مجلة الرسالة/العدد 908/الأدب والفن في أسبوع
→ تعقيبات | مجلة الرسالة - العدد 908 الأدب والفن في أسبوع [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 27 - 11 - 1950 |
للأستاذ عباس خضر
مسرحية (ابن جلا):
كان يوم السبت الماضي بدء تاريخ في حياة المسرح العربي، فهو أول يوم ظهرت فيه فرقة المسرح المصري الحديث على خشبة المسرح، وكان مسقط رأسها مسرح الأوبرا الملكية، وكان مولدها على يد الأستاذ زكي طليمات عميد المعهد العالي لفن التمثيل العربي، وقد اختار أعضاءها كلهم من أبناء هذا المعهد وبناته. عبأهم، وتقدم بهم مباشرة إلى الأوبرا على طريقة الزحف السريع، كما كان يصنع الحجاج (يمثل الأستاذ دور الحجاج في ابن جلا) وقبل أن نحكم على مدى انتصار فرقة الحجاج الحديث. . ننظر في جولتها الأولى. .
افتتحت الفرقة عملها بتمثيل رواية (ابن جلا) للأستاذ محمود تيمور بك، وهي رواية تعالج شخصية الحجاج بن يوسف الثقفي وتعرض حياته في اثنتين وعشرين سنة، وهي الفترة التي ظهر فيها على مسرح الحياة السياسية في عهد بني أمية. تعرض المسرحية في ثمانية مناظر، يظهر في أولها الخليفة عبد الله بن مروان يدبر لحرب مصعب بن الزبير بالعراق، ويعين قواد الحملة فيختار الحجاج (رئيس الشرطة) قائداً لمؤخرة الجيش، وتظهر في هذا المنظر فتاة أهوازية مغامرة تقول إنها تشتغل بسقاية الجنود، فتسترعي جرأتها وغرابة حالها انتباه الحجاج. ويبدو الحجاج في المنظر الثاني قائدا للحملة المتوجهة إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير، فها هو ذا بسفح الجبل، يشرف على الكعبة التي يحتمي بها ابن الزبير ويرميها بأحجار المنجنيق، ويفد عليه في أثناء ذلك ابن حكيم، وهو شيخ من الطائف ومعه ابنته عفراء، يذكرانه بأيام نشأته في الطائفي، وتعرض له الفتاة بما كان بينهما في أيام الصبا، ولكنه لا يلقى إليها بالاً، فتنصرف مع أبيها في انكسار وخيبة أمل. ويدور بين الحجاج والفتاة الأهوازية حديث عن المرأة الطائفية تظهر فيه غيرتها وحبها للحجاج، وقد صارت الفتاة مرافقة للحجاج وتعد له الطعام، وهي تطمع أن يبادلها الحب، وهو يعابثها، ويبدو من معاملته إياها أنه فقط يعطف عليها ويستملحا ويستطيب صحبتها.
ويرتفع الستار عن المنظر الثالث فيرى الحجاج بقصره في المدينة وقد أصبح واليا على الحجاز، ينتظر رسوله من دمشق، كما ينتظر قدوم عبد الله بن جعفر الذي بعث إليه، فيحضر ابن جعفر، فيحسن الحجاج استقباله، ويتطرق الحديث بينهما إلى أن يخطب الحجاج إلى ابن جعفر ابنته، فيرفض ابن جعفر، لأن الحجاج ليس كفئا للهاشميات وإن علت به الولاية، وينصرف ابن جعفر بعد جدل عنيف بينه وبين الحجاج. وتقبل الأهوازية وتبدي غيرتها، وتظهر في مناقشة الحجاج الجرأة التي اعتادتها معه من أول لقاء بينهما، فتقول له: إنك تريد كدأبك أن تشرف بمصاهرة ذوي الحسب والنسب، ولما يقول لها أنه مصر على زواج ابنة عبد الله بن جعفر، تتوعده وتذكر له كيد المرأة. وفي آخر هذا المنظر يقدم الرسول من دمشق وينهي إلى الحجاج اضطراب الأمور في العراق وضعف واليها وحيرة الخليفة فيما يصنع لذلك، فيعلن الحجاج اعتزامه الرحيل إلى دمشق في وفد من أعيان الحجاز لإعطاء البيعة، يقول ذلك وهو يردد في نفسه كلمة: العراق. .
