مجلة الرسالة/العدد 91/القصص
→ زهرة آذار | مجلة الرسالة - العدد 91 القصص [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 01 - 04 - 1935 |
من أساطير الإغريق
برسيوس وأندروميدا
والجرجون الثلاثة
للأستاذ دريني خشبه
في إحدى مدى الشاطئ الأغريقي، كانت تعيش أميرة جميلة تدعى (داناي)، هي وابنها الوحيد الجميل برسيوس، الذي كتب عليه أن يحرم من صدر والده الحنون، ذلك الوالد الذي طوحت به أسفاره، فشط مزاره، ولم يعد أحد يعرف أين انتهى قراره
ولقد كان هذا الوالد - فيما يظهر - على جانب عظيم من البأس وقوة الجانب، حتى لقد فرح أهل المدينة لبعده فرحاً شديداً؛ ولخوفهم من أن ينشأ طفله برسيوس على وتيرته، تآمروا فيما بينهم على نفيه هو وأمه من جزيرتهم في زورق صغير يدفعون به إلى اليم، والأمواج المتلاطمة كفيلة، ثمة، بإجراء حكمها فيهما. .
يا للوحوش! لقد أنفذ الأشقياء تدبيرهم؛ وتناوحت الأمواج حول الزورق تقذف به ها هنا وهاهنا، والأم المسكينة تغالب أحزانها وتنسى مخاوفها، فتغني لطفلها الراقد في حضنها، وتدلله كي ينام، وكي يكون بنجوة من فزع هذا البحر المصطخب
وبعد أن كان الموت المحقق قاب قوسين من هاتين الفريستين، وبعد أن كانت كل موجة تشق للزروق قبراً في أعماق الماء، شاءت العناية أن تسخر موجة هائلة تدفع به، في هوادة ورفق، إلى ساحل جزيرة نائبة في وسط المحيط. وهناك، نزلت الأم الموهونة متهالكة على نفسها، حاملة وديعتها البريئة، شاكية إلى الآلهة صنع الإنسان بالإنسان، ولمحت في الأفق قرية متطامنة، فيممت شطرها، وما فتئت تتعثر في خطاها حتى بلغتها والشمس تتوارى بالحجاب
ورحب الناس بالضيفين البائسين، لأن دينهم كان يأمرهم بإيواء أبناء السبيل، وإكرام الغرباء واللاجئين؛ فعاشا ناعمين، وشب برسيوس سليما من الآفات، مكتنز العضلات، بادي الفتوة، موفور القوة، عذب اللسان، مشبوب الجنان، وأحبه الناس وأعجبوا به، والتف الجميع حوله يصغون إلى أحاديثه العذاب،
وقصصه الرطاب. . . .
وتسامع الكل به، وترامت إلى ملك الجزيرة اخباره، فشغله انصراف الناس إليه، وافتتانهم به؛ وكان (قاتله الله)، غيوراً رعديداً، فآلى أن يكيد له، ويدبر حيلة يقصيه بها عن طريقه، ليطمئن على نفسه. . . . وعرشه؟
وكان في إحدى الجزر النائية ثلاثة من الجرجون الضارية، وهي أفزع ما جاء في أساطير اليونان، وكل من هذه الجرجون تنين هائل له رأس امرأة، ويدان من النحاس الأصفر الصلب، ذواتا أظافر حادة، تنفذ في أقسى المعادن وأصلبها، وليس لها شعر في رءوسها كما للنساء، بل لها، عوضاً عن الشعر، حيات وأفاع ذات رؤوس مرعبة تنفث السم الزعاف. وقد أوتيت قوة خارقة، لتستطيع إحداها أن تقصم جذع النخلة بضربة ضعيفة من ذنبها الجبار! وليست هذه الجرجون مخيفة بسمها وقوة بنيتها فحسب، بل الأدهى والأمر، هو هذا السر الدفين في عيونها؛ إذ كل من جرؤ على النظر إلى هذه العيون، يتحول في الحال إلى صنم من الحجارة لا يتحرك، ولا يعي!!
