفوا اللغات ونقوا خيرها) ترى لماذا استعمل (نقوا) بدل (اختاروا)؟ إنه فعل ذلك لأن عبارة (اختاروا خيرها) يثقلها اجتماع الخاءين وهنا أسفه الترادف بالفعل (نقي) الذي لا يثقل في النطق والسمع مع (خيرها) وقال أيضاً: (واقتصروا على حسن وقعة في أسماعهم وراق في أذواقهم) ولو كرر (حسن) مكان (راق) لما حسن وقع الكلام في الأسماع وراق في الأذواق. . ولو أنه أخذ باقتراحه في صياغة المحاضرة فقرر الاكتفاء بالفعلين اختار وحسن دون مرادفاتهما لوقع في حرج من ثقل التعبير. ومثل هذا ما قاله الأستاذ نفسه عند نفي الترادفات في القرآن، فقد رأى أن ما فيه كلمات تختلف باختلاف موضعها فقد تكون كلمة أوقع في محلها وتكون أخرى أوقع في محلها الآخر والمتأمل في هذا لا يراه خارجاً عن الترادف وإنما هو استعانة به على استعمال الشيء في موضعه.

وقد تعرض الأستاذ لرأى ابن فارس في الترادف إذ أنكر ابن فارس وجوده في اللغة ووجه الكلمات المتعددة التي تطلق على شيء واحد بأن واحداً منها هو الاسم والباقي صفات كأسماء الله الحسنى، ولم يعن الأستاذ بتنفيذ هذا الرأي مع أنه يتفق وفكرته من حيث رأى أن اللغة تثقلها مترادفات كثيرة يجب التخلص منها. وفي نظري أن تلك الكلمات وإن كان قد لوحظ في استعمالها الأول ما بينها من فروق إلا أن هذه الفروق قد ذهبت مع الزمن وصارت الكلمات ذات دلالة واحدة، فالشاعر - مثلاً - إنما يأتي بكلمة (مهند) لأن القصيدة دالية، ولو كانت ميمية لأني بلفظ (صمصام) من غير شك.

ولو فرضنا أن هناك لغة ينطبق عليها المثل الأعلى الذي ذكره الأستاذ، فإن الإنسان لا يتصور لهذه اللغة أدبا، فقد كفى بحاجة التعبير العلمي واليومي، ولكنها تكون بعيدة جداً عن الاعتبارات التي تلاحظ في حسن وقع الكلام، وفضل كلمة على أخرى في موضعها، وفي الظلال التي يضيفها لفظ دون آخر. . . إلى آخر هذا الذي يحتاج إلى بحث وحده.

على أنني أوافق أستاذنا الكبير الدكتور أحمد أمين بك إذا كانت خلاصة موضوعه: الضيق بالكثرة المتضخمة من المترادفات في لغتنا وأكثرها ألفاظ حوشيه وكلمات ميتة، والدعوة إلى تصفية اللغة منها مع الإبقاء على المترادفات الحية المأنوسة وذلك كما فعلت قريش، فإنهم لم يهدروا المترادفات كلها، وما أظن الأستاذ يقول بذلك، وإنا نراه يحتاط في التعبير إذ قال إنهم اختاروا من اللغات أحسنها، وهذا ما نريد.

شكر الاستعمار:

أعلنت نقابة الصحفيين - يوم الخميس الماضي - عن محاضرة تلقيها زوجه أحد الزملاء موضوعها (أسرار المهنة في رحلتي بشمال إفريقية) وامتلأت قاعة فاروق الأول للمحاضرات في نادي النقابة بجمهور من الجنسين وقدمت السيدة على أنها صحيفة، ولذلك سنتحدث عن (أسرار المهنة) وتحدث السيدة فقالت إنها ليست صحيفة ثم أبدت هذا القول بعدم تعرضها للمهنة وأسرارها. . .

كثيراً ما سمعت محاضرات أو (شربها) كما يقوون في اللغة الدراجة عما يقع فيه المرء وهو غافل. . فلم أراد أن أشرك قراء (الأديب والفن) في بلوته!

وكنت أغضى على هذه المحاضرة، لو اقتصر الأمر فيها على فراغها من شيء ذي بال، أو اقتصر على اللغة التي تحدث بها السيدة إذ جانب الفضيحة وكسرت العامية. . وكنت أستطيع أن أغضى أيضاً عن تهاون نقابة الصحفيين في اختار ما تجمع من أجله الناس في قاعتها الفخمة.

