مجلة الرسالة/العدد 90/قصة المكروب
→ كيف نبعث الأدبوكيف نترواه؟ | مجلة الرسالة - العدد 90 قصة المكروب [[مؤلف:|]] |
من الشعر المنثور ← |
بتاريخ: 25 - 03 - 1935 |
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
أسبلنزاني
صلة حديثة
(القس الماكر الذي مالق الكنسية والسلطات وهو يحتقرها جميعاً لكي يعيش ولكي يعمل في سكون؛ الذي ناضل نضال الجند بغير أهبة الجند وعدة الجند؛ الذي أثبت من مرق اللحم أن المكروبات ككل الأحياء لابد لها من آباء؛ الذي أهدى للعلم مثانته الوبيئة، ذلك الأثر الوحيد الذي بقى للناس إلى اليوم من هذا الرجل الكبير الخالد)
ولم يكن (نيدم) في هذه الأثناء غافلاً نائما، بل كان يقظاً بكل ما جرى، محساً بخطره أيما إحساس؛ وكان حاذقاً في الدعاية ماهراً في النشر والإذاعة. فذهب إلى باريس وأخذ يحاضر فيها عن مرق لحمه؛ وفي باريس التقى بالكونت الشهير (بيفون) وكان الكونت ثرياً، وكان جميلاً، وكان يحب أن يكتب في العلم، ويعتقد أنه يستطيع تخريج الحقائق من رأسه أحسن تخريج، إلا أنه والحق يقال كان أنيق الثياب أناقة منعته من دخول المعامل وممارسة التجارب. وكان بحق يعرف شيئاً من الرياضيات، فترجم عن نيوتن إلى الفرنسية. فإذا أنت علمت فضلاً عن هذا أنه كان يستطيع أن يلعب على الورق بالأرقام الكبيرة المعقدة في سهولة لعب السحرة المهرة، وإذا أنت أضفت إلى أنه رجل أرستقراطي نبيل، وأنه فوق كل هذا رجل ذو مال كثير، استطعت أن تدرك في غير عناء كبير أنه رجل من الأفذاذ القلائل الذين يحق لهم أن يقضوا لنا في أمر تلك الأحياء الصغيرة قضاء صادقاً دون الرجوع إلى التجربة، وأن يقولوا لنا أتخرج تلك الأحياء عن آباء وأمهات، أم هي تخرج من ذات نفسها - أو على الأقل هكذا كان يتحدث عنه سخره باريس الكفرة الفج وعمل (بيفون) و (نيدم) سوياً بتوافق تام، وفي صفاء لا يشوبه كدر، واقتسما العمل: أما (بيفون) فكان يلبس الثياب البنفسجية البديعة، والأكمام ذات الدانتلة النادرة العزيزة، فلم يكن ينتظر منه أن يوسخها على نضد المعامل القذرة بما عليها من تراب وزجاج منثور، ومرق مراق من وعاء مكسور، لذلك اختص بالتفكير وبالكتابة، وقام (نيدم) بالتجريب. واعتزم الاثنان أن يخترعا نظرية ضخمة يفسران بها كيف تنشأ الحياة، وفلسفة رفيعة عميقة يفهمها مع ذلك كل إنسان، فلسفة يجتمع عليها المؤمنون البررة والملاحدة السخرة على السواء. وأخرجا نظرية أهملت الحقائق التي استخرجها (اسبلنزاني) كل الإهمال، وتعامت عنها كل التعامي! ولكن ما ضرر هذا؟ ألم تخرج هذه النظرية من رأس (بيفون) العظيم؟ أليس في عظم هذا الرأس ما يبرر نقض كل حقيقة مهما كان مكانها من اليقين؟
يقول نيدم للكونت النبيل: (سيدي اللورد الجليل! ما الأسباب التي تنشأ عنها تلك الحيوانات الصغيرة في مرق الضأن برغم غليانها؟)
فيحتدم عقل بيفون، ويدور في الطبقات العليا من الخيال الرفيع دوراناً رشيقاً بديعاً، ثم يهبط إلى الأرض ويجيب: (عزيزي الأب نيدم، لقد كشفت كشفاً خطيراً، لقد وضعت اصبعك على أصل الوجود، لقد رفعت الغطاء في مرق لحمك عن تلك القوة التي تخلق الحياة). نعم لابد أن تكون قوة، كل شيء قوة!