وكانت الجرجونة (مديوسا) أفظع أنواع الجرجون جميعاً، ولذا كانت أختاها الأخريان تحترمانها، وتسهران على راحتها ولكن ماذا اعتزم الملك الجبار في كل ذلك؟ لقد دبر أن يغري برسيوس بالذهاب إلى جزيرة الجرجون لقتل (مديوسا) والاياب رأسها كأحسن هدية تقدم إلى ملك. وكان هذا الرجل الخبيث يعلم تمام العلم أن مجرد محاولة الذهاب إلى جزيرة الجرجون هو ضرب من الجنون لا يقدم عليه إلا المأفونون، فان نظرة واحدة من عين مديوسا كفيلة بوضع حد لكل شيء وأرسل الملك إلى برسيوس فمثل بين يديه، وطفق يكيل له المدح جزافاً، ويبالغ في الثناء على ما ترامي إليه من أخباره، وضروب شجاعته التي يتحدث بها الجميع.
وامتلأ برسيوس، الفتى، زهواً، وشاعت في أعطافه الكبرياء، وراح هو بدوره يشكر الملك حلو ثنائه، وجميل إطرائه، فما إن أدرك الملك ما بلغ ثناؤه من قلب برسيوس الغرير، ونفسه الصغيرة، حتى أخبره بما انتدبه له؛ فقبل الفتى المسكين وهو لا يدري ما هي هذه الجرجون، ولا أين الجرجون؟ وانطلق من فوره، وأرسل الملك من حاشيته من أبلغوه خارج الأسوار، في مهرجان فخم، وموكب أنيق. ثم غربت الشمس فغلقت الأبواب، وجلس برسيوس على صخرة عظيمة مشرفة على البحر يفكر في هذه الجرجون، وينظر إلى القمر يشرق من الاثباج، فيفضض الموج، ويحور به البحر رجرجاً من لجين! ويذكر فجأة أنه لم يودع أمه، ولم يتزود منها قبلة أو دعاءً لهذا السفر الطويل. فيبكي. . . ويبكي بكاءً مراً!
وتصدع قلبه حينما خيل إليه أنه قد لا يعود إليها، مع أنه عزاؤها الوحيد في هذه الحياة!
وانتصف الليل!
وفيما هو غرق في لجة الفكر، شرق بواكف الدمع، إذا بصوت رقيق يناديه من فوق الصخرة المقابلة: (برسيوس أيها العزيز! فيم بكاؤك؟ ولم تذرف كل هذه الدموع؟ لقد هجت الآلهة، وأحزنت أرباب الأولمب!). ونظر برسيوس ليرى من صاحب هذا الصوت الرخيم الذي يناديه، فعجب عجباً شديداً! لقد رأى مخلوقاً جميلاً مشرق الجبين، يترقرق البشر في ` وجهه، لا يعقل أن يكون بشراً! يلبس فوق هامته قلنسوة ذات أرياش وأجنحة، وفي قدميه نعلان غريبتان يتصل بكل منهما جناح كجناح البازي، وفي يده عصا سحرية تتلوى بطرفها الأعلى ثعابين وحيات!!
على أن برسيوس لم يعلم أن الذي يتحدث إليه، إن هو إلا الإله هرمز رسول الآلهة بين السموات والأر ?، الذي لا يفوقه في سرعته أحد
وبعد، فلقد قص برسيوس قصته على هرمز. وما فرغ منها، حتى قال الإله له: (بني! إنك مقدم على أمر جلل، وشأن بعيد المدى، صعب المنال. ولقد أراد الملك أهلاكك حين اختارك لهذه المهمة، لأن أحدا لا يجسر على الذهاب إلى جزيرة الجرجون إلا إذا كان أحمق أو مجنوناً! ولكن أصغ إلى! انك لا بد فائز إذا علمت بوصاياي، ولم تحد عما أشير عليك به.
وسأذهب عنك لحظة، ثم أعود إليك بآلاء من الآلة، تقرب لك النجح، وتسهل عليك كل شاق من أمرك. فانتظر).
ورقى هرمز، ثم غاب في السماء، وبهت برسيوس حين رآه يطوي الأديم الفضي، ويطرق أبواب أورانوس!
