الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 898/تعقيبات

مجلة الرسالة/العدد 898/تعقيبات

بتاريخ: 18 - 09 - 1950


لأستاذ أنور المعداوي

وجهات نظر في رسالة:

أوفر شكر واجمل تحية:

عدت إلى دمشق من نزهة مضنية في حلب وضواحيها كما عدت أنت من رحلتك الطويلة: (خيالاً لا ينفض بعدها يديه من خداع الأوهام ويلقى عصاه). . واستقبلني المرض فاعتصمت بالسرير أياما طويتها في القراءة والتأمل، ولقد طلعت على الرسالة قبل غيرها من بريد الكتب والمجلات، فقرأت تعقيبك على كلمتي الأخيرة، وأسفت اشد الأسف أن حالت الحوائل دون زيارة الإسكندرية والقاهرة خلال انعقاد المؤتمر الثقافي الثاني، ويسرني أن تعلم أن رؤيتك ورؤية الأستاذ الزيات تعدلان عندي هذا المؤتمر الثقافي الذي لا يعدوا أن يكون مؤتمر كلام وطعامدون أن يكون مؤتمر تنفيذ وأفعال. . وما عهدي بالمؤتمر الثقافي الأول الذي عقد في (بيت مرى) من لبنان ببعيد، وما احسب حكومة (عربية) واحدة نفذت قرارات المؤتمر الثقافي الأول حث بحق لها أن تشترك في المؤتمر الثقافي الثاني!

على أني آملة من الله آن يكتب لنا لقاء قريباً في أعقاب الخريف فأزور القاهرة والقه الأستاذ الزيات في دار لرسالة ونبحت طويلاً في (شؤون الأدب والأدباء ومشكلة الكتب وأزمة القراء. .) ولعلها احب الأحاديث إلى نفسي وأشهاها إلى خاطري.

لا أحب أن نتقارض الثناء فنتحدث عن أسلوبي بتميز بالنضج والأصالة، وأتحدث عن شباب أسلوبك وأناقة صورك ورفاهة أخيلتك، ولكنها كلمة صريحة أود أن أطلعك عليها فلقد قرأتك كثيراً وعرفتك كما تعرف نفسك ولكني في هذه المرة اكتشفت ناحية أدبية جديدة فيك وهي أن لك حين تكتب عقل (طه) وقلب (الزيات). . وما رأيت أحدا غيرك من أدباء هذا العصر؛ استطاع على طراءة الشباب أن يبلغ ما بلغت من أسلوب مكين متين، وصور أنيقة رقيقة، وخيال خصيب عجيب! فاحرص ما استطعت على صداقة الزيات واحرص على مكانك من رسالته، فليس أجدى على الأديب مثل أن يلقى الأديب ويصادقه ويعايشه.

مع هذه الرسالة قصيدتي (قصة قلب) وهي لون جديد من ألوان الشعر العاطفي يلخص قصة القلب الإنساني ويتحدث عن الحب حديثاً جديداً أن تعقب عليها وعلى أختها (القمر) في فصل من فصولك الرائعة، لأنه يهجني ويثلج صدري أن انقد وانتقد، ويسرني أن أصغي إلى نقد من أعايشهم من رجال الأدباء والفكر إن نقد الأحياء للأحياء أجدى من نقد الأحياء للموتى، وأعاظم رجال الفكر في بلاد الناس يعنون اشد العناية بهذا النقد لأنهم فيه تجاوباً وتوجيهاً.

كنت أحب أن أزوك في القاهرة، وما كنت أدري أن قصيدتي (القمر) و (قصة قلب) ستنوبان عني في هذه الزيارة فأكرم وقادتهما لأنها حبيبتان إلي عزيزتان علي أثيرتان عندي.

وذلك التحية الطيبة والمودة الدائمة والشكر الموفور.

(دمشق - سورية)

هجران شوقي

لست أدري ماذا أقول للآنسة هجران شوقي بعد أن أسرفت في الثناء. إنها وجهة نظر أول تنقلها إلى رسالتها الثالثة واقف منها كما وقف الزعيم الخالد سعد زغلول من قوم أسرفوا في الثناء عليه. ارتدى الآنسة ماذا قال لهم سعد؟ لقد قال لهم عباراته المشهورة: (لقد أخجلتم تواضعنا) فصارت مثلاً من الأمثال.

