الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 890/من فلسفة الإذاعة

مجلة الرسالة/العدد 890/من فلسفة الإذاعة

بتاريخ: 24 - 07 - 1950


الإذاعة فن وحياة

للأستاذ يوسف الحطاب

(تحية لمعالي الدكتور حامد زكي بك وزير الإذاعة بعد جولته الفنية في الخارج)

(الإذاعة فن وثقافة وحياة)

هذا هو التعريف الكامل الذي أطلقه الأستاذ راشد في تقريره الأخير عن جهوده المشرفة بالقسم الأوربي.

وكم كان بودنا ألا يقف عند هذا التعريف السريع مع صحته وان يتناوله بشيء من الشرح والتفسير، بما عرف عنه من روح العلم والتحليل، حتى يسد فراغا يلمسه نقاد الفن حين يحاولون تفسيره الظاهرة الإذاعية، والكلام عن وسائلها وعن القائمين بها. ويظهر أنه أراد أن يسلم هؤلاء النقاد الموضوع بكرا ليفتقوا جوانبه، ويجلوا بعض ما غمض فيه. ولكن إذا كان الناقد في مثل هذا المجال مضطرا إلى التوفير على إجلاء جوانب الموضوع - ما دام صاحب التعريف قد فتح الباب أمامه ودعاه إلى أعمال ذهنه في الفهم والتفسير - فإنه مضطر كذلك إلى مجاراة صاحب الموضوع في السرعة، فيعرضه بسرعة الصوت الذي هو وسيلة الإذاعة نفسها، وأن كان واجبه يحتم عليه الوقوف عند أطراف التعريف وقفه غير طويلة.

وأول ما يصح للناقد أن يقف عنده هو الطرف الأول من التعريف (الإذاعة فن) ولا شك أن هذا هو التعريف الجديد الذي تقدمه المدرسة الحديثة لفهم الإذاعة فهماً صحيحا. وهو فهم يرفض الرأي القديم القائل بان الإذاعة حرفة يمكن أن يشتغل بها كل إنسان عاطل من الموهبة الإذاعية. ولقد كان هذا الرأي القديم يبطل إنسانية الأذاعة، ويحييها إلى لعبة إليه يمكن أن يلهوا بها كل من أفسح الطريق أمامه، أو قرأ كتابا على هامش فن الإذاعة، مع أن هذا الفن عملية فكرية مركبة لا يمكن أن يجيدها إلا كل إنسان يحيا في نفسه حياة إذاعية، ويشعر بحاجة مجتمعة الحي إلى هذا اللون من الفن، وتكون عنده القدرة إلى تحقيق موهبته بالفعل، فليس فن الإذاعة نوعا من المهارة بل هو الحياة نفسها كما تبدو في الصلة بين المذيع والمستمع مهما كان لون الحديث الذي يقدمه.

ويبدو أننا قفزنا إلى موضوعنا مرة واحدة بربطنا بين الإذاعة وحياة المشتغلين بها من جهة، وبينها وحاجة المجتمع إليها من جهة أخرى. والواجب يقضي بان تتعرف إلى طبعة الإذاعة نفسها ن وما تحمل من عناصر وجودها التي تلتقي مع هذين العنصرين: النفسي منهما والاجتماعي. وعندنا أن هذا الفن وقد دفعت إلى ظهوره الصورة الملحة والرغبة في الاتصال بجموع الناس، فإن طبيعته قد تحددت وسط زوابع الفنون الأخرى التي وجد المجتمع أنها لا تفي بحاجته في التعبير عن حياته - وحياته الإذاعية بالذات.

والحياة الإذاعية التي نقصدها هي التي تحدد طبيعة الإذاعة نفسها. وتتمثل في شعور المجتمع بان فيه وفي نفوس أفراده أشياء مكبوته، وظيفة الإذاعة هي الإفضاء بها بمعنى إفراغ مضمونها ورفع الحجاب عنها. وهذه حقيقة لها سند من التاريخ - الحقيقي لهذا الفن. والإذاعة لم تبرز إلى الوجود إلا بعد أن ظهرت نظريات العقل الباطن وروجت المدرسة النفسية لفكرة الكبت ونادت بضرورة التنفس وقدمت التحليل النفسي كعلاج. والظاهرة الإذاعية في حقيقتها قريبة من جوهر الاعترافات التي يطلقها المريض أمام المحلل النفساني.

وليس معنى هذا أن كل ما يذاع أمام الميكرفون اعترافات سيكوباثولوجية، بل في عملية إفضاء أو إفراغ نفسية لما يدور داخل النفس، وتصوير هذا العالم بالأصوات المعبرة. أو على الأقل هذا ما يجب أن يكون عليه شكل الإذاعات والطريقة التي يجب أن تذاع بها حتى تكون الإذاعة حديث نفس إلى نفس يربح كلتا النفسين من الدفين بها. وبهذه الطريقة وحدها تحقق الإذاعة وظيفتها وقدرتها الكاملة على التأثير في الفرد والجماعة. وتؤكد وجودها كفن قائم بذاته له طبيعته وخصائصه المنفصلة عن بقية الفنون.