وقص هرمز قصة صاحبه على الآلهة، فرثت للفتى المسكين وتحركت في قلوبها الرحمة العلوية، التي طالما تنهمر من السماء، لتغسل الآم الأرض: وتعاهدت أن تؤازر برسيوس، وتمده بكل ما يسهل عليه أشق أمره. فنزل بلوتو، إله الموتى، عن قلنسوته التي تخفي من يلبسها فلا يراه أحد، وتبرعت مينرفا بترسها الذي يحمي لابسه من حراب الأعداء، وهو درع ثمين من الذهب الخالص، يلمع لمعاناً شديداً، حتى ليعكس المرئيات في صفحته، كأنه السجنجل
وحمل هرمز المنحتين، وعاد بهما إلى حيث يجلس برسيوس فقدمهما إليه، وزوده بجرازه المتلوي القاطع، الذي ليس كمثله سيف ولا حسام. ومنحه نعليه المجنحتين، اللتين تسبقان به الريح، فلبسهما ثم قال له: (تلك يا برسيوس هدايا الآلهة أسبغها عليك. بيد أنه ينبغي قبل كل شيءأن تذهب معي إلى هذه الجزيرة القريبة حيث تقيم ثلاث إناث من السيكلوب ذوات العين الواحدة، فتحتال عليهن حتى تعرف منهن موضع جزيرة الجرجون، لأن أحداً من العالمين لا يدري أين موضعها بالضبط غير هؤلاء السيكلوب. سر إذن على بركة الآلهة في أثري، واحترس لنفسك، والسماء تكلؤك.)
وكم عجب برسيوس حين رآه يطير في إثر هرمز، والبحر من تحتهما تتلاطم أمواجه، ويعج عجيجه، وهما من فوقه كالعصافير المهاجرة، وحطا في الجزيرة المنشودة، بعد أن دوما فوقها طويلا. وكان ذلك بالقرب من كهف حالك، في منحدر صخرة صعبة المرتقى. وقد لمح فيه برسيوس السيكلوب الثلاث، بفضل ترس مينرفا الذي كان يعكس في صفحته كل ما في الجزيرة
إنها مخلوقات غريبة حقاً، ليس كمثلها شيء في الآفاق، شاذة في خلقها، عجيبة في تنسيق جسمها؛ وهي إناث على كل حال، يعيشن في هذه الجزيرة المعشوشبة، بعيدات عن العالم، منزويات في هذا الركن السحيق من أركان الدنيا. وأغرب ما في أجسامهن من شذوذ، أنهن ليس لهن أعين كما للناس، ولكن لهن، لثلاثتهن، عين واحدة! تركبها إحداهن لوقت معلوم، في حفرة غائرة من جبينها، حتى إذا انتهى الوقت وجاءت نوبة السيكلوبة الأخرى، نزعت الأولى تلك العين وأعطتها للثانية، وهذه تعطيها للثالثة بدورها، وهكذا دواليك، وبوساطة تلك العين العجيبة تستطيع السيكلوب رؤية أصغر شيء في أقصى جهات العالم، من دون ما مشقة ولا عناء وبعد أن زود هرمز صاحبه بوصايا غالية، انتحى ناحية قريبة، واختبأ بريسوس خلف شجرة باسقة؛ ولشد ما دهش إذ رأى إحدى السيكلوب تقود أختها، وفي جبينها العين العجيبة ترمق بها أصقاع العالم، وتحدث أختيها عما ترى. وبعد قيل ثار نزاع بين الأخوات على العين، كل تريد أن تأخذ نوبتها، وكل تدعى أن الدور دورها. وفيما كانت الأولى تنزع العين، وتوشك أن تعطيها للثانية، انقض برسيوس فتسلمها من السيكلوبة، دون وعي منها!! لأنها بدون العين لا تستطيع أن ترى شيئاً في العالم. وينشب نزاع شديد بين السيكلوب على العين، كل منهن تتهم أختها بأن العين معها وتدعى الإنكار، حتى وضع برسيوس حداً لتنازعهن، بان هتف بهن: (أيتها الأخوات العزيزات، لا تنازعن على عينكن، فهي في هذه اللحظة معي وبين يدي.) وانقضت السيكلوب هلعات نحو مصدر الصوت، ولكن هيهات أن يقبضن على شخص تحمله نعلا هرمز، فلقد قفز قفزة هائلة، أقصى بها نفسه عنهن، ثم قال: (أيتها الأخوات العزيزات! أنا أعلم أنكن لا تستطعن الحياة بدون العين الغالية، وأنا أعدكن بردها اليكن، ولكن بشرط واحد: ذلك أن تخبرنني عن المكان الذي تأوي إليه (مديوسا) وأخواتها الجرجون، فان لم تفعلن فلا عين لكن عندي.)