ويظهر الحجاج - في المنظر الرابع - بقصر الإمارة في الكوفة، مزهوا، يردد: هذا أوان الشد فاشتدي زيم. . ويصرف بعض الأمور، ثم يسأل صاحب الشرطة عن الأهوازية: ألم يعلم شيئا عنها؟ فيجيبه: لم أعلم من أمرها شيئا منذ هربت من المدينة. ثم يصيب الحجاج سهم في ذراعه نفذ إليه من الشرفة، فيهرع الحراس ويعودون ممسكين بالجاني. . ويتبينه الحجاج فإذا هو الأهوازية. ويدور بينهما حوار تقول فيه: إنها تريد أن تقتله لأنها تحبه. وإنها حاقدة عليه لخطبته هنداً بنت أسماء جريا على ما يتطلع إليه من فخر المصاهرة، ويختم هذا المنظر بوثوب الأهوازية من النافذة إلى النثر هربا.
فإذا كان المنظر الخامس رأينا في مخيم شبيب الخارجي أمه (جهيزة) وزوجه (غزالة) في لبوس القتال، ثم ينصرفان من جانب بعد حديث طويل، ويقبل من الجانب الآخر شبيب ومعه الأهوازية التي جاءت إليه لتنقل له أخبار الحجاج وتساعده على قتاله. وفي المنظر السادس نعود إلى قصر الإمارة بالكوفة وقد ظهر فيه حراس الحجاج في حالة فزع لأن شبيبا يحاصر القصر، ويدخل الحجاج فينهر حاشيته وحراسه لخوفهم، ثم يقبل الحجاج أن يستقبل وفدا من قبل شبيب للمفاوضة، ويدخل الوفد على رأسه الأهوازية، فينفرد بها، ويلجأ إلى خداعها بالحب، ثم تنصرف فتحتال على شبيب حتى تحمله على العودة ومغادرة الكوفة.
والمنظر السابع في قصر الإمارة بمدينة واسط التي بناها الحجاج؛ تقدم العمر بالحجاج، وبدت عليه شيخوخة مبكرة، وصار يشكو آلام معدته، فهو يطلب الطبيب، ولكنه يأبى أن يخضع لأوامره، ويعاند حتى معدته، فيدخل عليها - وهو يعاني عسر الهضم - عشر صحاف من الفستق. وتظهر الأهوازية بجانب الحجاج، تعنى به وتسهر على راحته. يعبر الحجاج عن قلقه لبطئ (قتيبة) في حرب بخارى، ثم يقبل رسول قتيبة فيبشره بفتح بخارى، فيفرح لذلك أشد الفرح، ويعد الرسول بأن يزف إليه عروسا جميلة عندما يزف إليه نبأ دخول المسلمين أرض الصين.
وفي المنظر الثامن، وهو الأخير، نرى الحجاج ملففا بالملاحف، وعلى جانبيه مدفأتان، يغالب آلامه ويتمادى في مخالفة الطبيب ومعاندة معدته، فيأكل ويفرط في الطعام، والأهوازية لا تزال في خدمته والعناية به. وكانت عيون الحجاج تجد في البحث عن الفقيه الصالح سعيد بن جبير لخروجه عليه مع ابن الأشعث. وهذا يزيد ابن أبي مسلم كاتب الحجاج الذي يباريه في سطوته وبطشه، ينهى إلى الحجاج أنهم جاءوا بسعيد بن جبير، ويدخل سعيد على الحجاج، ويأبى أن يعتذر بخطأ، ويوغر يزيد صدر الحجاج على شبيب حتى يأمر بقتله، ولكنه يندم على ذلك بعد ويناجي نفسه بفظاعة هذا العمل، ذاهبا إلى إلقاء التبعة على كاتبه يزيد، ويعود إلى الطعام مصراً على المزيد، ولكنه يضعف فيلجأ إلى متكئه. ويأتي رسول قتيبة قائلا: جنود المسلمين على أبواب الصين، فيستدنيه الحجاج ويعانقه، وتبدو في أساريره نشوة الفرح رغم آلامه الشديدة. ثم تعاوده ذكرى الدماء، فيقول في مناجاته: مالي ولسعيد بن جبير؟ ما قتلته. على نفسه جنى. . رحمتاه يا ربي! وأخيرا يتمدد فاقد الحركة، فقد فاضت نفسه.
مسرحية طويلة يستغرق تمثيلها نحو أربع ساعات، ولكنها متجددة التشويق، تشيع فيها روح الدعابة والفكاهة، وتعبيراتها مجنحة بالخواطر والالتفاتات المعجبة. والهدف الذي ترمي إليه هو تحليل شخصية الحجاج كما يراها المؤلف، بل كما أحسها وفهمها من طول معاشرتها في تاريخها، وهو يتخذ هذا التاريخ وسيلة إلى غايته الفنية؛ فالتاريخ موجود في كتبه، ميسور لمن أراده، أما الفن فمجاله النفس الإنسانية، يطلبها في الحياة الحاضرة أو في (الحياة التاريخية) إن صح هذا التعبير.