فيقول الأب نيدم: إذن فلنسمها: القوة النباتية، أي لوردي العظيم).
فيجيب بيفون: (اسم مناسب جميل، أيها الأب الجليل)
ثم يلبس الكونت أحسن ثيابه ويذهب إلى مكتبه، وقد تنضح جوه بأطيب العطور، ويبدأ يكتب عن عجائب القدرة النباتية التي تستطيع أن تخلق في مرق اللحم ونقيع الحب حيوانات صغيرة - يكتب هذا لا من ملاحظات دونها عن تجارب في المعمل شهد بها الزجاج والعدس واللهب، بل يكتبها من عقله الخصيب
وما هي إلا أيام معدودات حتى كنت تسمع (بالقوة النباتية) على كل لسان، يتحدث بها كل إنسان، وتتفسر بها كل الأمور، فالزنادقة أحلوها محل الله، ورجال الكنيسة قالوا إنها أمضى أسلحة الله. وشاعت في الناس كما تشيع الأغاني، وانتقلت بينهم انتقال الحكاية المليحة التي لا تتصل بالآداب اتصالاً وثيقاً، أو كما نتحدث اليوم عن النظرية النسبية وأسوأ من هذا وأنكى أن الجمعية الملكية جارت رجل الشارع، بل سارعته حتى كادت تتعثر في خطاها، فانتخبت (نيدم) عضواً بها، ونادت به أكاديمية العلوم بباريس زميلاً. وفي هذه الأثناء كان اسبلنزاني يسير في معمله رائحاً غادياً يتمتم ويدمدم: ذاك خطر على العلم كبير، ذاك تعام عن الحقائق المتجسدة المتجردة الصامتة التي بدونها لا يكون العلم علماً، هذان رجلان يتغاضيان عن تجاربه البديعة وما تتضمنه من حقائق جميلة!
وظل اسبلنزاني لا يدري كيف يصنع. وأنى له ما يصنع، وقد أغرق نيدم وبيفون العالم العلمي بطوفان من الكلم، ولم يجيبا بشيء عن حقائقه، ولم يريا الناس مواضع الخطأ من تجاربه؟ وكان الطلياني مقاتلاً شديد المراس، ولكنه كان يحب القتال بالحقيقة وبالتجربة، وقام خصماه فأثارا حوله غباراً كثيفاً من اللفظ الفارغ، ولفاه من فرعه إلى قدمه بقتام الكلم البائر، فلما امتشق سيفه أن يضرب لم يجد ما يضرب. صاح اسبلنزاني ما صاح، وغضب ما غضب، وسخر سخراً مريراً بتلك الدعابة الهائلة، تلك القوة التي أسموها القوة النباتية، ولكن من دون جدوى. قال نيدم إنها القوة التي أخرجت حواء من ضلع آدم، إنها القوة التي كونت شجرة الصين العجيبة التي تكون في الشتاء دودة، فإذا جاءها الصيف استحالت ويا للعحب إلى شجرة باسقة جميلة - إلى غير هذا من الخرف والكذب، حتى خال اسبلنزاني أن علم الحيوان كاد يضيع، كادت تضيعه القوة النباتية التي ابتدعها نيدم وأخذ يفسر بها كل شيء، فلم يبق له إلا أن يخرج بوساطتها من البقر رجالاً، ومن البراغيث أفيالاً!
ثم جاءت على حين غفلة تلك الفرصة التي أمكنته من القتال.
