الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 891/الغزالي وعلم النفس

مجلة الرسالة/العدد 891/الغزالي وعلم النفس

بتاريخ: 31 - 07 - 1950


للأستاذ حمدي الحسيني

لست حديث العهد بالإمام الجليل حجة الإسلام أبي حامد محمد الطوسي الغزالي. فقد قرأت له وقرأت عنه في ماضي السنين قراءات كثيرة.

ولكنني شعرت بالأمس وأنا أقلب صفحات كتابه النفيس (إحياء علوم الدين) أنني حديث العهد بناحية جديدة من حياة الرجل العلمية وهي ناحية معرفته النفسية. فاندفعت إلى بحث هذه الناحية في كتابه هذا بحثاً رجعت بعده معتقداً كل الاعتقاد بأن الرجل لم يكن مسلماً متصوفاً مجاهداً بقلمه ولسانه في سبيل يقينه فحسب، بل كان عالما نفسياً أيضاً بتأمله الذاتي الذي قضى فيه السنين الطوال مستعيناً بالعزلة الفكرية والخلو الجسمية في منارة جامع دمشق تارة وفي جوف الصخرة المشرفة في القدس تارة أخرى. يتأمل في ذاته ويدرس نفسه، يحلل عواطفه وسلوكه وخواطره ونزوعه. ولا نعني بقولنا أنه كان عالماً نفسياً ما نعنيه إذا قلنا إن فرويد أو ادلر أو يونج عالم نفسي. فالغزالي عالم إسلامي صوفي ذكي القلب عالي الهمة غزير المادة لمع في سماء العالم الإسلامي وهي ملبدة بغيوم الفوضى الدينية والاضطراب السياسي فرأى من واجبه أن يكون مصلحاً فأنبري للإصلاح الديني يدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة فدفعته الرغبة في الإصلاح إلى التأمل في النفس البشرية التي يريد إصلاحها في الأمم الإسلامية المضطربة بين النزعات السياسية الداخلية القائمة بين طلاب الحكم من الفاطميين والعباسيين والغزوات والعسكرية الواقعة على البلاد الإسلامية من قبل السلاجقة والصليبين فرأى أن يبدأ بنفسه يتأملها فتكون نموذجاً لهذه النفوس البشرية الحائمة الحائرة بين الحياة والموت تطاردها الحوادث فلا تدري في أي أرض تحيا ولا في أي أرض تموت. فأوصله التأمل المتلاحق في الوقت الطويل إلى معرفة حسنة ببعض الخصائص النفسية والطبائع الإنسانية، ودراستنا لهذه المعرفة على نور علم النفس الحديث ترينا أثر المجهود الفكري قواعد نفسية تتماشى جنباً إلى جنب مع القواعد النفسية الحديثة. وإخراج هذه القواعد النفسية التي وصل إليها الغزالي بتأمله وتفكيره وبحثه ودرسه فدونها في كتابه إحياء علوم الدين ومقابلتها يمثلها من قواعد علم النفس الحديث ومصطلحاته هو الغرض الذي رمينا إليه في دراستنا لهذ الموضوع الجليل.

ولنشرف الآن على مدينة طوس بخراسان في منتصف القرن الخامس الهجري فنرى في بيت من بيوتها عائلة فقيرة يعلوها رجل غزال ولكنه متدين متفقه رقيق القلب. . . يبكي ويتضرع كلما سمع عظة فيها تهديداً ووعيد، يحس في نفسه بالخضوع والانقياد لله، ويحس برغبة التعبير عن هذا الخضوع والانقياد وعظاً وإرشاداً فيخونه جهله ومقامه الاجتماعي فيروح متمنياً على الله أن يرزقه أبناً واعظاً يسد به نقصه ويحقق بواسطته رغبة كبتها الجهل والفقر في نفسه، فمن الله عليه وضاعف في المنة، فرزقه بدل الولد ولدين فسمى الكبير محمداً وهو وموضوع بحثنا، وسمى الثاني أحمد وهو عالم كبير. حرك الوالد في نفس الطفلين الخضوع والانقياد لله ونقل إليهما رغبته في أن يكونا فقيهين واعظين. ولكن الوالد قد لحق بربه وخلف طفليه في الحياة الموحشة المضطربة القاسية ضعيفين فقيرين فكفلهما صديق للوالد فقير غزال، فأنفق الصديق الوصي على الطفلين ما تركه أبوهما من المال القليل ثم أدخلهما تحت ضغط الحاجة مدرسة ينالان منها القوت بصفتهما من طلاب العلم في تلك المدرسة الخيرية التي أسسها الرجل العظيم نظام الملك فيما أسس من المدارس الكثيرة في ذلك الزمان العصيب. كان الإمام أبو حامد الغزالي يشير إلى هذا بقوله: (طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله). فأصبح الطفلان عالمين كبيرين وفقيهين عظيمين وواعظين خطيرين.

تعلم الإمام الغزالي في طوس ثم رحل في سبيل العلم إلى جرجان ثم إلى نيسابور حيث برع في الفقه والمنطق والفلسفة فتولى التدريس في المدرسة النظامية في بغداد مرة من الزمن انكمشت بعدها نفسه عن العمل فترك التدريس وذهب إلى بيت الله الحرام فحج ثم توجه إلى بيت المقدس فجاور الحرم القدسي حقبة من الزمن عاد بعدها إلى دمشق فاعتكف في زاوية بالجامع الأموي ولبس الثياب الخشنة وقلل طعامه وشرابه ثم رجع إلى بغداد واعظاً مرشداً ثم عاد إلى خراسان ودرس بالمدرسة النظامية في نيسابور مدة يسيرة عاد بعدها إلى طوس فاتخذ فيها إلى جانب داره مدرسة للفقهاء وزاوية للصوفية وزع وقته وجهده عليهما حتى توفاه الله.

