مجلة الرسالة/العدد 905/تعقيبات
→ رسالة الشعر | مجلة الرسالة - العدد 905 تعقيبات [[مؤلف:|]] |
الأدب والفن في أسبوع ← |
بتاريخ: 06 - 11 - 1950 |
للأستاذ أنور المعداوي
من حقيبة البريد:
هذه رسالة متواضعة، أطمع أن تنشرها كاملة، ولعل صدرك الرحب لا يضيق بها ولا يتولى عنها، فربما كانت لمثلك فقيرة الوعاء مصدوعة البناء خاملة العبارة مبهورة الأنفاس. . ولكن ما ذنبي والأدب كالدين سمح كريم يغفر ويعفو، والكرام الكاتبون في تواضعهم وعظيم أخلاقهم وكياستهم كالأنبياء والأولياء والمصلحين يحتفون ويقربون، أو لم ينبه الله تعالى رسوله الكريم إلى أنه: (عبس وتولى أن جاءه الأعمى) ليقول له: (وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى)؟. . . هذا سر ما شجعني على الكتابة لك، وما يدريك يا سيدي لعلى أزكي، أو أتخرج على يديك وبفضل توجيهك وتشجعك لي، أديبا أو شاعرا أو ناقدا ألم تتفتح بالأمس زهرة (الشاعرة ناهد) بفضل هذا التشجيع والإدناء؟. ولكن للأسف قد اقتطفتها يد المنون على حين غفلة ولما تزل تنضح بالعطر، وتلك وردة أخرى (هجران) نفحتنا بأول نفحة من أريج أوراقها وبفضل رعايتك أيضا. . . وهل أكون مخطئا إذا اعتبرت هذا وسميته تخريجا على يديك وتوجيها منك، مادام الأمر مرتهنا بكلمة تزجيها إلى الشاعر المبتدئ أو الأديب الناشئ فيهتز لها جنانه وتنبعث الثقة في نفسه، فتشرق شمسه من بعد ظلمة يأسه، ويعمل على ملء تلك الثقة دؤوبا مجتهدا مواصلا ليلة بنهاره حتى لا يهان عند الامتحان؟ فكأن إشارتك له بمثابة نداء منك أن يهب من رقدته ليمضي في الطريق غير هياب ولا مختشع، إلى أن يصبح رهن أمرين كقول الهمذاني في مقدمة كتابه الألفاظ: (إما التعلق بالسماك مضاء ونفاذا إن ثابر حتى نهاية الطريق، وإما الانتكاس في الحضيض تخلفا ونقصا إن قعد به العجز عند أول أشواطه)!. . . وهل ننسى يا سيدي مذهب (الأداء النفسي) ودراساته الفنية العميقة، المحدثة المبدعة؟. . كلا والذي علمك البيان. على أية حال نخرج من هذا الكلام مراعاة لوقتك الثمين إلى سؤال أطمع في الإجابة عنه إجابة تبرد الحرقة وتشفي الغليل، وهو: ما الذي قعد بك عن متابعة نشر فصول كتابك عن شاعر الأداء النفسي على محمود طه في رسالته حتى يتم الكتاب؟ أتراك استجبت لرأى أحد أصدقائك على حد قولك؟ وهل صحيح أن نشرك الكتاب كله في الرسالة الغراء يفقده كثيرا من بهجته وجدته حين تخرجه للناس كتابا كاملا بين دفتين؟ وهل كان يفعل مثلك الزيات في كتبه التي كان ينشرها فصولا متتابعة في الرسالة ككتابه (دفاع عن البلاغة) وغيره؟
وأختتم هذه الرسالة منتهزا تلك الفرصة الطيبة لأبعث إلى شباة القلم الفذ، بتحية التقدير والإعجاب والحب.
