الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 906/الأزهر الكبير في طوره الجديد

مجلة الرسالة/العدد 906/الأزهر الكبير في طوره الجديد

مجلة الرسالة - العدد 906
الأزهر الكبير في طوره الجديد
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 13 - 11 - 1950


- 2 -

نعم كان الأستاذ الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم هو المصلح الذي يرجوه الأزهر وينتظره، لأن الله جمع فيه من المواهب والمكاسب ما لا بد منه لكل مصلح. فهو أزهري مكتمل الأزهرية في دينه وخلقه وعلمه؛ وهو سلفي معتدل السلفية في عقيدته وطريقته وفهمه؛ وهو تقدمي متئد التقدمية في اجتهاده وإصلاحه وحكمه. فإذا أخذوا على الشيخ محمد عبده أنه أنكر القديم، وسبق الزمن، واستكره التطور، وتجاهل العوائق، واحتقر الخصوم، وتحدى الحاكم؛ وأخذوا على الشيخ مصطفى المراغي أنه وصل الأزهر بأسباب السياسة فجمع كما تجمع، وفرق كما تفرق، وصانع كما تصانع، ورأى غاية الإصلاح أن يسترضي الغضبان بالوعود، ويستمهل العجلان بالمنى، فلن يأخذوا على الشيخ عبد المجيد إلا أنه رجل جعل همه للأزهر ووكده للعلم وجهده للدين. ومن استولت على قلبه هذه الأمور امتنع عليه في سبيلها أن يداري في حق أو يهاوي في باطل.

وشيخ الأزهر الجديد خاتم طبقة من العلماء المحققين المتقين كانت لهم في النفوس جلالة، وفي القلوب مهابة، لأنهم حفظوا كرامة العلم فحفظ الناس كرامتهم، واعلوا مكانة الدين فأعلى الله مكانتهم. شهر أيام الطلب بالملكة النادرة في فقه الشريعة، يتعمق أصولها ويتقصى فروعها، ويستبطن دخائلها، بالذهن البارع والفهم الدقيق، فكان مرجع رفاقه في تفسير ما أعضل من المسائل، وتوضيح ما أشكل من التراكيب، وتوجيه ما تعارض من الآراء. يجد في ذلك متعة نفسه ورباضة عقله ومتابعة هواه. وظل شغفه بالبحث وكلفه بالاستقصاء آثر اللذات عنده، وأظهر النزعات فيه، حتى تولى منصب الإفتاء للديار المصرية فصرف هذه القدرة العجيبة إلى استنباط لأحكام الشرعية من مصادرها المتعددة ومظانها المختلفة لكل ما جد من شؤون الحياة وعرض من أحوال الناس، فلم توجه إليه مسألة من مسائل الدين، ولا مشكلة من مشكلات العيش، إلا كان له فيها قول مبين أو رأي منير، حتى أربت فتاويه وحده على فتاوي المفتين جميعا. فلما بلغ سن المعاش نقل مكتب الدرس والبحث والفتوى إلى داره. فكان له كل يوم مجلس حافل يندوا إليه علماء الفقه فيدور عليهم بلفائف التبغ وأكواب الشاي، ثم يقدم إليهم، كتابا من الكتب، أو مسألة من المسائل، فيقرءون أو يناقشون، والشيخ من ورائهم محيط بسر الكتاب، أو عليم بوجه المسألة، يقول فيستمع قوله، ويرى فيتبع رأيه. فهو حجة الوقت في علم الفقه وأصوله ما في ذلك خلاف.

ذلك علمه؛ أما خلقه فشذوذ في أخلاق العصر، ولعله كذلك شذوذ في أخلاق الدهر! فإن سلوك الطريق الذي نهجه الله، والوقوف عند الحدود التي أقامها الشرع، أمران لم يؤتهما الله إلا صفوة من عباده المخلصين جعلهم في خلال القرون أعلاما في مجاهل الأرض، ونجوما في غياهب السماء. حدثني أقرب الناس إليه أن شركة الترام بالقاهرة أهدت إليه وهو يتولى الإفتاء تصريحين مجانيين أحدهما لنفسه والآخر لتابعه. فأما تصريحه فالأمر فيه واضح، أغلق عليه الدرج لأنه يركب السيارة ولا يركب الترام، وانتفاع غيره به وهو مقيد باسمه حرام. وأما تصريح التابع فالأمر فيه مشكل! من التابع الذي يجوز له أن ينتفع بهذا التصريح؟ أهو الكاتب أم الساعي أم الخادم؟ الكاتب لا ينتقل من دار الإفتاء إلا إلى داره. وانتقال الموظف من عمله إلى سكنه ومن سكنه إلى عمله، انتقال خاص لا يدخل في حساب المصلحة العامة. والساعي والخادم لم يخطرا على بال الشركة طبعا حين أعطت التصريح في الدرجة الأولى؛ لأنهما بحكم العادة من ركاب الدرجة الثانية. إذن ليبق التصريح مصونا في المكتب لا تقع عليه عين، ولا تمتد إليه يد، حتى يأتي التابع الذي يستحقه.