وما دمنا قد ألممنا هذه الألمامة العامة بحياة الغزالي فقد أصبح من الحق أن نعرض لهذه الحياة الحافلة بمواضع الدرس والتحليل على رغم قلة سنيها وضيق أفقها فندل على بعض ما فيها من مواضع تعين على فهم تلك النفسية التي أنتزع منها الغزالي أقواله التي رأينا فيها قواعد نفسية تنطبق على قواعد علم النفس الحديث انطباقاً إن لم يكن تاماً في العرض والجوهر فهو تام ولا شك في الجوهر كامل في المعنى.

نحن وإن كنا لا نعرف مما في أيدينا من الكتب عن شخصية الغزالي في أدوار حياته المختلفة ما يكفي لتحليل شخصيته تحليلا نفسياً صحيحاً ولكننا نعرف جيداً أن والد الغزالي كان فقيراً جاهلا يشعر بالضعف فساقه الشعور بالضعف إلى الله القوي القادر (سبحانه وتعالى) فاعتصم به وخضع له وأنقاد إليه وأعتمد عليه، فأنتقل هذا الشعور من الوالد إلى الولد بالذات في حياة الوالد، وبالواسطة بعد وفاته، وقد قوى اليتم والفقر في نفس الغزالي الشعور بالمضعف فزاد هذا الشعور غريزة الخضوع والانقياد تحركاً وهياجاً في نفسه فغدا سلبياً كل السلب، فاصطدمت سلبيته بإيجابية الحياة، وبهذا الاصطدام نشأت المعركة الهائلة بين هذه السلبية المسلحة بعقل من أقوى العقول وإرادة من أقوى الإرادات وبين الحياة الإيجابية الحافلة بالخير والشر والحلو والمر. رأى الغزالي ضعفه حقيقة ماثلة أمامه فآمن بهذه الحقيقة إيماناً تحول فيما بعد يقيناً آخذاً بمجامع قلبه مستولياً على جملة نفسه فدفعه يقينه بالضعف إلى الخضوع المطلق فسلك سلوكاً هو السلبية بعينها والانهزام النفسي بذاته. وظل يتدرج في هذا السلوك السلبي حتى أنقطع عن الدنيا انقطاعاً لا هوادة فيه وأعتزل الحياة اعتزالا لا رحمة معه. ونحن لا يعنينا الآن من حياة هذا الرجل العظيم شيء أكثر من ذلك التأمل الذاتي الذي كان مكباً عليه متعلقاً به ممارساً له بإرادته الصميمة سواء أحتك بالحياة أم أعتزلها، وسواء أجتمع بالناس أم اختلى بنفسه دونهم. وما هذا التأمل الذاتي الدائم إلا التنفيس عن رغباته المكبوتة بشعور الضعف وما يتبع الشعور بالضعف من الخوف والخجل والخضوع والانقياد وإلا التبرير لهذه السلبية المستحكمة في نفسه المأزومة؛ وهو فوق هذا كله محاولات وتجارب لحل العقد النفسية التي كان يحس بها إحساساً مبهما كلما صدمه مطلب من مطالب الحياة ودهمته ضرورة من ضرورات المجتمع. ويمكننا أن نجزم هنا أن ذلك الاضطراب الملحوظ في حياة الرجل الروحية والجسمية، المادية والأدبية هو مظهر واضح لهذه النفسية المصابة بالسلبية العنيفة في ذلك الزمن الإيجابي العنيف. أنظر إلى هذه السلبية ترها واضحة جلية في تصرفاته منذ نعومة أظفاره، فهو سلبي في انقطاعه عن التدريس في المدرسة النظامية في بغداد؛ وهو سلبي في تلك الجولة الطويلة العريضة التي قضاها بين مكة والقدس ودمشق حاجاً ومجاوراً؛ وهو سلبي في اختلائه تارة في الصخرة المشرفة في القدس وفي منارة الجامع الأموي في دمشق تارةً أخرى؛ وهو سلبي في انقطاعه السريع عن التدريس في المدرسة النظامية في نيسابور؛ وهو سلبي في إقامته الأخيرة في طوس بين مدرسة الفقه وزاوية الصوفية ورضاه بالحياة في هذه البلدة الصغيرة بعد أن لمع نجمه وعلا قدره فأصبح علماً من أعلام الهداية الإسلامية يهتدي به في تلك الظلمات ونوراً يقتبس منه في هاتيك الأيام الداجيات.

ويقيننا لو أن الغزالي كان إيجابياً مع فضل عقله وعلو همته لكان شأنه في الحياة غير ما نعرف وفوق ما نعرف ولكن شاءت الأقدار أن يعيش حياته سلبياً فتسوقه هذه السلبية إلى ذلك السلوك الذي لبس معه الثياب الخشنة وقلل من طعامه وشرابه وأرهق جسمه ونفسه بكل ما فيه إرهاق لذلك الجسم الضعيف وتلك النفس المتألمة. وانطوى على نفسه ذلك الانطواء الذي بدأ في أكبر أيام طفولته وانتهى بانطفاء سراج حياته رحمه الله.

حمدي الحسيني