مجلة الرسالة/العدد 905/من الأدب الغربي
→ الألعاب العربية | مجلة الرسالة - العدد 905 من الأدب الغربي [[مؤلف:|]] |
الغزالي وعلم النفس ← |
بتاريخ: 06 - 11 - 1950 |
عندما يسأم الشاعر الحياة
للأستاذ إبراهيم سكيك
يتعرض كل إنسان لفترة من الزمن تطغى عليه في خلالها موجة من اليأس يرى الحياة وهو يخوض عبابها عابسة ممطرة لا يتلذذ بجمالها أو يبتسم لمفاتنها؛ ولا يؤخذ بسحرها أو يبهر بروعتها، فتبدوا له بدائع الكون كئيبة قاتمة تبعث على الملل والضجر فينبعث منه أنين خافت وتأوه مكبوت، ويتردد في نفسه خاطر الحزن واليأس، وتستعر بين جوانحه لوعات الشجن والأسى، ويلم بخياله طيف الموت والفناء، ولا يزال على هذا الحال من العذاب والشقاء حتى ينبعث نور من الأمل يبدد دجنة الحياة وديجور اليأس.
وقد مرت هذه الفترة اليائسة بكثير من شعراء العاطفة والوجدان فأذكت قرائحهم الشعرية وألهبت حواسهم الشعرية فنفحو الأدب بما جاد به براعهم من نظم ونثر. وفي هذا الموضوع من الأدب الإنكليزي أترجمه إلى قراء العربية:
أقتبس أولا قصيدة للشاعر المعروف (ملتون) الذي كثيرا ما يشبهه الأدباء بالمعري قالها عند ما كف بصره وتسرب اليأس إلى نفسه وهذه ترجمتها:
عندما أفكر في نفسي كيف فقدت نور بصري قبل أن أقطع نصف الشوط الذي قد اقطعه في هذا العالم المظلم الرحيب، وكيف أن تلك الموهبة الأدبية التي تكمن في نفسي ولا ريب أن في كبتها قتل لتلك النفس التي ترغب في استغلالها لخدمة خالقها وتقديم واجباتها إليه لئلا ينحى عليها باللائمة، عندما أفكر في كل ذلك اتساءل بلهف: هل يتطلب الله مني العمل في حين أنه يضن على بنور البصر؟.
بيد أن (الصبر) يوقف هذه الشكوى ويبدد حيرتي فيجيب على تساؤلي قائلا (ليس الله في حاجة إلى عمل الناس ومواهبهم، وأن أولئك الذين يتحملون نيره اللطيف ليخدموه الخدمة الكبرى. نعم يخدمه أولئك الذين يقفون منتظرين قضاءه من غير ضجر أو ملل. أما هو جل جلاله ففي غنى عنا؛ لأن ملكوته عظيم يسعى في مرضاته ألوف الملائكة الذين يجوبون البراري والبحار دون تعب أو نصب.!!
وهذا الشاعر الروائي (سكوت) (1770 - 1832) يصف منظر رائعا بفقد روعته الت اعتادها لأنه كان في أواخر أيامه في ضيق مالي شديد اضطره لإجهاد نفسه وأخيرا لإرهاق جسمه والقضاء عليه في أيام بائسة وصف في أثنائها هذا المنظر بقوله:
أرى الشمس على سفح تلة (وردلو) تغوص لتغيب وراء وادي (إترك) والريح الغربية هادئة لا صوت لها، والبحيرة ترقد نائمة عند أقدام التلة. غير أن هذا المنظر بجلال روعته لا يحمل بين طياته تلك الألوان البراقة والجاذبية الخلابة التي كان يحملها في زمان سلف وعهد غبر.
مع أن يد المساء تطلي بوهيجها شاطئ (إترك) فتكسبه صبغة أرجوانية. ألقيت نظرة على ذلك السهل لأرى تيار نهر (نويد) الفضي ينساب متماوجا في مجراه، وأنقاض هيكل (ملروز) قائمة في كبرياء إلى جانب البحيرة الوادعة.
لكن الهواء العطري والتلة والغدير والبرج والشجر، مالي أراها تبعث الملل؟ هل هي كما كانت بالأمس، أم أن التغيير هذا في نفسي فقط؟.
