الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 911/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 911/رسالة الفن

بتاريخ: 18 - 12 - 1950


مسرحية ابن جلا

للأستاذ إسماعيل رسلان

ما كنت أحب أن يتصدى ناقد لمسرحية ابن جلا دون أن يكون ملما بحوادث المسرحية التي ينقدها، ويخيل إلى أن الناقد لم يكلف نفسه عناء مراجعة مقالة بل مراجعة نقده على الأصل، فنراه ينتقد حوادث الرواية فيقول (وعندما تعلم برغبته (أي الحجاج) في الزواج من هند بنت أسماء تلقي بنفسها في النهر) والله يعلم أنه ما دار في خلد المؤلف أن يصور الأهوازية باعثة نفسها. ولكن ناقدنا البصير خيل إليه أن الأمر كذلك مع أنه يدبج الصفحات الطوال في انتقاد البواعث الخفية للأشخاص، وهذا مثل يدل على قدرته في تفهم البواعث والحركات، فالأهوازية كما رآها من شاهد المسرحية إنما احتفظت بقوة شخصيتها وإيمانها بنفسها إلى أخر مراحل الرواية فهي لم تلق بنفسها في النهر تخلصاً من الحياة أو من حب مزدري به، وإنما ألقت بنفسها أولا ثم من عقاب صارم كان ينتظرها على يد الحجاج، وشتان بين هرب متحدي ومقصود، وبين محاولة للانتحار في استسلام واستخذاء!!

ويحسب صاحبنا أن المسرحية ينبغي (أن تصور الواقع التاريخي) فلا يجوز لها أن تخلق شخصية ليس لها سند من التاريخ المحفوظ ومن هنا كانت شدة نقده للمؤلف إذ خلق شخصية الأهوازية، وقد حسب صاحبنا أنه وقع على اكتشاف خطير إذ نراه يقترح على المؤلف أن يضع (هند بنت أسماء) بدلا من الأهوازية، وهو في كلا الحالين واهم، فإن المسرحية التاريخية من حقها أن تسجل ما أهمل التاريخ من صلات إنسانية لم يكن لها أن تجد طريقها إلى سجل التاريخ كما كان يعرفه الناس وقتئذ. ومما لاشك فيه أن الحجاج كان يحيا حياة عاطفية ما، ولاشك أيضاً أن المؤلف قد أصاب إذ خلق شخصية تسد تلك الفجوة التي أهملها مؤرخو العرب، ولو أن صاحبنا قد أنصف لعرف ما ينطوي عليه اقتراحه من تعسف وشطط. فلو أن الأستاذ محمود تيمور بك قد أخذ باقتراح الناقد البصير ونحفف في استعمال أسانيده التاريخية لما وسعه أن يجعل من هند بنت أسماء إلا شخصية ثانوية لا تحل من حياة الحجاج إلا سنة أو بعض سنة ثم لا يلبث أن يسلوها.

أين هذا مما وفق إليه المؤلف من ابتداع شخصية الأهوازية التي لا زمت الحجاج على المسرح من ضحي حياته إلى مغربها، وكانت مثار الحس فيه وباعثه على أن يظهر ألوانا متعددة.

وما احسبني كنت في حاجة في يوم من الأيام أن أقرر بديهية من بديهيات التأليف المسرحي، تلك أن الشخصية المسرحية يشترط فيها أن تكون متساوقة مطردة، ولكن ناقدا أحوجني إلى ذلك إذ شكا وأستنكر أن يكون الحجاج صخري القلب مشغولا بنفسه وأطمحها لا تلين له قناة إلى آخر المسرحية، ولو أنه استخذى للحب ولان للأهوازية وتنكر لطبيعة قلبه الصلد، كما يريد ناقدنا، لأنكرنا من المؤلف صورة شو هاء للحجاج لا تمثل شخصية الحجاج التاريخية، وكذلك الحال بالنسبة للأهوازية إذ صورها المؤلف مندفعة طائشة تلقي نفسها إلى التهلكة من أجل الحب، لا تعيش إلا له ولا تحي إلا به، فإن لم يبادلها الحجاج حبا بحب عاشت من أجل هذا الحب وقد انقلب في وهمها كرها، ولكنها لا تفطن إلى ما يعتمل في فؤادها الجياش من العواطف والأهواء.