وهنا تميزت السيكلوب من الغيظ وكدن لا يجبن بشيء، لأنهن منهيات عن إذاعة أسرار العالم، ولكن إذاعة السر في هذه اللحظة أهون ألف مرة من هذا العمى المطلق، والظلام المبين يغطش حياتهن، فأخبرنه بموضع الجزيرة ومأوى الجرجون فيها، ولكي يثق مما أنبأنه به نظر في العين التي بين يديه فرأى الجزيرة، وأيقن أنهن لم يخنه؛ ثم إنه تحين الفرصة الملائمة ودفع بالعين في جبهة اقرب السيكلوب منه وغاب في الجو ميمماً شطر هرمز، حيث وجده يمرح في غيضة ناضرة فتعانقا عناقاً طويلاً، وشكره برسيوس على جزيل مساعدته، ثم افترقا على أن يبدأ برسيوس رحلته إلى جزيرة الجرجون
وكانت رحلة طويلة شاقة، برغم نعلي هرمز. فكم بحار طوى، وكم وهاد رأى، وكم ريح صرصر كافح، وكم مشقة احتمل، حتى وصل إلى جزيرة الجرجون! ولم ينس ما أوصاه به هرمز من وجوب النظر إلى أعلى دائماً حتى لا تقع عيناه على عيني إحدى الجرجون فيحور حجارة صماء. وكان يتخذ من درع مينرفا مرآة صافية يرى فيها ما تعج به الجزيرة من كهوف وزروع وغابات. ولشد ما سر سروراً لا مزيد عليه حين وجد الجرجون الثلاث مستغرقات في سبات عميق عند مدخل كهفهن السحيق. وفي وسطهن مديوسا العاتية. تغط غطيطاً مروعاً. فاستخار الآلهة، وامتشق جراز هرم ?، وتعوذ ثم تعوذ، ثم انقض كالصاعقة، فأهوى على عنق مديوسا بضربة قاتلة، انفصل بها الرأس عن سائر الجسد. وهنالك، علا فحيح الأفاعي الباسقة في رأس مديوسا، تدمدم في الكيس الجلدي الذي ألفاها برسيوس فيه، حتى لقد استيقظ أختاها، وانطلقتا مرتاعتين في إثر الفتى، تودان لو تمسكان به، فتعتصران عظامه اعتصاراً. . .
ولكن قلنسوة بلوتو تخفيه عنهما، وتحفظه من شرهما وبينما هو يطوي الضحاضح والبحار، وبينما هو منتش بخمرة انتصاره، مفكر في اللحظة التي يلقي فيها الملك ليريه رأس مديوسا، ويحظى لديه بثمرة فوزه، بينما هو كذاك، إذا به يلمح في إحدى الجزر زحاماً شديداً، وجماهير حاشدة، متكبكبة حول صخرة ناتئة، مشرفة على البحر، وقد تدلت منها فتاة بارعة الجمال، بادية الحسن، مغلولة العنق، مربوطة الأطراف بسلاسل وأصفاد من حديد صلب. ونظر فرأى تنيناً بحرياً هائلاً يطفو فوق الماء، ويقترب من الفتاة قليلاً قليلاً، وراعه أفزع الروع تلك الصرخة الهائلة التي صرختها الفتاة فرددت الغيران والكهوف ومشارف الجبال صداها
ماذا؟. . .
الفتاة مذعورة أيما ذعر، والناس من حولها ينظرون ولا يحركون ساكناً. . .
والتنين يقترب ويقترب. . .؛ ولم ينتظر برسيوس حتى يفترس الوحش تلك الفتاة المفزعة، بل استل جراز هرمز وانقض فوق ظهر التنين وأهوى على عنقه بضربات سريعة متلاحقة غاص بها في أحشائه، ولبثا يتصارعان ساعة من الزمان كانت كلها هولا، وكانت كلها فزعا، والناس ينظرون مشدوهين، زائغة أبصارهم، لا يصدقون ما يبصرون.
ثم انجلت المعركة عن جثة التنين الضخمة طافية فوق الماء، الذي تحول بدوره خضما من الدماء. وقفز برسيوس إلى الشاطئ، وذهب إلى الفتاة ففك أصفادها، وهدأ من روعها، وسأل الناس فقادوها إلى والدتها المسكينة المعذبة التي حبست نفسها في حجرة مظلمة، وانتظرت ثمة من ينعى إليها ابنتها
أما هذه الأم، فهي الغادة الأغريقية كاسيوبيا، المشهورة بجمالها، وحسن روائها، والتي كانت أفتن حسان هيلاس في زمانها، ولقد امتلأت زهواً بما أضفت عليها الآلهة من قسامة، وما أسبغت عليها من وسامة، فزعمت، وهي تفاخر أترابها، أنها أجمل من عرائس البحار التي لا يدانيها في جمالها الباقي، جمال هذا البشر الفاني. فغضبت عرائس الماء، لهاذا الادعاء، وأقسمن ليعذبنان أهل الجزيرة التي فيها كاسيوبيا بهذا التنين المروع الذي شرع يغدو كل يوم إلى شواطئ الجزيرة، فيقتل ويلتهم عشرات من سكانها!