قصد تيمور إلى الحجاج ذاته، ولم يعرض من تاريخه وأعماله إلا ما يعين على كشف أغوار نفسه؛ ولذلك نجد المسرحية تعنى بحياته الخاصة أكثر مما تهتم بالأحداث التاريخية. الذي يهمنا من هذه المسرحية هو الحجاج باعتباره كائنا إنسانيا له خصائص متميزة كان يعيش في زمن ما.
الحجاج - كما صوره تيمور أو كما يبدو لنا من هذا التصوير - رجل طامح يتطلع إلى المجد، ويحس في أعماق نفسه بنقائص يحاول تعويضها، كان معلم صبيان بالطائف ثم جاء إلى دمشق ووضع قدمه على أول درج في السلم عندما لحق بشرطة الخليفة، فأراد أن يصعد عدوا، واستحكمت به الرغبة، فعنف وبطش وأسرف في عنفه وبطشه، بل أسرف في كل شيء حتى الطعام، وكان يحرص على فخر المصاهرة ليتسامى إلى ذوي الأحساب والأنساب. وهو رجل قوي الشكيمة يأبى الخضوع حتى أنه ليعصي أوامر الطبيب ويأبى تحكمه في ما يأكل ويشرب، ويعاند معدته فيحاول أن يرغمها على تقبل الطعام وهضمه مهما كثر وثقل. وهو أسود أخفش دميم، فتراه معنيا بزيه، يتخذ لغطاء رأسه الطراطير الطويلة يلف عليها العمائم الخضر أو الحمر ليتميز على نظرائه، وهو يميل إلى أن تعشقه النساء، يتجاذبه حبهن وحب المجد، وقد أتى المؤلف بالفتاة الأهوازية من إبداع خياله وجعلها محكا للحجاج ومسباراً لقلبه، فأجرى على لسانها ما يكشف عن نوازعه وأسرار نفسه، تجاهره بذلك في جرأة لا يضيق بها على رغم أنها تصل أحياناً إلى القحة، وبذلك يكشف لنا عن مرض نفسي لدى الحجاج هو (السادية) فهذا الجبار الباطش يلذ له أن تؤذيه هذه الفتاة المغامرة وهي أيضاً تشعر بلذة قسوته بل هي الناحية التي تعجبها فيه، وتجمل الفتاة رأيها في الحجاج بأنه (يد تبطش ومعدة تعوي).
وتيمور لا يرى الحجاج - على ما يبدو لي - رجلا شريراً، أو على الأقل يصدر في أعماله عن محبة للشر - لا يراه كذلك، وإنما يرجع دوافعه إلى البطش والطغيان، إلى ما يراه في جمع كلمة المسلمين وتدعيم الدولة، فهو يبتهج كل الابتهاج بانتصار المسلمين وتمام الفتح واتساع رقعة البلاد، يشم التراب الذي أتى به رسول قتيبة من تحت سنابك خيل المسلمين - يشمه فينتشي به وهو يحتضر. . ثم هو يتألم أشد الألم لقتل ابن جبير ويؤرقه تخيل دمه المسفوك.
وقد بلغت هذه المسرحية غايتها من حيث معالجة الحجاج وجلاء (ابن جلا وطلاع الثنايا)، وكان جل العناية موجهاً إليه ثم إلى الفتاة الأهوازية، وكان رسم الشخصيتين منطقيا سليما وإن كان في علاقتهما شذوذ، وهو شذوذ يقع في الحياة. وليس في المسرحية عناية ذات شأن برسم شخصيات أخرى، وإن كان تقديم سائر الشخصيات طبيعياً فيما عدا شخصية شبيب الخارجي، فقد رأيناه على المسرح على غير ما نعلمه في التاريخ وعلى غير ما يوافق فكرته الثورية الدينية، رأيناه كلفا بحب الأهوازية يلح عليها في مبادلته الحب، وتفاجئه زوجه وأمه وهو مع الأهوازية في حالة تقبيل. . وقد نشأت من ذلك مشكلة هي غيرة الزوجة ونكوصها عن مشاركة زوجها في القتال لخيانته إياها، ثم انتهى الموقف انتهاء خطابيا لا يحل المشكلة، فكان الحل (مكلفتا!)