ويلاه! كيف يمكن للوح المقوس المحطم أن تزخرفه يد الدهان؟ وكيف يمكن للقيثارة ذات الأوتار المتشنجة غير المنسمة أن تتناسق أنغامها مع صوت المطرب الشادي؟
هكذا كل منظر رائع تتضاءل روعته في نظر العين المتألمة.
وكل نسمة عليلة من الهواء اللطيف تبد وللمحموم زوبعة قارصة.
وكل عرائش البادية وجنات عدن قاحلة كهذا المنظر في نظري.
وهذا شاعر الطبيعة وليم وردزورت (1770 - 1850) وكان شاعر البلاط في عهده يصف جمال الكون وهو في شيخوخته وصفا مشابها لوصف (سكوت) فيقول: لقد مضى زمن كان فيه المرج والبستان والغدير والأرض وكل منظر اعتيادي يظهر لي موشحا بنور قدسي.
وكأنما أفقت من حلم مروع فأراها الآن مغايرة لما كانت عليه في سالف الأزمان؛ وإني وجهت نظري في الليل أو النهار تظهر أمامي الأشياء التي كنت أراها من قبل يظهر قوس قزح ثم يتلاشى، وتفتح أزهار الربيع الجميلة ويضيء، حولها القمر الساطع في الليالي الصافية، ويتلألأ ماء الغدير في تلك الليالي المقمرة، وتشرق الشمس فتخلب الألباب، بيد أني أينما ذهبت أشعر بأن مجدا سالفا قد زال عن وجه الكون.
ويقارب هذا الوصف ما نظمه زميله الشاعر (شلى) وهو يتحسر على الماضي ويتألم لحاضره فيقول:
أيها العالم، أيتها الحياة، أيها الزمن، يا من أقف على آخر درجات سلمك وأنا أرتجف فرقا حين أنظر إلى أسفل حيث درجات الماضي البعيد.
متى يعود مجدك وعظمة أيامك التي ولت؟
آه! لن تعود! لن تعود!
إن السعادة قد طارت من أيامي وليالي.
فالربيع الجميل والصيف النضير والشتاء الأبيض تحرك في فؤادي مشاعر الأشجان دون أن تجلب شيئا من المسرة والابتهاج. فمتى يعود لنفسي المرح والحبور:
آه! لن يعود! لن يعود!
وفي فترة من اليأس الشديد مرت بهذا الشاعر السيء الحظ عندما كان بعيدا عن وطنه يقاسي مرارة الغربة وألم البعد عن الوطن وفرقة الأحباب بعد أن خرج على والده وهجر وطنه فتكبد مشقات لا توصف، في هذه الفترة نظم قصيدة يدعو فيها نفسه إلى العودة لأرض الوطن فيقول:
هيا فإن المرج مظلم حالك بعد أن امتصت السحب آخر أشعة المساء الشاحبة.
هيا فإن الرياح المتجمعة تنادي الظلام؛ ولا ريب أنه سيلبي النداء فيغطي جميع أنوار السماء كما لو كان كفنا شديد السواد.
لا تتريث فقد مضى الوقت، وكل صوت في الطبيعة يناديك بالإسراع لا تغرينك دمعة من صديق أو نظرة من حبيب مهما بالغت في توسلاتها؛ لأن الواجب يدعوك لأن تعود إلى العزلة والانفراد.
هيا أسرع، أسرع إلى وطنك الهادئ الحزين، وهناك اسكب الدموع المريرة على موقده المهجور، وارقب ظلاله القائمة وهي تتحول من هنا إلى هناك كالأشباح، وانظر إلى نسيج غريب هناك سداه الكآبة ولحمته المرح. إن السحب التي تسير في السماء لتخلد إلى الراحة في منتصف الليل عندما تسكن الرياح المتعبة، وكما تسكن هذه الرياح فإن القمر كثيرا ما يريح نفسه فيغيب عن عالمنا المترع بالأحزان، وهذه البحار والمحيطات تجد لنفسها فترات تريح فيها أعصابها من الاضطراب المستمر.
كل ما يتحرك إذا أو يكد أو يحزن لا بدله من إغفاءة مريحة.
أما أنت فلن ترى الراحة إلا في القبر حيث الخلود الأبدي.
غزه
إبراهيم سكيك