وذعر القوم، وحاروا في أمر هذا التنين، وذهبوا إلى الهيكل يقدمون قرابينهم للآلهة، ويستوحون كهنتها نبوءة تبعد عنهم شره، وتكفيهم أمره. ولقد أجيبت أدعيتهم، وتقبلت أضحيتهم؛ وأرهفت الأسماع، وشمل الهيكل هذا السكون المقدس الرهيب، وما هي إلا لحظة حتى انطلق صوت خفي من أعماق المذبح، يقول: (قدموا العذراء أندروميدا، ابنة الغانية كاسيوبيا؛ ضحية حلالاً لتنين البحر، جزاء غرورها وكبريائها
- ذلك إن أردتم أن يكف التنين عنكم شره، ولا يعاودكم أذاه!) وانكفأ القوم محزونين مروعين، لأنهم كانوا يحبون كاسيوبيا وابنتها، حباً هو العبادة. وحاروا كيف يتقدمون للأم بهذا النبأ العظيم؟!
وكان لا بد من النفاذ، لإنقاذ الجزيرة وجميع سكانها. . .
والآن، لقد أنقذ برسيوس أندروميدا الجميلة من براثن التنين، وشعر في سويدائه بعاطفة نورانية تجذبه إلى هذه الفتاة، وأحس كأن مستقبله مرتبط بمستقبلها برباط قدسي تباركه السماء وتحرسه العناية؛ فتقدم إلى والدتها يطلب إليها يد أندروميدا ووافقت الوالدة، وسعدت الفتاة بهذا البطل الشاب الذي أنقذ حياتها مرتين: مرة من هذا الوحش الضاري الذي تركه برسيوس جثة هامدة، ومرة ثانية من ذلك الشيخ الفاني الهرم الذي تقدم إليها يريدها زوجة له، وكادت أمها تقسر على الموافقة لما للشيخ في الجزيرة من صولة وجبروت، لولا المقادير التي تتابعت بعد ذلك
وأقيم مهرجان كبير، وزينات فخمة للاحتفال بالعروسين؛ فمدت الأخونة، وأعدت الأسمطة، وبدأت الموسيقى الإغريقية تعزف أشجى ألحانها، وأخذ الجميع في قصف حلو وسمر برئ وإنهم لفي كل ذلك إذا بالرجل الهرم الذي تقدم لخطبة أندروميدا من قبل، يقتحم الحفل هو وعصبة قوية من رجاله المسلحين، وإذا بالرجل يهتف بيرسيوس قائلاً: (برسيوس! لقد اعتديت على مولى هذه الجزيرة اعتداء صارخاً بانتزاعك أندروميدا من يدي؛ وإنك إن لم تنزل عنها طواعية فسأكرهك على تركها قسراً، بعد أن تروي هذه السيوف من دمائك ودماء من يلوذ بك!. . . .) فحدجه برسيوس بنظرة ساخرة وقال: (من أنت أيها الرجل الذي يجسر على مخاطبتي بهذا الهراء؟ لقد أصبحت أندروميدا زوجي، وإن كانت من قبل خطيبتك؛ أنت من غير ريب تحلم. . . غير أني أسألك: أين وليت وجهك يوم اضطرت أمها المسكينة أن تنزل عنها قرباناً للتنين؟ لقد كان أولى بشجاعتك أنت ورجالك لو توليتم إنقاذها من الأفعوان البحري الذي أذلك وأذلهم. . . .) ومد يده إلى الكيس الذي كان به رأس مديوسا، فأخرجه وقال: (ولكن انظر إلى هذا قبل أن تقتلني.) وما كاد الرجل ينظر إلى عيني مديوسا، حتى تصلبت عضلاته، وتحجر جسمه، وظل مكانه كأنه تمثال! ودهش أصحابه لجموده، وظنوه قد سمر حيث هو، فلما لامسوه استطيرت ألبابهم، ولاذوا من الفزع بالفرار
وأخفى برسيوس رأس مديوسا، واستمر القوم في سمرهم كأن لم يحدث شيء. . . اللهم إلا هذا التمثال المنتصب في أول ردهة، والذي كان يهرف منذ لحظة، فاصبح عبرة الزمان، وضحكة الأيام! وحان يوم الرحيل، فخرج أهل الجزيرة يودعون الزوجين، وظلت كاسيوبيا تعانق برسيوس مرة، وإندروميدا مرة أخرى، والدموع فيما بين هذه وتلك، تنهمر على خديها انهماراً. . .