(السويس)
عبد الرحمن
هذا أديب آخر لم يشأ أن يذكر اسمه، وآثر - كما فعل أخ له من قبل - أن يختفي وراء قناع. وما قلته لأديب الأمس أحب أن أقوله لأديب اليوم، وهو أنني أفضل أن ألقي الأصدقاء الأدباء في وضح النهار. . أما أديب الأمس الذي نشرت كلمته في العدد (903) من الرسالة فقد ظهر على حقيقته في العدد الذي يليه، وأعني به العدد الذي ظهر منذ سبة أيام. لقد ظهر هذا الصديق في صفحة الشعر وعرفته هذه الصفحة قبل ذلك مرات. . . أليس القارئ (ع. ع. ص) الذي كتب إلي من (طهطا) مدافعا عن القراء، هو الأستاذ عبد الرحيم عثمان صارو الذي طالعنا بقصيدته (زائرة الحمى) في العدد الماضي من الرسالة؟ لقد أدهشني هذا الشاعر الصديق بروعة وفائه، ثم عاد مرة أخرى فأدهشني برقة شعره، ومن حقه على أن أذكر له هذه القيم الجميلة التي يشرف بها الخلق والفن. . ولا بأس أن آخذ عليه قوله: وزهرتاي الآدمية!
بعد هذا أقول لأديب اليوم بعد شكره على كريم تقديره إننا هنا لا نضن على المواهب بذكر ولا نبخل على أصحابها بالتشجيع، لأننا نؤمن كل الإيمان بأن كلمة تقال أو صدرا يرحب أو يد تمد، يمكن أن تخرج الكنوز من باطن الأرض وتفجر الينابيع من أعماق الصخر، وتحيل صحارى الفكر إلى جنان ورقي الظلال ميادة الغصون. . وليس في هذا الصنيع إن نحن أقدمنا علية شيء من الفضل، ولكنه الواجب الذي تفرضه علينا كرامة العقل ورسالة الذوق وديمقراطية الأدب! أننا ننكر هذا الأرستقراطية الأدبية التي تعترض طريق المواهب حين لا يسطع من ورائها شعاع اسم كبير، لأننا لدينا بهذه الكلمة الصادقة التي تقول لك: لا تنظر إلى من قال، ولكن أنظر إلى ما قال إننا لا نلتفت إلى ضخامة الاسم بقدر ما نلتفت إلى ضخامة العقل، ولا نعترف بسعة الشهرة بقدر ما نعترف بسعة الأفق، ولا نهتم بعلو المكانة بقدر ما نهتم بعلو الثقافة، ولا نحفل باكتمال الصيت بقدر ما نحفل الأداة. . هذا هو مذهبنا الذي نؤمن به ودستورنا الذي نسير عليه، وعلى أصحاب المواهب أن يطمئنوا إلى أننا أمناء على الحق حرصاء على القيم. . ولن نحيد يوما عن الطريق.
أقول هذا وأعلم أن هناك كتابا وشعراء سيواجهونني بصيحة من العجب وأخرى من الإنكار، لأنهم بعثوا إلى بفيض من النثر والشعر غضضت عنه الطرف وصرفت الفكر ومسكت القلم. . إلى هؤلاء الاعتذار، لأن اتجاههم الأدبي يعوزه شيء من الصقل وشيء من النضج وأشياء من التجربة والمران. وليس عليهم من بأس إذا ما عمدوا إلى فنون من الجد والمثابرة واحتمال متاعب الطريق ليبلغوا من هذا الطريق منتهاه! كل ما أرجوه لا يتسرب إلى قلوبهم اليأس، وألا يتطرق إلى نفوسهم القنوط، وألا يغلقوا في مجال الطموح تلك الكوى الخفية التي تهب منها رياح الأمل. . الأمل الواثق من القدرة القادرة في الغد القريب.
أترك هذا الجانب من الإجابة على الشق الأول من رسالة الأديب الفاضل لأعرج بالتعقيب على الشق الأخير. . وخلاصة هذا التعقيب أن ذلك الكتاب الذي يشير إليه سيكون يوما بين أيادي القراء. ولن يضير قضية النقد وعشاق الأدب أرجئ نشر الفصول الباقية إلى حين، إلى أن تقع عليه أعين الناس كاملة بين دفتين. وليس هناك من سبب لهذا الإرجاء غير ما ذكرت، وهو أن نشر الكتاب كله على صفحات الرسالة سيغني القراء عن أقتنائه ويعفيهم من مشقة السعي إليه حيث ينقلونه من ضيافة الرفوف إلى ضيافة العقول!