أعمق الشكر يا آنسة، واخلص الأسف أن حالت الظروف بينك ويبين الحضور وبيننا وبين رؤيتك. . ولئن عاقك اليوم المشهود عن هذه الأمنية فأرجو لا يعوقك الغد المرتقب، وسواء صافحت روحك أنسام هذه الأرض الطيبة في أعقاب الخريف أم في أوائل الشتاء، فإني أقول لك كما قلت بالأمس مرحباً بك ضيفة كريمة تلقى في ديارنا أهلا غير الأهل ووطناً غير الوطن.

صدقيني لقد كانت وجهة نظرك الثانية عن المؤتمر الثقافي لفتة مشرقة، واشهد لقد كانت هي وجهة نظري وكأننا كنا في اتفاق الرأي على ميعاد ولقد كنت على وشك الكتابة حول هذا الموضوع قبل انعقاد المؤتمر بأيام، ولكنني تذكرت أن هناك أناسا يهمهم أن ينتهي المؤتمر دون أن يثار من حوله الغبار! وما كففت القلم مجاملة لهم لي حساب الحقيقة الصارخة والواقع الشهيد ولكن لأنني قد وضعت من ميزان أوهامهم في كفة الشك والاتهام. . من هنا كففت قلمي ورجوت المؤتمر شيئاً من التوفيق ينسى أناس في ظلاله بعض ما ساورهم من خيبة الرجاء في المؤتمر أول، ولكن البداية السيئة التي تجلت في مظاهر الارتجال حتى أوشك الشمل أن يتفرق؛ هذه البداية كانت تشير إلى النهاية وتغنى عن كل وجهة نظر في مجال التعليق!.

ومع ذلك فقد انتهى المؤتمر وأشهد ما خرجت منه بشيء ذي خطر سوى محاضرة الأستاذ الزيات، هذه المحاضرة القيمة التي أقول فيها رأيي خالصاً لوجه الحق لا لوجه الصداقة وما تعودت أن أجامل أحدا ولو بلغت أواصر الود بيني وبينه ما بلغت بيني وبين هذا الصديق. . ما أريد أن أخرجه حين أطلب أن يجهر برأيه فيما أصاب المؤتمر من نجاح أو فيما منى به من إخفاق، بنفس الصراحة السافرة التي زخر بها رأيه الأخر في حاضر الأدبي العربي الحديث.

أما عن وجهة نظرك الثالثة يا آنسة فلا أوافقك على شقها الأول وإن كنت أوافقك على شقها الأخير: تقولين عني أن لي (عقل) طه حين اكتب (وقلب) الزيات؟. . من الصعب أن تتشابه العقول في مناهج التفكير وطرائق التعبير، لأن لكل أديب عقله الخاص الذي هو من صنع الله أولا ومن صنعه هو في نهاية المطاف، أعنى أنه وليد نشأته ونتاج ثقافته وثمرة مداركه وكل هذه الأشياء لا بد أن تعكس أثارها الواضحة على مظاهر النشاط العقلي وتوجه كلا منها إلى طريق: ومن هنا كان عقل طه غير عقل العقاد؛ وعقل العقاد غير عقل الزيات؛ وعقل الزيات غير عقل الحكيم، وقفل الحكيم غير عقل تيمور. أما القلوب فقد تلتقي في دفقة الشعور وجيشان العاطفة، وتأتلف فيها وخفقة خفقة أمام هزة من هزات الكون أو مشهد من مشاهد الحياة، لأن رواسب الإنسانية المستقرة في أعماق النفوس قسط مشترك بتقاسيمه الأحياء كل بنصيب!

