الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 903/تعقيبات

مجلة الرسالة/العدد 903/تعقيبات

بتاريخ: 23 - 10 - 1950


للأستاذ أنور المعداوي

قارئ صديق يدافع عن القراء:

أنا واحد من أولئك الذين يعيشون معك - في عالم الأدب والفن - تحت سقف واحد من المشاركة الفكرية والمشابهة الوجدانية. فكم عرضت لقضايا الأدب وعالجت من شئون الفن بما يوائم خلجات مشاعري كل المواءمة، وبما تتجاوب معه هزات أفكاري ورفات خواطري اشد التجاوب. سوى فارق واحد هو أنني لو أردت أن أتمخض عن هذه الارهاصات الفكرية المشتركة وأشعل - في الأفق ثقاب تلك الومضات الشعورية المتشابهة، لما وآتاني ذلك الوهج الساحر والفن القادر والجمال الشاعر الذي يتدفق من نبع براعتك الآسرة، وينبجس من غدير مدادك المسحور؛ ولأعياني - كما يقول شاعر الفن الخالد علي طه - ولأعياني دبيب الحياة في مخلوقي. ولكم ضمني مجلس من مجالس السمر واحتوتني ندوة من ندوات الفكر، في هذا الجانب البعيد من ذلك (الجانب من الثري) كما يسميه شاعر البيان الخالد شوقي، فرحنا ندير كئوس الحديث حول الأدب والفن والحياة. وقليلا ما كنت ألمح لخمري في نفوس الندامى أطيافا من رضا وأصداء من هوى، وإذ يرغبون إلي في أن أريق ما أعتصر من قطرات الرأي على مائدة الورق وخوان الصحف، أفتدري ماذا يكون جوابي؟ نعم إنك تدري. فصاحب هذه القيثارة النفسية المرنان والحنجرة الفكرية المدوية بأروع الأصداء وأعذب الألحان، لا ينقصه الإلهام الشفاف والحساسية اللاقطة والحدس المرهف. يكون جوابي: أيها الندامى! أيها العشاق! لا يسقى وباخوس في المدينة! يطالعكم بأشهى أسلاف وأعذب خمر في أبهى كأس وأبدع قدح. . ويفهمون للحال من اعني، فليس فيهم يا أخا الروح من يجهلك!

من هؤلاء الندامى وأمثالهم في بقاع الضاد. . من أجل هؤلاء القراء - وأنا واحد منهم قبل كل شيء - سأختلف معك، هذه المرة، في أمرهم، وسأحمل لواء المعارضة عنهم، وسأستعين، في كسب قضيتهم وإثبات براعتهم، بك عليك!

أجل يا سيدي! فلقد رميت القراء - وعممت - بهذا الاتهام الجائر الذي لا افرك عليه ولا اتفق معك فيه. وذلك حين تقول: (إن لدي ثلاثة كتب مهيأة للطبع، ولكن أزمة القواء تصرفني عن التفكير في إخراجها إلى حين؛ إلى أن يقدر الله لهذه الأزمة أن تنجلي ولهذه الغمة إن تزول، ويجد القراء من وقتهم ومالهم وجهدهم ما يعينهم على قراءة الكتب التي تستحق بذل الوقت والجهد والمال! ماذا نفعل إذا كان القارئ العربي قد أصبح قارئ مقالة، يريد أن ينتهي منها وهو يحتسي قدحا من الشاي أو يترقب وصول الترام أو ينتظر قدوم صديق)؟

أجل يا سيدي! إنني لا أرى رأيك هذا ولا أفرك أنت ولا غيرك عليه، إذ لو فتشت في مطاويه ونفذت إلى خبايه فطالعك مستقبل الثقافة العربية أشد ما يكون علهلة وركاكة، ولا وجب أن تهيأ للغتنا الحية الأكفان وتشق لها الملاحد. . (لقد أصبح القارئ العربي قارئ مقالة يريد أن ينتهي منها وهو يحتسي قدحا من الشاي أو يترقب وصول الترام أو ينتظر صديق). . أجل، هذا حق. . وهذه ظاهرة صادقة. . اتخذتها أنت مقدمة صائبة إلى نتيجة خاطئة. إذ لم لا تكون هذه الظاهرة الصادقة نتيجة لا مقدمة؟ لم لا تكون نتيجة لنمو الوعي الثقافي وأثرا من آثار الإقبال على القراءة عامة وارتياد روافدها جميعا؟ أي أن القارئ لا يريد أن يترك حتى أضيق أوقاته وأسرعها خطى. . أوقات احتساء الشاي وترقب الترام وانتظار الصديق. . دون أن يشغلها بما يستدعيه المقام ويتطلبه مقتضى الحال؟ إنني لأسألك أنت بذات: ماذا تقرى في ساعة. . بل في دقائق احتساء الشاي وترقب الترام وانتظار الصديق؟ أتقطع هذا الوقت العابر بغير المقالة العابرة؟ أم تجد في مثل تلك اللحظات الخواطف ما يتسع لمعالجة مشكلة الأداء النفسي ودراسة علي طه وسارتر وتشريح جان جاك روسو؟