ولكن الذي لم أستطع له كتاناً، وهو الذي حدا بي إلى كتابة هذا، أن السيدة الفاضلة، وهي نتحدث عن رحلتها بشمال إفريقية، شكرت فرنسا. . لا على ما قام به الحكام الفرنسيون هناك من تسهيلات أو حفارة بالزملاء في رحلتهم. . وإنما شكرت (المحاضرة) فرنسا على ما قامت وتقوم به من أعمال لتقدم أهل شمال إفريقية ورقيهم. .! أي أنها تشكرها على الاستعمار!

وقد علمت أن في النقابة برنامجاً لأحاديث في سلسلة أسرار المهنة في رحلات ببلاد مختلفة، وكل الذي أرجوه ألا يحدثنا أحد عن رحلة في مصر يشكر فيها إنجلترا. . .

الموسيقى والدين:

يول الأديب (حافظ عبد السميع عمران) في رسالة إلى:

(قرأت كلمة طريقة بجريدة المصري مؤداها أن نستعين بالموسيقى في جميع تراتيلنا الدينية. ويسأل صاحب المقال ويسأل معه مؤيده: لماذا لا ترتل القرآن والأذان وخطبنا الدينية على نغمات الموسيقى؟ إن الموسيقى تنقلنا إلى عالم الانتشاء الحسي والاستمتاع الروحي فلماذا لا نتخذها وسيلة لتذوق ديننا؟!) ثم يقول: (ونحن لا نرتاب في أن الموسيقى تحرك الغرائز وتثير الشهوات وتبعثها على الهوى وتدفعها إلى السيطرة على العقول والإرادة الإنسانية، فما فائدتها إذن للدين؟) ويمضي هكذا حاملاً على الموسيقى لأنها - في رأيه - تثير الغرائز والرغبات الشهوانية إلى أن يتساءل: وأين قداسة الدين في جو تسوده الإباحية والتحلل الخلقي. . . في جو يسيطر عليه المجون والخلاعة؟ أيريدون أن نهبط بالدين إلى الهاوية التي صرنا إليها ونجعله أداة لهو إشباعاً لرغباتنا الشهوانية الوضيعة؟

ولاشك أننا لا نرى الموسيقى بتلك المثابة، فالموسيقى فن رفيع، وقد اصبح بيان أميته وأثره في الإمتاع الروحي وترقية النفوس وما إلى ذلك، من الكلام المقرر المعاد. أما استخدام الموسيقى في اللهو الرخيص من حيث ما يصاحبها من غناء مبتذل ورقص مثير، فهو أمر آخر لا ينبغي أن نخلط بينه وبين الفن الموسيقي العالي.

أما ما كتب عن اتخاذ الموسيقى في ترتيل القرآن والخطب الدينية والأذان فهو كلام يعمد إليه بعض زملائنا الصحفيين لإطراف القراء وإتحاقهم بما يلفت الأنظار ويجدد النشاط للقراءة. . وإذا كان الكاتبون الداعون إلى ذلك جادين في دعوتهم فإنهم ولا شك بعيدون كل البعد عن روح الإسلام وثقافته، وليس كل ما يعمل في الأديان الأخرى يلائم ديننا، وإن آفتنا الكبرى هي التقليد. . . وكما جانب الأديب صاحب الرسالة الصواب في طعنه على الموسيقى، كذلك بعد عنه أولئك الدعاة كل البعد، فإن النصوص الإسلامية من آيات قرآنية وأحاديث نبوية وأذان وخطب وغيرها - لا يقصد الانتشاء والاستمتاع، كما يقولون؛ إنما هو كلام موجه إلى العقول والإفهام لتعي ما يرمي إليه وتعمل بمقتضاه، فإذا صاحبته الموسيقى تحيف الانتباه إليه وشغلت عن مراميه. ولعل شيئاً من ذلك واقع بالفعل إزاء ما يصنعه الآن أكثر قراء القرآن من تكسر وتطريب باسم التجويد، حتى أصبحت غاية الناس مع سماع القرآن أن يطربوا لأنغام القارئين. وأما أبشع الأصوات المنكرة التي نسمعها من الحفلات المذاعة، تلك الأصوات لتي تتعالى بالاستحسان فتنطق بعبارات عجيبة ولهجات غير لائقة، كذلك الذي يجأر في خطاب القارئ: يا حلو يا حلو!

وما ذلك إلا للاتجاه بالقراء نحو التنغيم والتطريب، فما بالك إذا صحبها العزف والطرب. . إن القرآن لم ينزل لمثل هذا، إنما أنزل لإبلاغ ما تضمنه إلى الإفهام، فهل نحيد به إلى الأنغام و (الانسجام)؟

عباس خضر