بقيت إشارتك إلى الحرص على صداقة الزيات ومكان هذا القلم من رسالته. أود أن أقول لك أن ما بينه وبيني من قرابة الروح وأصالة المودة ظاهرة يعز وجودها في مثل هذا المجتمع الذي نعيش فيه؛ وليس لمكاني في الرسالة اثر يذكر في هذا الدير يربطني بصاحبها منذ عرفته، وإنما هو رفاء يقابل بوفاء! أما عن قصيدتك (قصة قلب) وأختها (القمر) فموعدي معها في ميدان النقد آت لا ريب فيه، وذلك بعد أن تقع عليهما الأعين والأذواق في الأيام المقبلة. وإذا كنا قد تأخرنا في نشرهما بعض الوقت فمرجع ذلك إلى ما بين أيدينا من قصائد أخرى قد سبقت في الوصول ويقتضي الأنصاف أن ينشر كل شيء في وقته المعلوم

كلمات من شوينهور:

مما روى عن الفيلسوف الألماني شوينهور أنه خرج على الناس يوماً بمذهب فلسفي جديد حمله إليهم كتابه المعروف (العالم كإرادة وفكرة). . واعجب النقاد بكتاب الفيلسوف ناعتين مذهبه بأنه غزوة موفقة في ميدان الفكر الأوربي عامة وميدان الفكر الألماني على الأخص وكن ناقداً واحداً أتصدى للكتاب القيم في حملة ساخطة هدفها الحط من قدره وقد صاحبه وفكر شوينهور طويلاً: هل يتناول قلمه ليناقش هذا الناقد المطموس؟ وبعد جولة فكرية طاف بها حول عقلية ناقدة، انتهى إلى أنه لا يستحق منه غير هذه الكلمات: (أن بعض آثار الفكر مثلها كمثل المرآة إذا نظر فيها الحمار. . فلا ينتظر أن يجد وجه ملاك!

وبالأمس خرج كاتب هذه السطور عل الناس أيضاً بمذهب جديد في النقد وهو مذهب (الأداء النفسي). . . وسجلت صفحات (الرسالة) ورسائل الأدباء مدى ما لقي المذهب الجديد من تقدير وثناء. . . ولكن ناقداً واحدا اشق عليه إلا يكون هناك صوت ينكر ورأى يعارض، فكتب في البريد الأدبي من العدد الماضي من الرسالة كلمة ختمها بهذه اللمحة البارعة: (أن القلم يوشك أن يقرض اللجام ليكشف الغطاء عن الأداء النفسي، وذاك أمر أن يبد يسؤ الأستاذ المعداوي). . من هنا تذكرت رد شوينهور على ناقده. ولعل أول شيء ذكرني بهذا أرد الخالد هو كلمة (اللجام) التي وردت في لمحة الأديب الطنطاوي المجهول!

أما الشيء الثاني الذي ذكرني شوينهور فهو موقفه من ناقده المعروف حين رأى أنه غير جدير بمناقشته: وكذلك عزمت على أن اقف نفس الموقف من ناقدي الذي لا يعرفه أحد وأرجو إلا يغضب إذا ما أهملت ذكر اسمه الذي لا يعرفه أحد وأرجو إلا يغضب إذا ما أهملت ذكر اسمه خشية أن يعرفه الناس مرتين. . وخمول الذكر خير من الذكر الذميم على كل حال!!

لقد تعرض هذا المجهول العظيم لما كنت قد كنته عن الشاعر اللبناني يوسف حداد، متخيلاً أني سأهتم بمناقشته لتستطيع أن يطل برأسه على دنيا الأدب والأدباء. . . ومعذرة يا عزيزتي إذا ما أغلقت الباب في وجهك، لأنني لا اهتم بمناقشة الرؤوس الفارغة ولو ركبت فوق أعناق طويلة، تتيح لها أن تطل على دنيا الأدب والأدباء من حين إلى حين!

مذهب الأداء النفسي لا يرضيك؟ من أنت إذا رضيت أم سخط؟! أن الجمال إذا تمثل في لوحة الرسام أو سيمفونية الموسيقار أو ميزان الناقد أو قصيدة الشاعر، ثم وجد من ينكر أصداءه في فجاج النفس وأضواءه في شعاب القلب فإن الذنب ليس ذنب الجمال. . . ولكنه ذنب كل عين عمياء وكل أذن صماء وكل شعور بليد!!