لا. . لا. . يا سيدي. فلتعد النظر في اتهامك مرة ثانية، ولتحسن ظنك بنا معشر القراء، فما زال في السويداء قراء، وما زالت سوق الأدب الثمين والفن المحلق تجد من الرواج والإقبال ما يهون معه بذل الوقت والجهد والمال، ومازالت لك - ودعني أخجل تواضعك - في نفوس القراء في جميع الأقطار العربية، مازالت لك تلك المنزلة الممتازة التي كشفت لك عنها الأديبة السورية المطبوعة وداد سكاكيني. ولا تحسبن حدثها ذاك من قبيل المجاملة. . بل هو الحقيقة التي يؤيدها الواقع. . الواقع الذي يعلمه الناس حق العلم ويعرفونه حق المعرفة. . فلا تظلم الواقع إذا ولا تظلم القراء، ولا تتأخر في أن تقدم لهم ما لديك من كتب. ثم ماذا؟ ثم إنني لا أريد أن أبرح هذه المنصة، قبل أن ألقي إليك بالدليل الحاسم القاطع من أدلة النفي، نفي اتهامك للقراء، مستعينا - كما قات لك من قبل - مستعينا بك عليك، فأنت الخصم والحكم. وفي يدك وحدك، وأيدي القراء أيضا، إثبات هذا الدليل. . هذا الدليل هو أن القراء على استعداد تام، وبرهانهم فوق أيديهم، أن يشتروا منك كل كتبك منذ الآن. قبل طبعها! فهل أعنتهم على تحقيق بغيتهم واستجابة طلبتهم؟

وحين يتم طبع كتبك. ويعييك أن تستبقي لنفسك خاصة ولو نسخة واحدة من كل كتاب، ستعرف أي ظن آثم رميت به القراء وأي اتهام ظالم هم منه براء. . والسلام عليك والتحية إليك:

من القارئ

(طهطا) ع. ع. ص

لست أدري لماذا آثر هذا القارئ الصديق أن يخفي أسمه؟ لو علم مباغ إعجابي بأدبه وتقديري لوفائه لما آثر أن يتحدث إلي من وراء قناع. . أنه ليسرني يا صديقي أن أعرف إسمك، ليس ذلك لأنك أسرفت في الثناء على هذا القلم، ولكن لأنك أديب يستحق أن يعرفه الناس، وأنا لا أحب لأمثالك أن يظلوا أدباء مع إيقاف التنفيذ!

لقد دافعة دفاع حارا عن القراء، لأنك قارئ مثالي ينظر إلى غيره على أنه نسخة صادقة منه. . ألا ليت القراء كانوا في مثل شغفك بالقراءة وولعك بالإطلاع ووفائك للأدب. لو كانوا كذلك لما يئس من مستقبل الثقافة في مصر كل صاحب قلم، ولما جفت في حائق الفكر الرفيع ثمرات العقول! أنه كما قلت لك قراء مقالة، يريدون أن ينتهوا منها وهم يحتسون أقداح الشاي أو يترقبون وصول الترام أو ينتظرون مقدم صديق. أعني - وهذا هو الذي لم يتضح لك - أنهم أبناء عصر السرعة والعجلة وعدم التريث والاحتشاد. أعني مرة أخرى أنهم يستمدون ثقافتهم من مقال عابر أو رأي طائر، بقدر ما يسمح لهم الصبر الذي أنهكت قواه أسباب المادة والوقت الذي عصفت بقيمته توافه الأمور!

إنني حين أتحدث عن أزمة القراء لا أقصد قراء المقالة، فهم بخير والحمد لله. . لأن المقالة لن تجور على الوقت (الثمين) الذي يقضونه في أماكن الله والجلوس في القهوات، ولن تجني على (الميزانية) المخصصة للأقمشة الحريرية عند بعض المتشبهين بأبناء الذوات. . من اليسير جدا أن ينفق القارئ المصري عشر دقائق من وقته في قراءة مقال، وقرشين من جيبه ثمنا لمجلة تحمل إليه هذا المقال، ولكنه يضيق كل الضيق وينفر كل النفور من صحبة كتاب نفيس، لأنه يضن عليه بالوقت الذي لن يتعدى الساعتين وبالقروش التي لن تزيد على عشرين! أنا إذا لا أشكو من قراء المقالة يا صديقي العزيز، لأنني ألقاهم كل أسبوع في هذا المكان، ولكنني أشكو من قراء الكتب وأشفق من لقائهم في ومقبل الأيام. . إن عيبي - وقد يكون هذا العيب مزية - وهو أنني أعيش حياتي كلها في عالم الواقع، وعالم الواقع هو الذي يدفعني إلى أن أزن الأمور بميزانها الصحيح، وأن أقول لنفسي اليوم كما قلت لها بالأمس: تريث قليلا حتى يقدر الله لهذه الأزمة أن تنجلي ولهذه الغمة أن تزول، ويجد القراء من وقتهم ومالهم وجهدهم ما يعينهم على شراء الكتب التي تستحق بذل الوقت والجهد والمال!

