مجلة الرسالة/العدد 90/كيف نبعث الأدبوكيف نترواه؟
→ مصر بين ثقافتين | مجلة الرسالة - العدد 90 كيف نبعث الأدبوكيف نترواه؟ [[مؤلف:|]] |
قصة المكروب ← |
بتاريخ: 25 - 03 - 1935 |
للأستاذ عبد العزيز البشري
عرض وجلاء تاريخ:
لاشك في أن من أهم نهضاتنا التي نتواثب فيها الآن ومن أبرزها نهضة الآداب: فلقد زاد عدد المقبلين على الأدب العربي والذين يعالجونه في هذا العصر بقدر عظيم، كما أعليت مكانته، وأبعدت أغراضه، وتلونت فنونه. وبعد أن كان يضطرب في أضيق مضطرب، ويتقلب في أفسل المعاني، ولا يستشرق إلا للضئيل التافه من الغايات من المديح الوضيع الذليل، ومن الغزل المصنوع المتكلف، ومن فخر مكذوب لا يمت إلى مفاخر العصر بسبب، ومن وصف مفترى على الطبيعة، فلا هو مما ينتظم الواقع، ولا هو مما يخلع عليه الخيال الصناع صورة الواقع، ومن هجو تتلقط فيه المعايب والمقاذير من هنا ومن هنا لتعفر بها وجوه الناس عفراً. ونحو ذلك مما كان يجول فيه الأدب في الجيل الماضي، على وجه عام، وتتجرد في طلبه والتشمير له جمرة المتأدبين. على أنه لم يكن له أي حظ من وجدان ولا من جيشان عاطفة، وكيف له بهذا وهو لم يذك له حس، ولم يخفق به قلب، وإنما أمره إلى حركة آلية لا تكاد تعدو في مذهبها تلك الحركة التي تنبعث بها الصناعات اليدوية. إلى أن تلك المعاني، إذا صدق أن مثل ذلك مما تطلق عليه كلمة المعاني، لقد كانت، في الكثير الغالب، تجلى في صور مترهلة متزايلة، لا يقوى بناءها أو يشد متنها شيء من جزالة اللفظ ومتانة الرصف، وتلاحم النسج، ولا يجتمع لتزيينها وتبهيجها شيء من حسن الصياغة وإشراف الديباجة وجمال النظام!
ولقد قيدت هذا (بالكثير الغالب) لأن ذلك الجيل الماضي لم يخل من كتاب ومن شعراء أغلوا حظ الأدب، ففسحوا في أغراضه، وأبعدوا في مطالبه، وحلقوا بمعانيه، وأبدعوا في البيان، فاتسق لجلالة المعاني شرف اللفظ، وبراعة النظم، وإحكام النسج، وكذلك استوى من المنظوم والمنثور كليهما كلام يترقرق ماؤه، ويتألق سناؤه. ورحم الله إبراهيم المويلحي وإبراهيم اللقاني وأضرابهما في الكتاب، ومحمود سامي البارودي وإسماعيل صبري في الشعراء، فقد هدوا إلى حسن البيان السبيل
وإذا كان الأدب يتمثل لأدباء هذا الجيل في صورة أبدع وأروع من الصورة يتمثل فيها لسلفهم القريب، كما أدركوا هم أن له مهمات أوسع أفقاً وأبعد مدى من تلك التي كان يدور فيها في ذلك العهد، حتى لقد أصبح يتقلب في جلى أسباب الحياة، بل لقد تجاوز أو كاد يتجاوز أفق الكماليات البحث إلى موطن الضرورات في الحياة - إذا كان المتأدبون قيد أصبحوا يحلون الأدب هذا الموضع، ويتمثلونه على هذه الصورة، فذلك لأنهم طالعوا أدب الغرب ورأوا ما يتصرف فيه من مختلف الفنون، وما يتجرد له من جسام المطالب
لقد أصبح الأدب وسيلة من وسائل تنعيم النفس وتلذيذها بما يجلو عليها من صور الجمال، وبما يرهف من الحس حتى يتفطن ألوان المعاني إلى كل دقيق وإلى كل بديع، كذلك لقد تبسط الأدب واسترسلت آثاره وإلى كثير من الأسباب العامة، على ما تقدمت الإشارة إليه، فعظم بذلك أمره، وجل في عيش الحضارة خطبه، وكذلك أضحى للبارعين من أهله في الغرب من الشأن ما لا يكاد يوصل شان
ولقد زعمت لك أن الذي بعث تقدير أبناء العربية للأدب هذا المبعث ما جلى عليهم من أدب الغرب وما طالعوا من بعيد آثاره في شتى الأسباب، فراح كثيرون منهم يتأثرونه، ويتصرفون بالبيان في مثل ما يتصرف فيه من مختلف الفنون. على أن كثيرين من هؤلاء الكثيرين قد انقطع جهدهم دون هذه الغاية فلم يظفروا من الأمر بجليل. ولاشك أن ذلك يرجع إلى أنهم، في غالب الأحيان، إنما ينقلون إلى العربية ما يتهيأ لهم نقله من آداب الغرب على الصورة التي يستوي فيها لأهله، لا يحاولون، أو لعلهم يعجزون إذا هم حاولوا، أن يطبعوه على ما يألفه الخيال الشرقي، ويستريح إليه الذوق العربي، وتسلس له بلاغات العرب!