فأين ناقدنا من هذا الغور السحيق من مكنونات القلب البشري، وهو يحاول أن يستبطنها ليدرك كنهها؟ إنه مشغول عن كل هذا بما ظنه الخروج على قواعد التأليف الصحيح من جعل شخصية الأهوازية ثائرة مهددة على الدوام إذ يقول (فموقف الأهوازية من الحجاج عندما سمعت أنه سيتزوج من عفراء، هو نفس موقفها منه فيما يختص بأم كلثوم، وكذلك فيما يختص بهند، فهي تثور ثم تهدد ثم تعود لتقف نفس الموقف) وهذا الذي يعده الناقد عيباً هو أسمى ما يصل إليه المؤلف المسرحي من تصوير الشخصية المتماسكة المستقيمة المطردة، فإذا أضفنا إلى ذلك أن المؤلف قد صورها من واقع الحياة كامرأة حائرة بين حبها الشديد وبين كبريائها فطوراً تنصاع لحبها وطوراً تنصاع لكبريائها لما ترددنا في الحكم بأن المؤلف قد بلغ غاية التوفيق في تصويره للأهوازية.

وما احسبني في حاجة بعد ذلك إلى بيان فساد رأي الناقد في الأهوازية إذ يقول (كان موقفاً سلبيا في كل موقف التحمت به) يعني الحجاج، وهو يعلم أنها لم تلاق الحجاج مصادفة بل احتالت للقائه وأنها استخفت لتعصي له أمراً، إذ أمرها بالذهاب إلى مكة (فعادت إليه متخفية في صحبة عبد الله بن جعفر في اللحظة التي كان يخطب فيها أم كلثوم لتفسد عليه خطته ثم فرت منه لتعود إليه متخفية في ثياب فتى أعرابي لتقتله) هذه هي المواقف السلبية التي يعزوها الناقد إلى الأهوازية فما هي يا ترى المواقف الإيجابية التي كان الناقد يريدها من المؤلف؟ أو بعد هذا الصراع الذي صوره المؤلف بين الاثنين يصر الناقد على أن الأهوازية كانت سلبية الموقف؟

ويظهر أن ناقدنا قد غاب عنه أن الحجاج كان جدب الحياة العاطفية الغرامية وأن المؤلف قد نجح في تصوير ذلك، فكان الحجاج يتخذ الحب دائماً وسيلة إلى مطمع من مطامعه السياسية كما فعل مع بنت عبد الله بن جعفر وغيرها، وكما أعرض عن رفيقة صباه عفراء مع شدة جمالها وذكريات صباه معها فقد رفضها إذ لا مطمع من ورائها، وكانت الأهوازية هي المرأة الوحيدة التي نالت شيئا من اهتمامه إذ لازمته ملازمة الظل وكانت تهاجمه في كل مكان، فلو لم تفعل ذلك لما اهتم بها أصلاً، وحتى هذه الأهوازية قد استخدمها في مآربه السياسية إلى جانب أنه أعزها لأن في طموحها هي الأخرى ما يجعله يتجاوب معها في هذا السبيل.

بقي بعد ذلك أني أشير إلى أنه يخيل لصاحبي أن المسرحية يجب أن تقوم على الصراع العاطفي وهو عنده (الأساس الأول في التأثير على المشاهد في مثل هذه المسرحية التاريخية) والمشاهد العاطفة عنده هي المشاهد التي تجري نين الحجاج والأهوازية كما كرر ذلك مراراً، وهذا وهم كان يشيع في أواخر القرن الماضي، وأحب أن يعرف حضرة الناقد البصير أن المسرحية اليوم قد تقوم على صراع ذهني تضطرم فيه شهوات الغلبة والسيطرة وتنزوي فيه العواطف الساذجة من حب وهيام.

إسماعيل رسلان

مسرحية (ابن جلا)

للأستاذ عبد الفتاح البارودي

طالعتنا الرسالة الغراء بثلاث مقالات مختلفة عن هذه المسرحية؛ الأولى للأستاذ عباس خضر، والثانية للأستاذ حبيب الزحلاوي ضمنها رأيه ورأي الأستاذ أحمد رمزي بك في الإخراج، والثالثة للأستاذ أنور فتح الله.

وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى اهتمامهم المشكور بهذه المسرحية ومؤلفها ومخرجها وبفرقة المسرح المصري الحديث التي افتتحت بها موسمها.