وفي أحد الأيام أمر خادمه أن يشتري له بعض الأشياء من السوق، فلما عاد الخادم بما اشترى، وقدم إليه الحساب بما أنفق، قال له: لم لم تحسب أجرة الترام؟ فأجابه الخادم الأمين: ركبت بالتصريح. فقال له الشيخ وقد فار دمه من الغضب: وكيف تستحل هذا والأشياء لي والتصريح ليس لك؟ ولم ينتظر الشيح جواب الخادم وإنما نهض فركب في سيارته حتى نزل في شارع محمد علي؛ ثم وقف في محطة من محطات الترام وأنتظر حتى جاء أحد القطر فاشترى من (الكمسري) تذكرتين من تذاكر الدرجة الأولى ثم مزقهما وانصرف! وتستطيع أنت أن تعرف بالحدس ماذا فهم الكمسري وماذا قال الركاب!!

أليس هنا الخلق شذوذا في بلد لا تصبحك فيه الصحف ولا تمسيك إلا بخبر عن اختلاس ضخم، أو تزوير فاحش، أو سرقة فضيعة، أو رشوة فاضحة، أو خيانة عظمى؟ ألم يكن موقفه المعروف من تعيين صديقه الحميم المغفور له الشيخ مصطفى عبد الرزاق شيخا للأزهر غريبا في مألوف هذا العصر الذي أبطل الحق بالمجاملة، وعطل القانون بالمحاباة؟ لقد كان الحق أعز عليه من الصداقة، والقانون أقوى لديه من الحكومة. وفي سبيل الحق والقانون تعرض الشيخ لما يتعرض له الأحرار الأبرار من طغيان الهوى وسلطان القوة.

مثل هذا الرجل، بهذا الدين، وفي هذا الخلق، وعلى هذا العلم، جدير بأن تناط به الآمال في إنهاض الإسلام وإصلاح الأزهر؛ لأنه بفضل دينه لا يؤتى من قبل نفسه، وبفضل علمه لا يؤتى من قبل قومه، وبفضل خلقه لا يؤتى من قبل سلطانه.

تحدث الأستاذ الأكبر عن منهاجه الإصلاحي في مؤتمر صحفي عقده في دار المشيخة قال: (إن مهمة الأزهر ذات شقين: أحدهما - تعليم أبناء المسلمين دينهم ولغة كتابهم تعليما قويا مثمرا يجعلهم حملة للشريعة، وأئمة الدين والفقه، وحعاظا حراسا لكتاب الله وسنة رسوله وتراث السلف الصالح. أما الآخر فهو القيام بما أوجبه الله على الأمة من تبليغ دعوته وإقامة حجته ونشر دينه؛ وأنه على رعاية هذين الشقين يجب أن تقوم خطة الإصلاح في الأزهر، وأن يعمل العاملون على تحقيق آمال الأمة فيه).

أما السبيل إلى إصلاح خطة التعليم (فمبدأها أن يكون العلم هو الغاية، والتزود من المعرفة هو الشعار. والعلم الذي أقصده هو الذي يطبع صاحبه بطابع الفضيلة والخلق الكريم، وتظهر آثاره في الأشخاص وأعمالهم، قبل أن تظهر في كتابتهم وأقوالهم. والوسيلة إلى ذلك هي العناية بالكتاب فستؤلف لجان من جماعة كبار العلماء وأساتذة الكليات والمعاهد، والمختصين في شؤون التعليم، لمراجعة الكتب الدراسية واختيار لون جديد يوجه الطلاب توجيها حسنا إلى العلم النافع من أقرب طريق وأيسره) وأما السبيل إلى تبليغ الدعوة فوجهته ترجمة القرآن إلى اللغات الأجنبية وكتابة أبحاث في الفقه تساير الروح العلمي الحاضر، وتبرز ما في الشرع الإسلامي من مبادئ العدل والرحمة؛ ووضع مؤلفات في اللغات الأجنبية تكشف عن حقيقة الإسلام وتعرف بمزاياه؛ ثم العناية بالبحوث الإسلامية لتفقه الناس في الدين، وتوثق العلائق بين المسلمين. . .)

تلك هي المقاصد العامة لخطة الإصلاح نذكرها اليوم مجملة، لنعود إلى درسها وتحليلها غدا مفصلة.

أحمد حسن الزيات