وقد جنح تيمور إلى تغليب جانب التحليل على جانب السبك، حتى أنه لم يحفل بترتيب نهاية مفاجئة، وهذا اتجاه فني لا غبار عليه، وقد سلكه مع المحافظة على اجتذاب المشاهدين إلى النهاية، وهي مقدرة لا يستهان بها، ولكني أريد النظر في محور القصة الذي يقوم عليه التشويق المسرحي، وهو العلاقة التي بين الحجاج والأهوازية، بدأت هذه العلاقة قوية مشبوبة في أول المسرحية واستمرت متصلة الحوادث حتى نهاية المنظر السادس، ثم كانت في المنظرين السابع والثامن على صورة واحدة، فتاة تعني بمن كانت تحبه عناية عطف ووفاء، وأرى بذلك أن هذا المحور انتهى قبل انتهاء المسرحية بمسافة كبيرة، وسد الفراغ بأشياء أخرى غيره كعرض مرض الحجاج ومناقشته لطبيبه، وقد طال ذلك حتى بدا فاترا لولا بعض المسليات كحركات الخصي (بهروز) ودخول الأعرابي على الحجاج.
وقد أخرج المسرحية الأستاذ زكي طليمات ومثل الحجاج، ولا بد أنه بذل جهداً كبيراً في ذلك، وخاصة أنه بصدد إعداد فرقة جديدة وإظهارها على المسرح أمام الجمهور لأول مرة، وقد وفق على رغم ذلك في الإخراج والتمثيل إلى حد كبير، فكانت أوضاع الممثلين وحركاتهم وأصواتهم طبيعية منتظمة، وكانت الإضاءة معبرة ومطابقة لأوقاتها، وكان منظر الصواعق ولهب الاحتراق رائعاً، وقد تجلت فيه طريقة زكي طليمات في التعبير بالمناظر والإيحاء بالأضواء، وزاد هذا المنظر روعة إصرار الحجاج على مواصلة الرمي وما لابس ذلك من قوة التمثيل وكانت المناظر والملابس موافقة، بيد أني أرى أن المخرج اشترك مع المؤلف في المباعدة بين شخصية شبيب وبين الواقع، فقد بدا في (التزلك) برجليه والدرع اللامع على صدره كأنه من عساكر الرومان.
وفي المنظر الأول رأينا الوزير يدخل على الخليفة فزعاً صائحاً يطلب النصفة من الحجاج لأنه اعتدى على أعوانه، وأعتقد أن التصرف اللائق بالوزير وبالخليفة أن يدخل الأول هادئاً ويسلم بالخلافة فيؤذن له بالجلوس فيجلس ويبث شكايته ورأينا الحجاج (رئيس الشرطة) يدخل على الخليفة وبيده سوط، وقد يكون هذا مقبولاً، ولكن ما أظن لائقاً أن يرفع الشرطي السوط أمام الوزير لإرهابه في حضرة أمير المؤمنين!
وقد أدى الأستاذ زكي طليمات دوره في تمثيل شخصية الحجاج فأحسن الأداء، فقد اندمج فيها وخاصة في المناظر الأخيرة فقد لمحت شيئاً من (زكي طليمات) في البدء، ولكني افتقدته بعد ذلك تماماً حتى لم أعد أرى غير الحجاج.
ولم يكن جهد الأستاذ زكي طليمات في الإخراج قاصراً على الرواية، فقد أخرج أيضاً هؤلاء (الأولاد) الذين أظهروا على المسرح كفاية ممتازة تبعث الاطمئنان على مستقبل المسرح في مصر.
قامت نعيمة وصفي بدور الأهوازية، فبرعت في تمثيل الفتاة الجريئة المتهكمة والأنثى المذلة، وكانت معبرة بصوتها وحركاتها حسنة الأداء للجرس العربي، وهذا قليل في الممثلات، وهي ميزة تمتاز بها هذه الفرقة ممثلين وممثلات. وقد وصلت نعيمة وصفي إلى القمة في المنظر الثالث عندما كانت تحاور الحجاج في شأن خطبته لابنه عبد الله بن جعفر، ولكن ضعفها كان ظاهراً في المنظر السادس عندما أتت تفاوض الحجاج من قبل شبيب، كانت ضعيفة وانية، ولعل ذلك لتعبها.
وقد ظهر باقي الممثلين والممثلات في أدوار قصيرة، وقد أحسن كل منهم في تأدية دوره، وخاصة عبد الغني قمر وسعيد أبو بكر وعبد الرحيم الزرقاني وصلاح سرحان وفوزية مصطفى وسناء جميل وملك الجمل ومحمد الطوخي وأحمد الجزيري.
وكان توفيق الجميع ظاهرة سارة، لتحقيق أمنية (فرقة المسرح المصري الحديث) التي طالما داعبت الأحلام.
عباس خضر