غير أن التفاوت الكبير بين أراء حضر اتهم لدرجة غير معهودة أمر يدعو إلى النظر بالرغم من دقة بعض الموضوعات التي تناولوها واختلاف نقاد الغرب أنفسهم فيها.

فبينما يرى الأستاذ خضر مثلا أن هذه المسرحية قد بلغت غايتها من حيث معالجة الحجاج، ويرى الأستاذ الزحلاوي أن مؤلفها تيمور بك قد فتح فتحا جديدا في الفن الروائي العربي، يرى الأستاذ فتح الله أنها قد فقدت القدرة على بعث الحياة والإثارة إلى آخر ما قاله محاولا الحط من قيمتها استنادا إلى رأي الدكتور مندور في كتابه (في الأدب والنقد). ولست أزعم أن رأي الدكتور مندور خطأ ولكن لعل الناقد أخطأ في تطبيقه من جهة وفي اعتباره الرأي الوحيد الذي (يحدد الفرق بين التاريخ والمسرحية التاريخية) من جهة أخرى. فهناك كما نعلم آراء شتى في هذا الموضوع. فرأي يقول بأن التزام التاريخ يفسد المسرحية من الناحية الفنية لأن الفن تقليد بارع للأشياء، والبراعة شرط أساسي. ونحن إذا قلدنا التاريخ كما هو لسلبنا الفن براعته. ونتيجة لذلك يصبح عبثا لا طائل وراءه إذ أنه في هذه الحالة لا يعطينا شيئا خلاف ما يعطينا إياه التاريخ.

ورأي آخر يقول بأن التزام المؤلف المسرحي للتاريخ لا يقلل فينا من شأن إنتاجه أنه مادام يتغلغل في بواطن شخصياته ويستنطقها بما يعين على تفسير الحوادث.

ورأي ثالث يقول بأن هناك لحظات نادرة تكون فيها الحقائق التاريخية واغرب أروع وأكثر إرضاء للنفس وأوثق صلة بالفن من أي قصة من القصص. ولئن أقبلت لحظة من هذه اللحظات النادرة على فنان مسرحي ممتاز فإن الفن والتاريخ يسيران معا بين يديه في توافق تام.

ورأي رابع يقول بأن المسرحية التاريخية إن هي إلا معيار للإنسان لا باعتباره حيوانا اجتماعيا كما في الملهاة ولا باعتباره طامحا للخلود كما في المأساة ولكن باعتباره أداة سياسية في المجتمع أي باعتباره خادماً ساهراً على مصلحة الجماعة التي يعيش فيها. ومن ثم يجب على الفنان المسرحي أن يصور بطله التاريخي بحيث تمحي الفردية فيه أمام عنصره السياسي الذي يمت إلى الجماعة بصفة عامة. . . الخ.

ولا اتفاق بين نقاد المسرح إلى على أن طبيعة حوادث التاريخ تغاير طبيعة الموضوع المسرحي، وأن التاريخ وإن كان - فرضا - سجلا واقعيا إلا أنه لا يعنى بغير الجزئي من الأمور، في حين أن المسرح يعنى بالكل منها طبقاً لتاريخ الاحتمال أو الضرورة. التاريخ يصور ما حدث فعلا - إن صدق المؤرخون - بينما المسرح يصور النماذج العليا التي يخلقها الانتخاب والتخيل. التاريخ يحدد واقعاً معيناً بينما المسرح يبتدع المثال الكامل.

وإذن فلا محل لمؤاخذة تيمور بك على تصوير شخصية الأهوازية من مخيلته دون تصوير امرأة (حقيقية). وكنت أرجو أن يقرأ الأستاذ فتح الله مسرحيات برنادشو التاريخية ليرى كيف يبتدع هذا الفنان الجبار من مخيلته شخصيات لا وجود لها في التاريخ.

كذلك كنت أرجو أن يدرك أن الصراع لا يكون حتما بين شخصيتي البطلين وأن الصراع المسرحي ليس (خناقة) تدور بينهما. فلو أنه أدرك هذا لأعفانا من كلام طويل ترتب على ذلك.