والناس ينظرون. . . . ويبكون
ثم حمل برسيوس عروسه، ومرق في الهواء كالسهم، والقوم من عجب يتصايحون ويهتفون
وكانت الرحلة هذه المرة، على شدتها وطولها، من أروح الرحلات إلى قلب برسيوس. وتستطيع أن تتصور القبل الحلوة تنطبع على هذين الثغرين الحبيبين، في ملكوت السماء، لتدرك أي سعادة شعرية، وأي هنيهات سحرية، فازا بها في لازورد الفضاء
وبلغ مدينة الملك بعد نأى طويل، وسنين عدة، فذهب أول ما ذهب إلى منزل أمه، وناهيك بما كان من عناق، وما تبودل من تحيات. وبكت داناي المسكينة وهي تهنئ ابنها بأندروميدا، ثم أخذت تقص، ملء أحزانها، وفي فيض أشجانها ما انتابها من سوء، وما لحقها من عسف، لأنها أبت أن تكون خليلة الملك المخاتل الجبار، الذي صب عليها جام نقمته، وأذاقها من الهوان ألواناً! فحزن برسيوس حزناً ممضاً، وهيج حتى خيف عليه، وذهب من فوره إلى قصر الملك بكل عتاده! ودخل إلى البهو الملكي بدون استئذان، وهو يضمر في القلب غصة، وفي النفس لوعة، وفي الكيس رأس مديوسا!!
وقال الملك حين لمح برسيوس: (هلا! برسيوس! لقد عدت أخيراً، وما أحسبك وفيت بما قطعت على نفسك من عهود! لعل شجاعتك التي بالغ الناس في إطرائها والثناء عليها قد واتتك في حربك مع الجرجون؟)
فأجاب برسيوس، دون أن يحيى بالتحية الملكية: (أيها الملك! لم تخاطبني هكذا ولا تتريث حتى تنظر إن كنت قد عدت إليك برأس مديوسا الرهيب؟)
(فقهقه الملك، وملأ التهكم شدقية، وقال: (طبعاً ستدعى أنك قتلت مديوسا ولكن رأسها وقع منك في البحر، فالتقمه الحوت؟. . . يا للشباب المخدوع؟!)
وثارت ثائرة برسيوس، ولم يجد إلى صبر من سبيل، فحسر عن رأس مديوسا وقال: (أيها الملك. . . انظر!)
وبهت الملك مكانه حين وقع بصره على عيني مديوسا؛ ثم تحول في لمحة إلى تمثال من الحجر ما يأتي بحركة؛ ولا ينبس ببنت شفة!!
وحدث عما شمل أهل الجزيرة من الفرح حين ترامت إليهم أخبار الملك؛ وما تم له مع برسيوس. لقد كانوا يؤثرون الموت على أن يحكمهم مثل هذا الظالم العاتي المستهتر، ولقد كانوا يودون له الهلك، حتى خلصهم برسيوس منه، فهرعوا إليه، وهتفوا في كل مكان باسمه، وحملوه على الأعناق إلى حيث الملك التمثال وهناك، صبوا لعناتهم على الطاغية، وانصرفوا، يهنئ بعضهم بعضاً، بعد ان اختار لهم برسيوس ملكا منهم. . . . فاضلاً، عادلاً. . . .
وقد عرضوا عليه الملك فأبى. . . لأن مملكته الكبيرة المكونة منه ومن أمه، ومن أندروميدا كانت آثر لديه من كل ملك عتيد!!
وتوجه إلى حيث لقي هرمز، عند الصخرة المشرفة على البحر، فوجده ينتظره، فتعانقا عناقاً يفيض محبة، ويقطر وداً، ثم رد إليه هدايا الآلهة بالحمد والثناء. . .
أما رأس مديوسا، فقد أهداها إلى منيرفا، ففرحت بها فرحاً شديداً، وهي إلى اليوم مركبة في وسط ترسها ترهب بها أعداءها الألداء. . . .
دريني خشبة