ذلك أن نيدم كتب إليه ينقد تجربة من تجاربه. كتب إليه يقول: (إن تجربتك يا هذا لا تصمد للنقد طويلاً. إنك سخنت قباباتك ساعة كاملة، فهذه الحرارة الشديدة أضعفت تلك القوة النباتية فأصبحت لا تستطيع خلق تلك الأحياء الصغيرة)
وكان هذا كل الذي طلبه اسبلنزاني واصطبر من أجله طويلاً فنسى لاهوته، ونسى تلاميذه العديدين الذين كانوا يتشوقون إلى دروسه، ونسى العقائل الحسان الائي كن يتراحمن حوله ليطوف بهن في متحفه، وطوى أردانه الواسعة فكشف عن سواعده. وأخذ يعمل، لا بقلمه في مكتبه، ولكن بزجاجه وبذوره ومجهره على نضد معمله
- 4 - (نيدم يقول إن الحرارة تفسد في البذور تلك القوة التي أسماه النباتية. شيء جميل! هل كان جرب قبل أن ينطق؟ وكيف عرف تلك القوة؟ هل أحسها؟ هل رآها؟ هل وزنها؟ هل قاسها؟ لم يفعل شيئاً من هذا، ومع هذا يقول إنها موجودة في البذور! فليكن، وإذن فلنسخن هذه البذور ثم نر)
وأخرج اسبلنزاني قباباته مرة أخرى وأخذ في تنظيفها. ونقعفي الماء النقي أنواعاً عدة من البذور والحمص والفول وغير هذه حتى امتلأت الحجرة بالقبابات، فكنت تراها تشرف عليك من فوق الأرفف العالية، وكنت تراها جالسة على النضد والكراسي الواطئة، وكنت تراها أوطأ من ذلك - قد تربعت على أرض الغرفة حتى يتعذر عليك السير فيها
قال اسبلنزاني: (والآن فلأغل طائفة كبيرة من هذه القبابات أزماناً مختلفة ثم انظر أيها يخرج أكثر عدد من تلك الأحياء الصغيرة). وأخذ يغطس هذه القبابات في الماء الغالي خمس دقائق، ثم يغطس هذه فيه نصف ساعة، ثم هذه ساعة تامة، ثم أخرى ساعتين. وبدل أن يلحمها ويختمها في النار سدها بالفلين. ولم لا؟ ألم يقل نيدم إن هذا يكفي؟ ثم رتبها جميعاً ونحاها؟ وأخذ ينتظر. وذهب يصطاد وينسى أن يشد الخيط عندما تأكل السمكة الطعم، وذهب يجمع المعادن والأحجار لمتحفه وينسى بعد جمعها أن يحملها عند الرواح إلى بيته. وأعمل الحيلة لزيادة مرتبه، وأقام القداسات، ودرس كيف يتناسل الضفدع - ثم اختفى مرة أخرى إلى غرفته المعتمة بما فيها من زجاجات مصفوفة وأدوات غريبة
لو صح قول نيدم، إذن لوجدنا القبابات التي أغليت عشر دقائق تعج بالأحياء، ولم نجد شيئاً في الأخريات التي أغليت ساعة أو ساعتين. ونزع السدادات سدادة سدادة، ونظر في القطرات قطرة قطرة، وأخيراً أخذ يقصف بالضحك، فالزجاجات التي أغليت ساعتين كان بها من تلك الخلائق الحية المرحة أكثر من التي أغليت دقائق
(زعموها قوة نباتية! حديث خرافة وأضغاث أحلام. إنك مادمت تكتفي بسد القبابات فسوف تدخل إليها الأحياء غصباً عنك من الهواء. ولن يغني الغليان عن ذلك شيئاً ولو ظللت تغليها حتى يسود وجهك من سخام النار، فإن تلك الأحياء تدخل إلى المرق من السداد بعد أن يبرد)
انتصر اسبلنزاني بهذا، ثم إذا به يحاول أمراً لا يحاوله إلا العالم القح، العالم الذي أشرب الروح العلمية الحق، ذلك أنه قام يخاصم نظريته، ليرى أيستطيع أن يقهر فكرته، أن يقهر تلك النظرية العزيزة عليه، أن يقهر تلك الفكرة الحبيبة إليه. فرسم خطة الهجوم. وابتدع في أمانة وذكاء تجارب هي محك ما يقول، فأما له وإما عليه. هذا هو العلم، هذه هي روح العلماء التي وهبها الله قليلاً من الرجال أحبوا الحق حباً غلب على شهوات الأنفس وأماني القلوب. وأخذ اسبلنزاني يتمشى في غرفة عمله المظلمة وروحة وجيئة وكفاه خلف ظهره وهو يتفكر: ((. . . . ولكن مهلاً! أليس من الجائز أن نيدم خمن تخمينه وقعت في الصميم من الحقيقة وهو لا يدري؟! أليس من الجائز أن في هذه البذور قوة نباتية حقاً أعدمتها النار الشديدة؟!)
