مجلة الرسالة/العدد 905/إبراهيم عبد القادر المازني
→ الأزهر في طوره الجديد | مجلة الرسالة - العدد 905 إبراهيم عبد القادر المازني [[مؤلف:|]] |
الألعاب العربية ← |
بتاريخ: 06 - 11 - 1950 |
للأستاذ حسني كنعان
من حق الرسالة أن تعتب على حملة الأقلام وملوك القول في مصر لتقصيرهم في (سنوية) المازني، ومن حقنا هنا معشر السوريين الذين عرفنا الفقيد حق المعرفة أن نشارك الرسالة في هذا العتاب والملامة؛ لأن المازني الخالد الذكر له في ربوعنا تلاميذ، وله مدرسة، فالمعجبون بأسلوبه والمرتشفون مناهل ينابيعه والمترسمون خطاه كثر بين ظهرانينا.
ولقد لمع نجمه في بلادنا منذ عهد مجلة السياسة الأسبوعية التي كان يصدرها حسين هيكل بك، وأحبه الدماشقة في زياراته المتكررة لبلادهم، وعشقوه من هذه الصولات القلمية التي دافع بها عن أوطانهم يوم كل أمير الفرنسي يحز في أعناقنا، ولذا بات من حقهم مشاركة اللائمين في تقصيرهم بإقامة حفلة لإحياء ذكرى وإن كانت ذكراه ماثلة للعيان في آثاره الأدبية وكتبه المنتشرة في كل قطر عربي. . . إن من حق الصحف العربية في جميع أقطارها أن نملأ عقولها اليوم بذكرى جاحظ عصرنا الحالي الفقيد المازني وتعدد مناقبه لما له على لغة الضاد من بيض الأيادي، وأن الأقلام العربية على غزارة مادتها وتنوع مناهجها لم تشهد منذ عهد الجاحظ كاتبا ملك من أسلوب الصياغة وإشراق الديباجة مثل الذي ملكه. فهو عبقري في فنه يتناول أبحاثه بأسلوب الساخر المتهكم، فيحدث من هذه الناحية في جسوم خصومه جراحات دامية فيصرعهم صرعا. ويدق أعناقهم دقا بأسلوبه اللاذع المرير، وإلى هذا فإن من أدبه الجم من أي النواحي أتيته لمادة ثرى جديرة بأن يكتب عنها إحياء للذكرى، وإني شخصيا على شدة هيامي بأسلوبه، وحزني على فقدانه لم أجد ما أقوله فيه بهذه (السنوية) سوى ذكرى زيارته الأولى لدمشق سنة 1943 وذكرى تشرفي بمعرفته، إذ ما كاد يذاع وقتئذ في عاصمة أبناء عبد شمس الغر الميامين خبر قدوم زعيم الثورة الأدبية وحامل لوائها حتى خف أدباء العاصمة ومتأدبوها شبابا وشيبا لمقابلته والتعرف عليه، وكنت بين هؤلاء الذين حجوا النزل لزيارته. فأول ما تبادر إلى ذهني قبل رؤيتي الرجل أني سأرى ماردا من مردة الجان لكثرة ما كنت أسمعه عنه وكثرة تحدث الناس عن أدبه الجم وأسلوبه العجيب، فقلت في نفسي لعل هذا المازني الذي نسمع به ونعجب بشهرته الأدبية الواسعة يكون على عظم هذه الشهرة أضخم من عرفنا وأطو وأعرض ممن رأينا في حياتنا من البشر.
دخلنا المنزل ونحن جد مشوقين لرؤية الأديب الكبير، سألنا عنه أحد عبيد النزل فأشار إلينا ذلك العبد الذي يشبه فحمة الليل بطرف موقه إلى إحدى القاعات، فدخلناها، وما كدنا نضع أقدامنا في وصيدها حتى شدهنا وأخذنا بدهشة الداخل المرتاب، وما لبث أن هدأ روعنا عندما أبصرنا عصبة من الأدباء الذين نعرفهم متكوفين حول رجل ضئيل ضاو هزيل؛ وعلى مقربة منه من المسلمين عليه الدكتور إبراهيم الساطي المرحوم وهو سميه كما ترى، وكان من المعروفين بالبدانة وضخامة الجسم وثقله، فسألت الجالسين أين هو الأستاذ المازني؟ فخف من جانب الدكتور الساطي رجل نحيف قميء لا تكاد تحمله قدماه لنحافة جسمه تنم ملامح وجهه وبريق عينيه على ذكاء حاد وذهن متوقد، فمد يده مسلما علينا قائلا:
أنا ذا هو المازني بقضه وقضيضه، ونضه وفقهه، وعجره ويجره. فضحك من في القاعة حتى استلقوا على ظهورهم، فاستحييت ومن معي من الرفاق وتمنينا أن تملئ علينا الأرض، ثم انطوينا على أنفسنا وهممنا بالعودة من حيث أتينا ظانين أن القوم يسخرون منا ويهزءون بنا، فتورد وجهي الذي ما رأيته متوردا طوال معرفتي به من جراء هذه اللقيا غير المنتظرة؛ فأشفق علينا بعض الحاضرين وتلطف قائلا:
لا تخجلوا يا أخوان مما لقيتموه وسمعتموه، فهذا هو المازني كما تعرفونه، وهذا هو شأنه من الدعابة إن جدا وإن هزلا.