ولقد يكون هذا من أثر الافتتان بأدب الغرب، والتجرد في محاكاته وتقليده من جهة، وقلة المحصول من فقه العربية ورقة الزاد من ألوان بلاغاتها من جهة أخرى
وبعد، فما نحسب أن هناك من ينكر على الأدب العربي جليل خطره في عهد الجاهلية وفي قيام الدولة العربية في الشرق والغرب، وأنه كان، في الجملة، يؤدي من مطالب الحياة ما يؤديه الأدب الغربي اليوم، وأقول (في الجملة) لأن الأدب قد تشعبت في هذا العصر فنونه، وتطاولت آثاره إلى كثير لم يلتفت إليه في الزمان القديم، ولعله لو ظلت دولة العرب قائمة، وظلت حضاراتهم في اطرادها، ما تقاصر اليوم عن شأو الأدب الغربي، بل لعله كان يسبقه إلى كثير!. ولو قد عنى النشء من متأدبينا بدراسة هذا الأدب، وخاضوا في أمهات كتبه، وأطالوا تسريح النظر فيما أثر من روائعه، لرجعوا إلى نفوسهم بأنه أدب عظيم كل عظيم، أدب يمتع حقاً وينعم الروح حقاً بما ينفض من عاطفة متعجلة، ويصور من دقيق حس، ويتدسس إلى ما استكن في مطاوي الضمير، إلى ما أصاب من المعاني البارعة، وما تعلق به من الأخيلة الرائعة، وما تصرف فيه من كل دقيق وجليل في جميع الأسباب الدائرة بين الناس. ما ترك جليلالاً من الأمر ولا دقيقاً إلا مسه وعرض له وعالجه بالتصوير والتلوين، وكل أولئك يصيبه في مصطفى لفظ، ومحكم نسج، وبارع نظم، ودقة أداء، وحلاوة تعبير!
على أن الأدب العربي، مع هذا لقد طالما جال في بعض الأسباب العامة وساهم في الأحداث السياسية والقومية والمذهبية بقدر غير يسير، ومهما يكن من شيء فهو أدب واسع الغنى، رفيع الدرجة؛ بل إنه لمن أغنى الآداب التي قامت في العالم ومن أعلاها مكاناً
والواقع أنه قد انقبض بانقباض الدول العربية وضعف بضعفها، فجعلت تضيق أغراضه، وتتواضع معانيه، ويجف ماؤه، ويتجلجل بناؤه، حتى صار ما صار إليه وظل عاكفاً عليه، إلى ما قبيل نصف قرن من الزمان
ولا يذهب عنك أنه في فترة انقباضه الطويلة قد انبعثت في الغرب حضارة جديدة جعلت، على الزمن، تنبسط وتتناول وسائل الحياة دراكاً حتى بلغت شأواً بعيداً. ومما ينبغي أن يلتفت إليه أشد الالتفات في هذا المقام، أن هذه الحضارة قد أولت أجل عنايتها للشئون المادية، فكان حظ العلوم الطبيعية والكيميائية منها عظيماً، فاستكشفت أشياء كثيرة، واخترعت أشياء كثيرة، حتى كاد الإنسان لا يتناول شأناً من شئون الحياة إلا بسبب طريف. وبذلك كثرت الآلات المادية كثرة تفوق حدود الوصف، وهي تطرد في الزيادة كل يوم، إذ اللغة العربية جاثمة في أفحوصها لا تمتد بالتعريف عن هذا، إذا هي امتدت، إلا إلى قليل، بل إلى أقل من القليل
ولقد كان من آثار فقر العربية في هذا الباب أنها حتى بعد نهضتها الأخيرة لزمت في بيانها دائرة الأدبيات لا تصيب من المحسسات المادية، إن هي أصابت، إلا في حرج وفي عسر شديد! وكيف لها بهذا وليس لها به عهد قريب ولا بعيد؟!