لا تظن أنني وحدي الذي أشفق على مستقبل الكتاب المصري وأنظر إليه هذه النظرة القاتمة، حسبك أن ترجع إلى تلك القصة التي تحدث عنها توفيق الحكيم يوما في (أخبار اليوم) ثم عرضت لها بالتعقيب على صفحات (الرسالة): ترى هل تذكر تلك القصة التي رواها الأستاذ الحكيم عن تلك المكتبة العامرة بالكتب في أشهر ميادين القاهرة، كيف تحولت أخيرا إلى حانوت للمرطبات؟! إن صاحبها كما يقول هو صاحبها لم يتغير، ولكنه قلب نفسه بكل بساطة من (كتبي) إلى (شربتلي). وعندما سئل في ذلك قال: الناس لا يريدون اليوم عصير الذهن، ولكنهم يريدون عصير الليمون!!

ماذا أقول لك بعد هذه القصة! حسبك أن العقاد يشكو، وأن توفيق الحكيم يسخط، وأن أصحاب دور النشر يضجون من كساد الكتب وإعراض القراء. . وحتى الأسواق الخارجية التي كنا نعتمد عليها في الترويج للكتاب المصري - وأعني بها أسواق سورية ولبنان والعراق وشرق الأردن وفلسطين والحجاز - قد أغلقتها في وجوهنا وزارة المالية المصرية، حين قررت أن يدفع أصحاب المكاتب هناك أثمان الكتب قبل أن تتصفحها الأيدي وتتملاها العيون. . أرأيت قرار أعجب من هذا القرار؟ لقد ترتب عليه أن أمتنع أصحاب تلك المكاتب عن التنفيذ، لأنهم ليسوا مغفلين حتى يدفعوا أثمان كتب لم يعرضوها ليعلموا مدى حظها من إقبال القراء!

ألست توافقني على أنه من الخير أن أرجئ طبع ما لدي من كتب، حتى يكون للأدباء نقابة كنقابة المحامين والصحفيين تدافع عن حقوقهم المهضومة؟. . إن الأمل الوحيد أمام الأدباء المصريين هو أن يعملوا على تحقيق هذه الأمنية، ما تحققت وفتحت الأسواق العربية أمام الكتاب المصري من جديد، فإن هذا القلم سيجد من أصدقائه العديدين في مختلف أقطار العروبة ما يدفعه إلى أن يقدم للمطبعة ما لديه من ومضات الفكر وهمسات الشعور!

صرخة الفن الشهيد في العراق:

هي صرخة الشاعر العراقي المطبوع الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري. . أطلقها منذ أيام على صفحات (الرسالة) فهزت قلوب المشاعر!

ماذا أقول للعراق؟ العراق الذي يريد لشعلة الفن أن تنطفئ ولرسالة الشعر أن تضيع؟ العراق الذي يعيش فيه بعض أبنائه وهم غرباء. غرباء الفكر والقلوب والروح؟ إن عبد القادر وتر من الأوتار الصادحة بأنغام الحق والخير والجمال، فلماذا يريد العراق لهذا الوتر أن تخمد أنغامه وهو يغني له ويتغنى به؟ أهو يضيق بصوت الحق فلا يسمع، وبمعنى الخير فلا ينظر، ويسر الجمال فلا يطرب، وبصرخة الفن الشهيد فلا يستجيب؟!

ماذا أقول للعراق؟ العراق الذي أرسل عبد القادر ليعب من مناهل العلم في (السربون) ثم عاد فأبعده عن المنهل العذب ليشكو حرقة الظمأ ومرارة الحرمان؟ إنها مأساة. . مأساة أن أرى العراق يحول بين أحد شعرائه وبين نور العلم، وهو بهذا النور سيضيء لوطنه أقباس الأمل ومشاعل الرجاء!

أن مصر المثقفة التي تنادي اليوم بجعل التعليم حقا مشروعا لكل حي مثله في ذلك مثل الماء والهواء، مصر هذه تعلن من فوق هذا المنبر - منبر الرسالة - أنها غاضبة وعاتبة. . غاضبة لأن هذا الشاعر المظلوم قد حيل بينه وبين حق هو أقل ما يجود به وطن على فنان. وعاتبةلأنهذا الحق المشروع قد سلب في عهد رجل يقف في الطليعة من رجال العراق خلقا وثقافة، وهو معالي الأستاذ (خليل كنه) وزير المعارف في القطر الشقيق.!!

ويضيق النطاق اليوم عن عرض هذه المأساة، فإلى العدد القادم من (الرسالة) حيث أوجه الخطاب إلى معالي الأستاذ (خليل كنه) باسم الشعراء والأدباء في مصر والأقطار العربية.

أنور المعداوي