بين عزيز أباظة وأم كلثوم:

في العدد الماضي من الرسالة قصيدة محلقة مهداة إلى الآنسة أم كلثوم من الأستاذ الشاعر عزيز أباظة. وما أريد أن أعقب على فن الشاعر وإنما الذي أريد أعقب عليه هو ذوق المطربة! لقد أثارت عبارة الإهداء التي وجهها عزيز باشا إلى الآنسة أم كلثوم بعض الخواطر الكامنة في النفس منذ أمد بعيد. . . وقبل أن أنثر بين يد القارئ شيئاً من هذه الخواطر المثارة أعيد هنا نشر عبارة الإهداء (اعتدت أن أهدي إليك شيئاً من الشعر وأنا غريب الدار وتقولين أنني أفعل ذلك توفيراً للهدية وأقول أنني أفعله توقيراً للمهدى لها. . فهل تصنعين فيه لحناً؛ لقد خلدت الخالدين فتنزلا إلى المغمورين).

أرأيت إلى هذا الإهداء المضمخ بعطر التواضع وإنكار الذات؟ أن عزيز أباظة ليس من الشعراء المغمورين ولكنه من الشعراء الملحوظين. وهكذا يصنع التواضع بأهله حين يجردهم من محاسنهم في رأي أنفسهم ونريد من تلك المحاسن في رأي الناس! بعد هذا افتح الباب على مصراعيه فأقول لأستاذ الشاعر: هون عليك. . . أن الآنسة أم كلثوم لا تستطيع أن ترفع من شأن شاعر لم يرفعه شعره أو تخفض من قدر شاعر قد ذاع في الناس قدره هذا إذا غنت للقول ولم تغن للأخير! ما معنى هذه الكلمات؟ معناها عندي إنها غنت شوقي العظيم المشهور فلم تضف إليه مجداً فوق مجده أو معجباً ينظم إلى زمرة المعجبين، ولو لم تغن له لبقى شوقي كما كان. . وغنت لمصطفى على عبد الرحمن الشاعر المغمور فلم تستطع أن تنتشله من مهاوي الخمول أو زوايا العدم، ولو غنت له ألف مرة لبقة كما كان. . . واعجب العجب في هذا الذوق أنه لا يجد حرجاً في المساواة بين القمم والسفوح!! لو اقتصرت الآنسة أم كلثوم على شعر شوقي وحده لا لتمسنا لها بعض العذر كله، لأن هناك شعراء لو اطلعت على شعرهم لوجدت فيه من الروائع ما يشرف به الغناء. . . ولكنها تنسى شعر علي محمود طه مثلاً لتصدح بشعر مصطفى عبد الرحمن! ماذا أقول في هذا الذوق؟ هذا الذوق الهابط سواء أكان منسوباً إليها أم كان منسوباً إلى (مستشارها الفني) أحمد رامي؟! لقد بلغني أن رامي هو الذي يشير عليها بأن تغنى لهذا ولا تغنى لذاك. . إذا كان هذا صحيحاً فأحب أن انصح للآنسة أم كلثوم بأن تستشير الشعراء في اختيار الشعر الصالح للتغريد، لأن رامى قد ترك صفوف الشعراء منذ عرفها وانظم إلى صفوف الزجالين!

لماذا لم يشر عليها المستشار الفني بأن ترجع إلى شعر على محمود طه وهو سيد الشعراء (الغنائيين) في الأدب العربي قديمه وحديثه؟ سؤال يحتاج إلى جواب. . ومع ذلك يتطوع صديق لبق بهذا الجواب فيهم في أذني بهذه الكلمات: هل نسيت أن رامى كان هو الإنسان الوحيد الذي لم يودع الشاعر الراحل بكلمة رثاه؟ وهل نسيت أن السبب في هذا الجحود هو شعوره بأن علي محمود طه قد اعتدى على حقه في وكالة دار الكتب المصرية قبل أن يلقى ربه بأسابيع؟ ابحث عن النتائج يا صديقي في ضوء المقدمات!

منطق سليم لم أستطيع له دفعاً. . ولكن متى كان علي محمود طه محتاجاً إلى الخلود تضفيه على ذكراه كلمة يرثيه بها رجال أو قصيدة تغنيها له إحدى المطربات؟!

أنور المعداوي