فكتمت أمرا في نفسي وأزمعت الانتقام بيد أني جلست أخيرا كاتما ما في نفسي مع الجالسين نسمع طرف الرجل الأدبية ونوادره. وإني والحق أقول ما رأيت - وسني سني - منظرا أثر في نفسي مثل منظره جالسا على يمين سميه الدكتور الساطي لنحافته وقصر قامته؛ وبدانة ذاك وضخامة جسمه. فسبحان جامع الأضداد وشتان في الأجسام ما بين الإبراهيميين.
جلست في الحلقة وكان فيها فرجة فطبقتها، وجعلت أحدق بالمحتفى به وأنا في شك من أمره. أهذا هو المازني بعينه صاحب خصاد الهشيم، وقبض الريح، والرحلة الحجازية، وخيوط العنكبوت، وإبراهيم الكاتب، وغيرها من المؤلفات والروايات الكثيرة والقصص الرائعة؟ أهذا صاحب الأشعار الرقيقة ورئيس تحرير السياسة والبلاغ؟ أهذا هو المجلي بين كتاب الرسالة؟ فمن كانت هذه مؤلفاته وهذه كتاباته وهذه شهرته بحب أن يضارع على الأقل سميه الساطي بضخامة جسمه، وعوج بن عناق بطول المفرط وعنترة بن شداد أخا عبس بشجاعته وقوته. إن قائدا كبيرا من قواد الأدب وفاتحا عظيما من فاتحي القلوب يجب أن يضمه جسم غير هذا الجسم إذا قيست عظمة الأعمال بعظمة الأبدان. . . حقا إن المازني يعد بكبير عمله مع ضآلة جسمه من الأعاجيب. قلبت يومئذ صور الأشخاص الذين أعرفهم والذين وقع نظري عليهم عساني أرى لهذا المخلوق العجيب شبيها من الصور التي أعرفها؛ فتمثلت أمامي صورة الشقي الفلسطيني المعروف المسمى (أبو جلدة) فقلت بنفسي ما أشبه هذا بذاك. فكتبت مقالا للانتقام بهذا الشبه ودفعته للمازني بيده فضحك رحمه الله كثيرا وكان المقال طريفا للغاية جاء في بعض فقراته. . . أجل إن المازني يشبه أبا جلدة من وجوه عدة مهما تنصل من هذا التشبيه واتخذ الألوان والأصباغ ليدرأ عن نفسه هذه التهمة.
فذاك كان مليك الصحاري والقفار، ومخيف السلطات في جبال النار، وهذا مليك الأقلام وصاحب المراوغات والمصاولات الأدبية المخيفة. ذاك كان سارق الجيوب وقاتل النفوس ومزعج السلطات والإقطاعيين البخيلين، وهذا سارق العقول بأساليبه الغريبة، وخالب الألباب، وقاتل الدجالين من المتأدبين بنقده المرير، ومزعج الأدباء من خصومه بتهكمه المرير ومنجله الحاصد. فويل (لخفافيش الأدب من هذا المنجل العضب، وويل للدجالين من هذا القلم الجموح الخالق المبدع).
ولقد كنا نسمع بأعمال أبي جلدة عن بعد فنعجب به، ولما تكشفت لنا حقيقة جسمه وضعفه وهزاله ازددنا به عجبا لصدور هذه الحوارق من رجل هزيل مثله.
كما أنّا كنّا نقرأ كتب المازني ومقالاته فنعجب بها ونسحر، والآن قد ازددنا سرورا وعجبا عندما أبصرنا أن هذه المنتوجات الأدبية تقوم على جسم نحيل ضئيل كجسمه. فحيا الله تربة أنبتته وأما حفلت به وأرضعته ثدييها، فلقد فتح لنا بأسلوبه التهكمي ودعابته الجميلة طرفا في الأدب لم تكن من قبل معروفة في لغة الضاد منذ عصر الجاحظ، فإنه (جاحظي) في أسلوبه وسخريته وكتاباته؛ لذا فهو قمين بزعامة الأدب في هذا العصر، وحق له التتويج والخلود.
وبعد فإني لا أجزع على نفسي فيما إذا مت الآن، لأني بلغت أمنيتي ورأيت المازني الذي عشقته منذ نعومة أظفاري وهمت به. ولما تقدمت إليه بالمقال دسه في جيبه بعد أن نظر نظرة خاطفة إلى عنوانه الذي جاء فيه (أبو جلدة بيننا ولا ندري) فضحك وقال: نعم التشبيه تشبهك، وقد علمت فيما بعد أنه كان للمقال أثر بليغ في نفسه.
دمشق
حسني كنعان