مجلة الرسالة/العدد 903/الغزالي وعلم النفس
→ شجاعة مردية!. | مجلة الرسالة - العدد 903 الغزالي وعلم النفس [[مؤلف:|]] |
تعقيبات ← |
بتاريخ: 23 - 10 - 1950 |
اللاشعور والعقل الباطن
للأستاذ حمدي الحسيني
- 6 -
أما وقد انتهينا من التحدث عن الشعور ومظاهره الثلاثة: الإدراك والوجدان والنزوع في نظر الأمام الجليلأبيحامد الغزالي، فقد وجب علينا أن نتحدث عن اللاشعور في نظره أيضا. وسترى في معرفة هذا الرجل العظيم باللاشعور أو العقل الباطن ما يستثير إعجاب ذوي الألباب من العاكفين على الدراسات النفسية الحديثة، العارفين بأن اللاشعور أو العقل الباطن لم يكن معروفا عند علماء النفس إلى أواخر القرن الماضي حتى نشر العالم النمساوي العظيم سيجمند فرويد نظريته في اللاشعور والتحليل النفسي.
أجل، كان علماء النفس يعتقدون أن ليس في حياة الإنسان النفسية غير الشعور ولكن علماء اليوم لا سيما مدرسة (فرويد) يعتقدون أن الشعور ليس سوى جزء صغير من حياة الإنسان النفسية، وأن سلوك الإنسان في حياته ليس نتيجة هذه الخواطر والأفكار التي يكون الإنسان شاعرا بها بل هو نتيجة تفاعل عوامل نفسية كثيرة. ولذلك لا يكون الإنسان عالما بها الجليد في البحر. فإن الجزء الظاهر منه فوق سطح الماء صغير جدا بالنسبة إلى الجزء المغمور فيه؛ فالتيارات السفلية هي التي تؤثر في حركة جبل الجيد وتوجه تسييره. ولهذا قد يرى سائرا ضد التيارات البحرية السطحية رغم إنها قد تبدوا قوية أحيانا. فالتيارات السفلية والجزء المغمور في الماء تستبه اللاشعور وأثره في شعور الإنسان وتوجيه سلوكه.
ولنر الآن هذا اللاشعور أو العقل الباطن في نظر الغزالي. ونحن لا نستطيع أن نعرف رأي الغزالي في هذا الموضوع الجليل قبل أن نعرف أن الغزالي تصدى لتفسير معاني القلب والروح والنفس والعقل فأعطي هذه الأسماء الأربعة معنى واحدا مشتركا بينها جميعا وهو ما نسميه نحن بااللاشعور أو العقل الباطن ويسميه هو باللطيفة الربانية التي لها بالقلب الجسماني تعلق. وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان وهي المدرك العالم العارف من الإنسان والمخاطب والمعاقب والمطالب. ولها علاقة مع القلب الجسماني.
وقد تحيرت عقول أكثر الخلق في إدراك وجه هذه العلاقة. وأن تعلق القلب بها يضاهي تعلق الأعراض بالأجسام والأوصاف بالموصوفات والمستعمل للآلة بالآلة والمتمكن بالمكان ثم يتعمق الغزالي في هذا المعنى فيقول (أنه يراد بالنفس المعنى الجامع لقوة الغضب والشهوة في الإنسان وهي الصفات المذمومة التي تحتاج من أجلها إلى مجاهدة وكسر. ويراد بالنفسأيضاًتلك اللطيفة التي هي نفس الإنسان وذاته ولكنها توصف بأوصاف مختلفة بحسب اختلاف أحوالها فإذا سكنت تحت الأمر وكايلها الاضطراب بسبب معارضة الشهوات سميت النفس المطمئنة، وإذا لم يتم سكونها ولكنها صارت مدافعة للشهوات معترضة عليها سميت النفس اللوامة. وأن تركت الاعتراض وأذعنت وأطاعت لمقتضى الشهوات سميت النفس المارة بالسوء. وعلى هذا فتكون النفس بالمعنى الأول مذمومة غاية الذم وبالمعنى الثاني محمودة غاية الحمد. ثم يقول أن العقل قد يراد به العلم بحقائق الأمور فيكون عبارة عن صفة العلم الذي محله العقل والثاني قد يكون تلك اللطيفة التي ذكرت من قبل. ولا شاعرا بأثرها. فإن الإنسان يعمل في هذه الحياة ويتحرك مدفوعا بعوامل نفسية كثيرة مختلفة خفية عنه مستقرة في قرارة نفسه. ولا سبيل إلى تسلطه عليها. لأنها ليست خاضعة لإرادته وليس له علم بها.