ثم قام فأتى بشيء من البذور، ثم قلاها في مقلاة كما يحمص اللبن، أعني حبه، حتى أرمدت واسودت، ثم وضعها في القوارير وصب عليها الماء، ثم هدر كالبعير يقول: (لو صح أن في هذه البذور قوة نباتية كما يزعمون إذن فقد أعدمها التحميص إعداماً)
وبعد أيام رجع إلى قارورته وما بها من الأحسية المطبوخة من البذور المحروقة، وأخذ ينظر إليها بعدسته فوجدها جميعاً مليئة بتلك الحيوانات الصغيرة يزحم بعضها بعضاً في مراحها ومغداها، تنعم بالحياة وتبتهج بالعيش في مرق الحب المحروق نفس الحياة الناعمة والعيش البهيج الذي كانت تجده في حساء الحب غير المحروق. وعلت وجهه ابتسامة ساخرة، كأنما كان ينظر في هذه الساعة إلى نيدم وإلى بيفون ويتصور ما قد نالهما من جراء ذلك من الحرج والضيق
حاول أن يقهر نفسه ويقهر نظريته، فإذا النتيجة تطلع بقهر نيدم رب التقوى، وبانحدار بيفون رب الظرافة. قالا إن النار تقتل القوة التي ابتدعاها فلا تتكون تلك الخلائق، وها هي ذي البذور تحرق حتى تتفحم وهي لا تزال ترفد تلك الأحياء بالغذاء الطيب المريء - (إذن فتلك القوة خرافة). وبهذا النداء صاح اسبلنزاني في أوربا يسمع دانيها وقاصيها فأخذت تنصت إليه
وأراد أن يستجم من عناء المخلوقات الضئيلة وما يتصل بها من أبحاث مجهدة، فحول إلى المعدة الإنسانية وأخذ يدرس الهضم كيف يحصل فيها، وأجرى في ذلك تجارب على نفسه كانت مؤذية قاسية. ولم يكفه فطلع إلى ذروة بيته، إلى تلك الحجرة الحارة المظلمة التي تلي سقيفة داره، وأخذ يدرس كيف أن الوطواط على عماه يستطيع أن يطير فيها ولا يصطدم بشيء مما بها. وفي ثنايا كل هذا استطاع أن يقتصد من وقته فيعين أولاد أخيه على التعلم، وأن يتكفل بحاجات أخته وأخيه، وما كانوا من ذكائه وعبقريته في شيء، ولكنهم كانوا من لحمه ومن دمه
ولم يلبث أن رجع القسيس يسأل نفسه ذلك السؤال القديم: كيف تنشأ الحياة؟ ذلك السؤال الذي منعه دينه من أن يجد له جواباً، وتلك الحياة العجيبة التي أوصاه دينه بأن يتقبلها بعين مغمضة وإيمان أعمى، وأن يتخذ من غرابتها آية من آيات الله العظيم، وأن يرى في غموضها لسراً من أسرار الحي القيوم. رجع يبحث في الحياة كيف تكون، وأخذ يجرب في الحيوانات الكبيرة بدل تلك الحيوانات المجهرية الصغيرة. وبدأ سلسلة من الأبحاث طويلة في سفاد الضفدع المسمى بأبي ذنيبة ساقته إلى فظائع كبيرة وتمثيل بالحيوان تقشعر منه الأبدان. . .
ولم يكن يأتي الفظاعة حباً لها، ولم يتعد حدود اللياقة ضيقاً بها، بل كان يتشمم حيثما قاده أنفه طلباً للمعرفة وتعشقاً لها. وقسا على نفسه كما قسا على الحيوان. ذلك أنه أراد أن يدرس كيف تهضم المعدة الطعام، فإذا يأتي بقطع صغيرة من الخشب يجعلها جوفاء ثم يملؤها باللحم ثم يبلعها، وبعد ذلك يضع إصبعه في حلقه فيقيئها، ثم يأخذ ينظر ما جرى للحم داخل الخشبات. وثابر كالمخبول على هذا العذاب حتى اعتراه غثيان دائم لم يجد معه إلا الإقرار بالضرر الحاصل فوقف التجارب
يتبع
أحمد زكي