وإذا كانت الحاجة تفتق الحيلة كما يقولون، فقد بعثت النهضة العلمية في عهد محمد علي الكبير رفاعة وأصحابه إلى أن ينفضوا قديم العربية لعلهم يجدون بين مفرداتها وما أثر في كتبها من المصطلحات العلمية والفنية ما يدلون به على ما استوى لهم من جديد في العلوم والفنون، فإذا أصابوا هذا وإلا عمدوا إلى الوسائل الأخرى من النحت والاشتقاق والتعريب. وإذا كان قد اجتمع لهم فيما نقلوا إلى العربية من علوم الغرب وفنونه صدر محمود، فإن ذلك أصبح لا غناء فيه ولا سداد له؛ بعد إذ فترت تلك النهضة وخبت جذوتها بعد ذهاب مذكيها المرحوم محمد علي الكبير، بينا تطرد العلوم والفنون في تبسطها حتى لتخرج على العالم كل يوم بجديد. وهذه الحاجة الملحة، والتي يشتد إلحاحها ويتضاعف كلما تراخت الأيام، لقد كانت تبعث جماعات الفضلاء الفينة بعد الفينة إلى تأليف الجمعيات للبحث والنظر في تحريك لغة العرب حتى تستطيع أن تتوافى لمطالب الحضارة الحديثة. على أنه لم يقدر لها النجاح لأسباب لا محل لذكرها في هذا المقام. فلم يبق بد من أن تضطلع وزارة المعارف بالأمر، وبعد لأي قام (المجمع الملكي للغة العربية)، نسأل الله تعالى أن يمده بروحه، ويعينه على مهمة جليلة المشقة جليل الآثار، وأن يهديه إلى أقوم سبيل!
لقد استطرد القلم من حديث الأدب إلى حديث اللغة، وماله لا يفعل واللغة مادته وملاكه. وإذا كان أجل همه إلى المعنويات فليس له عن هذه المادة غناء، بل لقد تكون وسيلته وأداته حتى في التعبير عن أخفى العواطف وأدق خلجات النفوس. على أن أهم ما يعنينا من هذا البحث إنما هو حيرة الأدباء، أو على تعبير أضبط، خيرة بعض من يعانون الأدب في هذا العصر، وذلك أن في مأثور العربية أدباً غنياً سرياً واتى سلفنا العظيم بمطالب الشعور ومطالب الحضارة جميعاً. على أننا نعيش الآن في حضارة غير حضارتهم، ونعالج من وسائل الحياة غير ما عالجوا. ثم إنه مهما تطبعنا الوراثة على طبعهم، وتنضح علينا من أذواقهم وشعورهم وغير ذلك من خلالهم، فإن مما لاشك فيه أن لتطاول الزمن، وتغير البيئات، وتلون الحضارات، وما يجوز بالأقوام من عظيمات الأحداث أثراً لقد يكون بعيداً في كل أولئك. وأنت خبير بأن الأدب الحق إنما يتكيف بما هو كائن، ويترجم عما هو واقع. ومن هذا تجد كل أدب حي متحرك في تطور مستمر طوعاً لتطور العوامل والأسباب.
ولست تلتمس دليلاً على أن الأدب العربي إنما كان كذلك في حياته القوية بخير من أن تستعرض شأنه في الجاهلية، وتقلبه في جميع الدول العربية في العصور الإسلامية. فلن تخرج من هذا إلا بأنه قد تأثر في كل عصر وفي كل بيئة بقدر ما تغير على القوم من مظاهر الحياة
ومعنى هذا الكلام أن الأدب العربي، في أي عصر من عصوره الخالية، مهما يجل قدره وتعظم ثروته لا يمكن أم يغنينا الآن في كثير من مطالب الحياة إذا نحن اتخذناه على حاله، ولم نعد ما كان من صوره وأشكاله. وإلا فقد سألنا الطبيعة شططاً. فهيهات للساكن الجاثم أن يلحق المتحرك السائر
وهناك أدب غربي دارج الحضارة الحديثة وسايرها خطوة خطوة، واتسع لكل مطالبها، وواتاها بجميع حاجاتها في غير مشقة ولا عناء. ولا يذهب عنك أننا إنما نتأثر الغرب في ثقافته وعلومه وفنونه وسائر وسائله، وهذه سبيلنا إلى ما نستشرف له من التقدم ومشاكلة الأقوياء، ولكن هذا الأدب الغربي الذي نقبل على محاكاته فيما نقبل عليه من آثار القوم، لا يتسق في بعض صوره لشأننا، ولا تستريح إليه أذواقنا، بل أنه قد لا يستوي في تصوراتنا، ولا يجدي علينا في كثير، أضف إلى هذا عجز بعض نقلته سواء في شعره أو في نثره، وقلة محصولهم من العربية، واضطرارهم، بحكم ذلك، إلى إخراجه، مترجمين كانوا أم محاكين ومقلدين، في صور بيانية شائهة الخلق، ناشزة على الطبع، لا يحس إلا مليخة باردة في مذاق الكلام!
وبعد، فإن مما لا يتقبل النزاع أنه لابد لنا من أدب قوي سري يواتي جميع حاجاتنا، ويساير ثقافتنا القائمة، ويتوافى لهذه الحضارة التي نعيش فيها، بحيث تطمئن به طباعنا، وتستريح إليه أذواقنا، شأن كل أدب حي في هذا العالم، ولعل من أشد الفضول أن نقول إن هذا الأدب لا يمكن إلا أن يكون عربياً. ولكن كيف الحياة في ذلك؟
ذلك ما نعالجه في مقال آخر إن شاء الله تعالى، فلقد طال هذا الحديث.
عبد العزيز البشري