فااللاشعور إذن هو قرارة النفس وقاعها. تتجمع فيه ذكريات قديمة منسية وغرائز حيوانية ضارة لا يرتضيها المجتمع كالقوة والشره ومحبة الناس. ومخاوف كثيرة متعددة متضاربة. وعواطف وأمان وعادات تتفاعل بعضها مع بعض. توجه سلوك المرء على غير علم منه. ولهذا يمثل العلماء هذه الحالة النفسية بجبل.
ونحن نرى في هذه اللطيفة التي يفسر بها الغزالي معاني القلب والروح والنفس والعقل اللاشعور واضحا جليا ونرى العقل الباطن (في تفسيره للنفس بأنها المعنى الجامع لقوة الغرائز ونيارات الميول الإنسانية) ظاهرا نقيا. وكأن الأمام الغزالي أراد أن يعطينا صورة واضحة لعلاقة العقل الباطن بالسلوك الإنساني فلجأ إلى التشبيه بالجميل وضرب المثل الحكيم فافترض أن للقلب أو العقل الباطن جنودا كثيرة منها ما يرى بالأبصار ومنها ما لا يرى إلا بالبصائر، فوضع العقل في حكم الملك، والجنود في حكم الخدم والأعوان، أما الجند المشاهدة بالعين فهو اليد والرجل والعين والأذن واللسان وسائر الأعضاء الظاهرة والباطنة جميعا خادمة للعقل الباطن مسخرة له فهو المتصرف فيها وقد خلقت مجبولة على طاعته لا تستطيع له خلافا ولا عليه تمردا، فإذا أمر العين بالانفتاح انفتحت، وإذا أمر الرجل بالحركة تحركت، وإذا أمر اللسان بالكلام وجزمه الحكم به تكلم. فجملة جنود العقل تحصرها ثلاثة أصناف صنف باعت ومستحث إما إلى جلب المنافع وأما إلى منع الضار، وقد يعبر هذا الباعث بالإرادة. والثاني هو المحرك للأعضاء إلى تحصيل هذه المقاصد ويعبر عن هذا بالقدرة. وهي جنود مبثوثة في سائر الأعضاء لا سيما العضلات منها والأوتار. والثالث هو المدرك المتعرف للأشياء وهي قوة البصر والسمع والشم والذوق واللمس، وهي مبثوثة في أعضاء معينة ويعبر عن هذا بالعلم والإدراك ومع كل واحد من هذه الجنود الباطنة جنود ظاهرة وهي الأعضاء المركبة من الشحم واللحم والعصب والدم والعظم التي أعت آلات لهذه الجنود، فإن قوة البطش إنما هي بالأصابع وقوة البصر إنما هي بالعين وكذا سائر القوى. والجند المدرك بعضه قد أسكن منازل ظاهرة
كالحواس الخمس وبعضه أسكن منازل باطنة كتجاويف، الدماغ فإن الإنسان بعد رؤية الشيء يغمض عينيه فيدرك صورته في نعسه وهو الخيال، ثم تبقى تلك الصورة معه بسبب شيء يحفظه وهو الحافظ ثم يتفكر فيما حفظه فيركب الجند بعض ذلك إلى بعضه الآخر ثم يتذكر ما قد نسيه ويعود إليه، ثم جملة معاني المحسوسات في خياله بالحس المشترك بين المحسوسات ففي الباطن حسن مشترك وتخيل وتفكر وتذكر وحفظ. ثم يذكر الغزالي العقل الواعي وهو عقل المعرفة وعلاقته بالعقل الباطن في تدبير سلوك الإنسان فيعطي العقل الواعي حق الرقابة على رغبات العقل الباطن وتصرفاته وسلوكه فيعمل كل هذا بدقة متناهية تدل على فهم عميق لنفسية الإنسان العجيبة يقول (أن جند الغضب والشهوات قد ينقادان لعقل انقيادا تاما فيعينه ذلك على طريقه الذي يسلكه. وقد يستعصيان عليه استعصاء بني وتمرد حتى يملكاه ويستعبداه وفي هذا هلاكه) وللعقل جند آخر وهو (العلم والحكمة والتفكر) وحقه أن يستعين بهذا الجزء على الجند الآخرين؛ فإن ترك الاستعانة وسلط على نفسه جند الغضب وبقية