كذلك قوله عن تكرار المشاهد العاطفية يحتاج إلى مراجعة لأن كبار المؤلفين أمثال شكسبير كثيراً ما لجئوا إلى ما يشبه التكرار إما أو بالمطابقة تفسيراً للفكرة الأساسية في التمثيلية وتوضيحاً لشخصيتهم

كذلك رمى تيمور بك بالإساءة إلى صورة الحجاج التاريخية عند ما صوره متسامحا مثلا بحجة أن الحجاج (لا يتسامح أبدا) ونسى الناقد الفاضل أن الحجاج إنسان يجوز عليه ما يجوز على بني البشر وأن المسرح لا يعبأ بسيرته الواردة في كتب المدارس الثانوية وإنما يتغلغل وينفذ إلى الصميم، وربما كانت أهم مزايا تيمور أنه استطاع فهم ذلك واستثماره.

أترك هذا وأغفل ما كتبه عن بناء المسرحية وعن (العقدة) لأناقش ما هو أجدى من ذلك وهو رأي العالم الفاضل أحمد رمزي بك بصدد الإخراج:

وأبادر فأقول إني أوافقه تمام الموافقة على أن المخرج يجب أن يكون ذا ثقافة وافرة واطلاع عميق على النصوص التاريخية وعلى علم الآثار الإسلامية والخطوط، ويفهم الملابس والإشارات والأسلحة والأثاث والمعمار الذي يسود كل عصر.

وأوافقه أيضاً على أن كل عصر إسلامي يمتاز عن الآخر بميزة خاصة تميزه من هذه النواحي.

لكن هل معنى ذلك أن المخرج يكون (بدائيا) حتما إذا لم يستطع مراعاة مطابقة مناظره وملابسه للحقيقة التاريخية حتى ولو لم يكن في وسعه - ماديا مثلا - تحقيق ذلك؟

وهل يصدقني عزته إذا قلت إن الروايات التاريخية يجوز إخراجها بملابس ومناظر عصرية؛ وإذن فإخراج الجند الشامي بملابس القرن العشرين ليس أمراً مضحكا؟!

وهل يصدقني إذا قلت إن الإخراج الواقعي أي محاولة تمثيل الواقع حرفيا هو من أسوء مذاهب الإخراج؛ وإذن فكتابة الأعلام بالخط النسخ بدلا من الخط الكوفي مثلا لا تضير كثيرا، ولا سيما إذا لم يقصد المؤلف تصوير الحجاج بن يوسف الثقفي بقدر ما قصد تصوير (الإنسان) و (المثال) و (الرمز)؟!

لقد كنت أرجو أن يتحدث النقاد الأفاضل عن الإخراج في صميمة وموضعية ويقدروا الجهد الذي بذله المخرج في إبراز المعاني الكامنة والغامضة التي قصد إلى استجلائها المؤلف. كنت أرجو أن ينهوا بما توخاه من تضخيم قطع الأثاث ورفعها على قواعد عالية وما تشاكل ذلك في كل ما يتصل بالحجاج ليطابق هذا ما كان يعتمل ويحتدم في باطنه من استعلاء

والتمثيل. . . إن أقصى ما قيل أن زكي طليمات قد بلغ الذروة. . . ولكن ما هي هذه الذروة وأين مكانها وكيف تقلب بين مراحل دوره المتفاوتة وكيف أعطى لكل مرحلة ما يناسبها من نفسه وجهده وأعصابه وذاته، وكيف تمكن من إخفاء شخصيته الحقيقية وإبراز شخصيته التمثيلية لدرجة أننا لم نعرفه على خشبه المسرح لأول وهلة، وكيف صمد لمختلف المواقف والانفعالات بالرغم من دوران الرواية كلها حوله نحو أربع ساعات تكاد تكون بغير انقطاع

وبعد فبقدر ما الأستاذ عباس خضر في كلمته المعتدلة التي أعلتها روح التشجيع الواجب - فيما أرى_إزاء مؤلف أخلص للفن لمحض الفن حتى صار في مقدمة مؤلفينا، ومخرج وطد العزم على أن يجعل من فرقته نواة لمسرح الغد. . وبقدر ما وفق الأستاذان رمزي بك والزحلاوي في توخي الصراحة والنزاهة والقصد حتى في قسوتهما أحيانا. . لم يستطع الزميل أنور فتح الله إخفاء تحامله بين سطور كلماته الغاضبة

ولولا تعقيب (الرسالة) عليه بما استحقه لصارحته جهراً بالأسف على ما انساق إليه بلا مسوغ.

عبد الفتاح البارودي