ولا نريد أن نذهب بعيداً في التدليل على صحة نظريتنا، ونكتفي بان نقول إن وظيفة الإذاعة قريبة من وظيفة المسرح والسينما. وانهما إذا كانا يقومان بتطهير العواطف.

بشكل ما فإن الإذاعة تحقق هذه بشكل أوسع لأن الرغبة في الإفضاء طبيعية في نفس كل منا للكبت اللاحق بها. هذا الكبت الذي يحول دون أن يخلص كل ذاته مما يريد الإفضاء به. وحتى إذا استطاع أن يتغلب عليه فإنه تعوزه القدرة على التعبير - وهذا ما يحققه المذيع أو ما يجب أن يقوم بتحقيقه مهما كانت مادة الحديث الذي يقدمه - فإذا كان بحثا فكريا وجب أن يتميز بالحدة أو العرض المبتكر.

هذه هي مادة الإذاعة وطبيعتها، أما الشكل أو الإطار الفني الذي تقدم من خلاله هذه المادة فالواجب يقضي بضرورة اشتراكه معها في تلك الطبيعة الإذاعية ورغم ما يذهب إليه البعض من أن المادة تحتم الشكل وتصنعه، فإني أرى يجب ألا يترك الشكل خاضعا لها، فكثيرا ما يرتفع جانب الشكل بجانب المادة. وإذا اجتمعت المادة مع الشكل ثم الطرف الأول من عملية التعبير الإذاعية، ولم يبق إلا أن نعرف كيف تتم عملية التعبير كلها، أو تعرف على الأقل الوسيلة إلى إيصالها إلى الطرف الثاني وهو المستمع وهذا أمر لا يتم عن طريق الصوت والصوت وحده - لا الكلمات أو النغم. أقول هذا لمن أحالوا فن الإذاعة إلى حشد متزاحم من الكلمات التي تصدع الرؤوس، والنغمات التي تملأ فراغا يشعر به مقدم البرنامج - ويشكو الأستاذ واشد من ذلك الفراغ في تقريره مر الشكوى.

إن الإذاعة فن متفرد بذاته، وهذا التفرد يتمثل في الوسيلة التي يستخدمها، ولا تقصد بالوسيلة الصوت المجرد القائم على ذبذبات لا تحقق التعبير الذي تهدف إليه، بل أننا ما دمنا نريد إفراغ نفوسنا مما بها ن فلا بد أن يتخذ هذا الصوت شكلا فنيا مؤثرا يخضع للتقاليد الفنية السائدة في كل الفنون. وما دامت هذه الفنون تخضع وسائلها لتقاليد الفن فعلى الإذاعة أن تجاريها عند استخدامها وسيلتها، فلا تقدم الصوت الإنساني كما هو، عاريا من كل تأثير، بل لا بد أن يدخل الفن عليه، ويتناوله بالمعالجة، ويخضعه لطبيعة الإذاعة الدائرة حول الإفضاء بغية تحقيق التأثير الصوتي.

وقد يثور على هذا القول أصحاب المدرسة القائلة بضرورة أن يكون الفن صورة منسوخة من الحياة. والرد عليهم بسيط فالإذاعة ككل فن تستطيع أن تجمع في وقت واحد بين محاكاة الحياة وتظل خاضعة في نفس الوقت لمطالبات الفن ولن يحدث ما يطلبه أصحاب هذه المدرسة إلا حينما ينزل الميكرفون إلى الشارع ويدخل بيتي وبيتك، ويكشف عن حياتي وحياتك، ويقدم مأساة آسرتي وأسرتك - وهذا أمر يصعب تحقيقه الآن. وحتى يتم فإنا نطالب بان تعتصر الوسيلة الإذاعية حتى آخر قطرة فيها وتقدم الصوت في أدق صوره الفنية. وطرقنا إلى ذلك واضح بسيط يتمثل في الرجوع به إلى حقيقته الأولى، في الصورة التي ظهر عليها منذ بدء الإنسانية، منذ قرع الإنسان أول طبول الغابة حتى استخدمه العصر الحديث في نفير السيارة وصفارة الإنذار لينذر الناس أقوى تنبيه، في أقصر وقت، وبأقل جهد مؤكداً بذلك أن الصوت قادر على إبلاغ رسالته إلى ابعد حد، دون اعترافه بحوائل الزمان والمكان، أو وقوف عند الحدود الضيقة التي تقف عندها كلمات اللغة أو نغمات الموسيقى التي نستخدمها الآن.