أما الأستاذ الزيات فقد فعل مثل ما فعلت في مثل هذا الكتاب الذي أومأ إليه الأديب الفاضل وأعني به (دفاع عن البلاغة). . وليس من شك في أن وجهتي النظر تلتقيان حول حقيقة واحدة وهي أن نشر الكتاب كاملة على صفحات المجلات يفقدها عنصر الجدة التي تنشدها عين المتشوقة إلى كل جديد. وجوهر الطرافة التي يلتمسها ذوق المتطلع إلى كل طريف. . ولا حاجة بنا إلى الألفاظ في ذكر ما يلقاه الكتاب من قراء هذا الزمن!!
شعراء في الميزان:
في العدد الماضي من الرسالة كلمة الأديب السوري الفاضل محمد الأرناؤوط، يختلف فيها معي حول رأي في شعر الشاعرين: عزيز أباظة وأنور العطار. وجوهر الخلاف أنني وضعت الشاعرين في طبق واحد فلم يقتنع الأديب الفاضل، ومضى يرفع من الشعر الأول ويخفض من الشعر الأخير؟ أو يدخل شعر أباظة في دائرة (الأداء النفسي) ليخرج منه شعر العطار! ومما جاء بكلمته في هذا الصدد قوله: (إن شعر العطار فيما أرى ليس في طبقه شعر عزيز أباظة ولا يمكن أن يبلغ مستواه. أنه شعر صناعة وألفاظ، شعر عبارات مات فيها الجرس، وصور انطفأت فيها الألوان وخمد البريق، ومعان أكرهت على السكون بعضها إلى بعض فلم تكد تأتلف، ولم يكد يأنس شيء منها بشيء. . أنه عمل ذهني وجهد لغوي، لا يمت إلى شعر (الأداء النفسي) بصلة، ولا كذلك شعر عزيز أباظة)!
من هذه الكلمات لتبين للقراء أن الأديب السوري يريد أن يجرد شعر العطار من كل ما يسلكه في إعداد الشعر. . . إلى هنا واقف قليلا لأقول له: إني لا أحب لملكته الناقدة أن تنزلق إلى طريق التجني وأن تندفع إلى سبيل الغلو، لأن كليهما يطمس الحقائق الفنية ويوحي إلى الأذهان بأن الأهواء وحدها هي التي تقود الرأي وتوجه الإبهام!
أنني حين قلت أن هناك لونين من الشعر يعجبني أحدهما ويهزني الآخر، لم أشأ أن أخرج اللون الأول - ومنه شعر العطار - من دائرة (الأداء النفسي) لأن ومضات هذا الأداء منبثقة في شعر هذا الشاعر بمقدر. ومعنى هذا أن وجودها بنسبة معينة أمر لاشك فيه. وعلى مدار هذه النسبة الفنية لتلك الومضات، أعني على مدار ما فيها من قوة وضعف أو من زيادة والنقص في شعر العطار وكل شعر، يتحدد المعنى الذي قصدت إليه حين قلت إن هناك شاعرا يعجبني بأدائه وآخر يهزني بهذا الأداء!
وإذا كنت قد قلت إن شعر العطار من ذلك اللون الذي يعجب ولا يطرب، فأرجو أن يفهم القراء أنني أتحدث عن هذا الشاعر منسوبا إلى كل شعره وليس إلى بعض القصائد أو بعض الأبيات، أعني أن الحكم الذي أصدرته كان حكيما منصبا على الشاغر في مجموعه، وهكذا يجب أن تكون كل الأحكام. . إن قصيدة (الشاعر) للعطار مثلا لا تهزني، وكذلك لا يهزني الكثير من شعره، ومع ذلك فإن إنتاجه الفني لا يخلو من الفلتات الشعرية الملحقة في بعض الأحيان، ولكن العبرة كما قلت هو أن ننظر إلى الشاعر في جملته، أعني أن نربط هذه النظرة بملكته الشعرية العامة لا الخاصة، وأن نركزها على طاقته الفنية التي تحددها الكليات لا الجزئيات؟
هذا الميزان الذي أقيمه هنا بالنسبة إلى شعر العطار، وهو نفس الميزان الذي أقمته بالنسبة إلى شعر عزيز أباظة، وهو بعينه الذي دعاني إلى شيء من التحفظ وأنا أقصر الحكم على شاعرية يوسف حداد، في نطاق هذه القصيدة الوحيدة التي لم أقرأ له غيرها من قبل. . . وليس هناك شيء من التراجع أو شيء من الفتور نحو إعجابي الذي لا يحد بقصيدة الشاعر اللبناني كما خيل إلى الأديب الفاضل، ولكنه الحرص البالغ على أن تكون الأحكام النقدية العامة على شاعرية الشعراء مرتكزة على الإنتاج العام!