الشهوات هلك يقينا. ثم يضرب الغزالي الأمثال على هذا فيقول: مثل نفس الإنسان في بدنه اعني النفس اللطيفة كمثل في مدينته ومملكته ملك، فإن البدن مملكة النفس وعالمها ومستقرها وقواها، ومدينتها وجوارحها، بمنزلة الصناع والعملة، والقوة المفكرة له كالمستشير الناصح والوزير العاقل، والشهوة كالعبد السوء يجلب الطعام والميرة إلى المدينة؛ والغضب والحمية له كصاحب الشرطة، والعبد الجالب للميزة كذاب مكار خداع خبيث يتمثل بصورة الناصح وتحت نصحه الشر الهائل والسم القاتل، ودينه وعادته منازعة الوزير الناصح في آرائه وتدبيراته حتى أنه لا يخلو من منازعته ومعارضته ساعة. كما أن الوالي في مملكته إذا كان مستعينا في تدبيراته بوزيره ومستشيرا له ومعرضا عن إشارة هذا العبد الخبيث مستدلا بإشارته في أن الصواب في نقيض رأيه وأدبه وجعله مؤتمرا له ومسلطا من جهة هذا العبد الخبيث وأتباعه وأنضاره حتى يكون العبد مسوسا لا سائسا ومأمورا لا آمرا استقام أمر بلده وانتظم العدل في مملكته، فكذا النفس متى استقامت بالعقل وأدبت بحمية الغضب وسلطتها على الشهوات واستعانت بإحداهما على الأخرى، تارة بأن تقلل مرتبة الغضب وغلوائه بمخالفة الشهوة واستدراجها، وتارة بقمع الشهوة وقهرها بتسليط الغضب والحمية عليها وتقبيح مغتصباتها اعتدلت قواها وحسنت أخلاقها).
نرى فيما تقدم من القول أن الغزالي قد أدرك ببصيرته النفاذة وتأمله العميق هذا الشيء الذي سماه فرويد فيما بعد بالعقل الباطن إدراكا تاما، وعرف حقيقته معرفة صحيحة، واطلع على وقائعه وخفاياه إطلاعا واسعا حتى يخيل لنا ونحن نقرأ ما كتب الغزالي عن العقل الباطن وأسراره ومكوناته أننا نقرأ لفرويد أو أحد تلاميذه في القرن العشرين لا للغزالي في منتصف القرن الخامس للهجرة. ويبدو لنا جليا فيما سقناهالآنمن أقوال الغزالي أن الغزالي عرف جيدا أن العقل الباطن في الإنسان هو الإنسان نفسه بما فيه من غرائز قديمة وميول فطرية وعواطف كامنة ورغبات مكبوتة وذكريات مستقرة. وأنه المدرك العالم العارف، وأنه المخاطب والمعاقب والمطالب. وعرف جيداأيضاًالعقل الواعي وحقيقته وأنه ليس إلا العلم والحكمة والتفكر، وأن العلم والحكمة والتفكر بمنزلة المشير الناصح والوزير العاقل من العقل الباطن، وعرف الصراع العنيف الذي يكون بين رغبات العقل الباطن ورغبات العقل الواعي.
وقد وصف هذا الصراع وصفا دقيقا جميلا. وفوق هذا كله فقد أعطى قاعدة جليلة الخطر في التربية وتوجيه السلوك الإنساني وهي قاعدة الكف والتوفيق: كف الرغبات الضارة عن إشباع نفسها وكبتها عن تحقيق ذاتها وتسهيل الطرق للرغبات النافعة للفرد نفسه أو لجنسه فتتبع نفسها وتحقق ذاتها يقول (أن النفس متى استقامت بالعقل أي العقل الواعي عقل العلم والحكمة والتفكير) وأديت بحمية الغضب، ويعني بحمية الغضب غريزة التغلب والسيطرة وسلطتها على الشهوات، واستعانت بإحداها على الأخرى أي بغريزة على أخرى تارة بأن تقلل وثبة الغضب وغلوائه بمخالفة الشهوة واستدراجها، وتارة بقمعها وقهرها بتسليط الغضب والحمية عليها اعتدلت قواها (أي مجموعة النفس الإنسانية) وحسنت أخلاقها (أي سلوكها).
حمدي الحسيني