ولو وفقت الإذاعة إلى استخدام الصوت بهذه الطريقة لالتزمت وسيلتها الحقيقية، وضمنت عدم انصراف الناس عنها ولما حدث لها مثل الذي حدث للسينما من انصراف الجمهور عنها حينما خرجت على وسيلتها التي تتمثل في الصورة. والناس على جهة في انصرافهم، لأن الفنون حين تثور على حدودها تفقد فنيتها

وإذا كنا نقيس الفن بمقدار تأثيره في الناس، وعدد من يحركهم، وطول الزمن الذي يظل تأثيره فيهم، فقد رأينا الصوت كانت له القوة على تحريك الناس في كل زمان وحضارة نحو الهدف الذي يريده مذيع الصوت، وسيظل كذا والشكوى من انصراف الجمهور عن سماع الإذاعة، النقد المتواصل لها، يحبهما حسن استخدام الصوت لأنه كفيل بحمل الجمهور الاستماع أليها، وتوجهه نحو الهدف الذي نريده له.

ومهما قيل من نقد لرأينا فيكفي للرد أن المستمع لا يعرف لصاحب الإذاعة تعرضاً مباشرا - كما هي الحال في الحياة - أنه يستمع إلى صوته أو أصوات الشخصيات التي يقدمها من عن طريق هذا الكائن الجديد الذي يوصل إليه مادة الإذاعة وتأثير هذا في المستمع يختلف كل الاختلاف عما لو استطاع مباشرة دون وساطة. ومثل هذا النقد لا يصدر إلا عن ناقد يعيش حاضره، ويتقبل الشكل الحالي للإذاعة دون استقراء لتاريخها الذي يحدده ويضع معالمه الصوت وحده حتى ليقال: مرحلة ما قبل الكلام، ومرحلة الكلام، ومرحلة ما بعد الكلام وكل نقاد الإذاعة العليمين يجمعون على أن الكلمة الملفوظة غير الكلمة المكتوبة، وان الإذاعية الكلامية اقل الإذاعيات تأثيرا. وان في التأثيرات الصوتية عوضا عن التأثير الكلامي. ولندرك أن ذاكرة الأذن للصوت أقوى من ذاكرة العين للتأثيرات البصرية. ولهذا السبب فإن قدرة كبيرة على التحريك العميق لمجموعات الناس، والتأثيرات التي تخلقها فيهم تظل طويلا معهم بل كثيرا ما تصبح جزءاً من كيانهم وثقافتهم. وحتى إذا أنعدم عنصر الكلام منها - وهذا ما لا ننادي به تماما. وستظل الإذاعة مشتملة على حوار ضمني بين المستمع والمذيع، ويبقى المستمع مدينا للمذيع يما يقدمه من شرح وتفسير، كما سيظل المذيع مدينا للمستمع بتقبله لما يقول.

وإذا كانت الإذاعة تخاطب في الإنسان حاسة واحدة هي السمع، وتتجه الفنون الأخرى إلى مخاطبة أكثر من واحدة، فإن المستمع أو المستمعة يجلسان بعيدين عن كل تأثير فني مصطنع: فأنت لا تستطيع أن تتذوق لوحة فنية إلا إذا صحبها جو فني معين، ولا نستطيع أن تستمتع بقراءة كتاب إلا إذا كنت في عزلة تامة، ولا أن نشاهد فيلما إلا في ظلام دامس، ولا مسرحية إلا بين جماعة من الناس - أما في الإذاعة فإن تستطيع أن تستمع بها على أية صورة وعلى أي وضع تكون عليه. وقد يكشف لنا هذا عن فردية الإذاعة، ولكنه يكشف لنا كذلك عن وظيفة الإذاعة في الحياة، وهي ضرورة بعث الروح الجماعية في المستمعين، لا تأكيد هذه الروح الفردية. ومن هنا كان على رجل الإذاعة الذي يريد أن يؤثر في مستمعيه تأثيرا مباشراٍٍ، أن يدرس نفسية الجمهور ويحاول قتل هذه الروح الفردية. وإذا حرك نفوسهم فلكي يدفعهم إلى عمل حي يفيدهم ويفيد مجتمعهم وهذا هو الجانب الخلاق الحي في عمل رجل الإذاعة. فإذا اجزنا له أن يسلبهم فليكن قصده التخفيف عنهم، وجعلهم اكثر استعدادا وقبولا للحياة. فالإذاعية الناجحة قلما تفشل في إعطاء المستمع قصة أو فكرة أو عاطفة أو عملا، يظل معه طول الحياة، يتردد في أذنه، وتردده جوانب نفسه. وذلك لا يتم إلا حينما تكتمل لها العناصر العضوية المتوفرة في الكائن الحي.

وبهذا وحده تكون الإذاعة: (فن وثقافة وحياة)

يوسف الحطاب