ولا يمكن بحال أن أوافق الأديب السوري على مجموعة آرائه في شعر العطار، لأن من هذه الآراء ما لا يتفق مع الواقع كقوله أنه شعر صناعة وألفاظ، أو شعر عبارات مات فيها الجرس، وصور انطفأت فيها الألوان وخمد البريق. . لا يا صديقي! إن أنور العطار من أحلي الشراء جرسا ومن أكثرهم لمعان صور وإشعاع بريق، ولا أستطيع أبدا أن أضمه إلى قائمة الشعراء المصنوعين. . أنه في رأيي ورأى الحق شاعر مطبوع، كل ما ينقصه هو أن يتخلص من هذه القوالب الكلاسيكية التي يصب فيها شعره في كثير من الأحيان، وأن يعني بعض العناية بصدق الرؤية الشعرية في ألفاظه ومعانيه، وأن يهتم بملكة المراقبة النفسية أكثر من اهتمامه بملكة المراقبة الحسية. . وما أقوله هنا عنه يمكن أن أقوله عن عزيز أباظة!
لحظات في دار الكتب:
لحظات لم أقضها في القراءة والإطلاع، وإنما قضيتها في زيارة رسمية للأستاذ أحمد رامي. . ولعل القراء يذكرون موقفي من الأستاذ الفاضل في عدد مضى من الرسالة، ويعجبون كيف تم هذا اللقاء بيني وبينه بعد ذلك الذي كان!
الحق أنها كانت لحظات حافلة بالعجب عامرة بالطرافة. . . ومصدر العجب فيها هو أن نلتقي وجها لوجه، ويكرم الرجل وفادتي ويهش لمقدمي على الرغم من تلك الحملة القاسية التي شننتها عليه منذ أسابيع. ومرد الطرافة فيها إلى أن رامي لم يكن يعرف شيئا عن ذلك الزائر الغريب، سوى أنه مندوب رسمي للدكتور طه حسين بك وزير المعارف. . . ومن هنا أصر على ألا أبرح مكتبه حتى أتناول فنجانا من القهوة، تحية وترحيبا ومودة! إنني أكتب هذه الكلمة لأقدم عن طريقها أخلص الشكر للأستاذ أحمد رامي وكيل دار الكتب المصرية، على كريم ضيافته وجميل حفاوته. . وأشهد أنه كان نفحة من نفحات الذوق حين أمر بإنجاز ما جئت من أجله في يومين وكان مقدارا له أن ينجز في أيام. . أشكره هنا على صفحات الرسالة لأنه لم يكن في طوقي أن أشكره في دار الكتب. . أقصد أنه لم يكن في استطاعتي أن أقدم إليه شكر صاحب (التعقيبات)، وإنما الذي أمكنني أن أقدمه إليه في ذلك اللقاء. . هو شكر مندوب وزير المعارف!
ترى ما الذي سيقوله الأستاذ أحمد رامي لنفسه بعد أن يطلع على هذه الكلمات؟ ليس من شك في أنها ستكون مفاجأة له، ومفاجأة طريفة. . أتراه سيحس شيئا من الأسف على كريم ضيافته وجميل حفاوته، وذلك الفنجان من القهوة الذي قدمه إلي ولن أنساه؟ الجواب في بطن الشاعر!!
سهو من الذاكرة:
طالع القراء في العدد الماضي من هذه المجلة حديثا موجها من كاتب هذه السطور إلى معالي وزير المعارف في العراق ومن المؤسف أن تجمع الذاكرة بين وزيرين مصريين ثم تسهو من الذكر أحدهما لتثبت ذكر الآخر، في مجال يقتضي أن يحل الوزير المقصود بالذكر محل صاحبه الذي ورد اسمه في الحديث وأعني به محب باشا. أما ذلك الوزير المصري الذي كان يجب إثبات اسمه في معرض العطف على شاعر النيل حافظ إبراهيم، فهو حشمت باشا وليس محمد محب! فإلى القراء أولا والتاريخ ثانيا أقدم أخلص الأسف وأعمق الاعتذار.
أنور المعداوي