مجلة الرسالة/العدد 877/الأخلاق الديكارتية
→ صور من الحياة | مجلة الرسالة - العدد 877 الأخلاق الديكارتية [[مؤلف:|]] |
احتكاك الحضارات ← |
بتاريخ: 24 - 04 - 1950 |
بمناسبة مرور 300 سنة على وفاة الفيلسوف ديكارت
ديكارت فيلسوف، حظه في الفلسفة رحب الجوانب مترامي الأطراف، وله من الالمام بالتراث الفلسفي القديم نصيب موفور. فقد أحاط خبرا بسابقيه إحاطة تختلف سعة وضيقا، ومع هذا كله فله مذهبه الخاص به في كل ضرب من ضروب الفلسفة. إذ الفيلسوف الحق إنما تخلد آثاره لا بما فهم وهضم من تراث ماضية فحسب، بل بما أضاف من جهد له قيمتة إلى هذا الماضي إضافة من شأنها أن تجعل المذهب الفلسفي كالكائن الحي له صفات النمور والنشور
هكذا كان ديكارت، فإن له لآثاره وابتكاره اللذين تميز بهما ولا سيما فيما نحن بصدده أي الأخلاق ولا بأس من عرض سريع للتعرف على ميزة الأخلاق عند القدامى قبل استيضاح معالم الأخلاق عند ديكارت.
نعم كان علم الأخلاق عند القدامى عمليا يفترض إحاطة تامة بشتى ضروب المعرفة من الطبيعة وما وراءها، والسيكولوجيا وغيرها، فسقراط يقول (اعرف نفسك بنفسك) وينشد أفلاطون (العدالة) النفسية ليبني عليها العدالة السياسية، ويقيم أرسطو بنيان أخلاقه على علم النفس، ولا يشذ عن أستاذه في نشدان (الفضيلة التي ليست شيئا آخر غير الوسط العل بين طرفين) فهم ثلاثتهم يقصدون إلى (الخير) كما عند سقراط، أو (السعادة) كما عند أفلاطون، أو (الحكمة) عند أرسطو.
وعلى هذه الوثيرة سار التابعون لفلاسفة اليونان والآخذون عنهم من رواقيين وغير رواقيين وامتد الشعاع من الرواقية حتى وصل إلى ديكارت فتلمسه ثم تآثر به سلبيا وإيجابيا.
وإذا أحس ديكارت بضرورة الحاجة إلى إتمام صرحه الفلسفي كان لابد له من أن يصنف العلوم تصنيفا هو بمثابة الهيكل أضلاعه مرتبه على جوانبه، فقد ارتأى أن العلم شجرة جذورها الميتافيزيقا، وجذعها الفيزيقا، وفروعها الطب والميكانيكا والأخلاق، وهو آخر مراتب الحكمة والعلوم لانه يتطلب البحث والإحاطة التامة بكل ضروب العرفان، فهو لذلك أعتقد العلوم، أما وقد جد في الطبيعيات والميكانيكا والطب ولم ينته بعد من هذين الاخيرين فقد أثر ديكارت الانتظار.
ومن أجل تجديد المسكن الذي ارتأى وجوب القيام فيه، وجب قبل هدمه أن يأوى إلى أخلاق موقوتة هي بمثابة السكن المؤقت حتى يتم له هدم ما أزاد هدمه، وبناء ما أراد بناءة، فماش ديكارت وما ترك لنا الا هذا المسكن الموقوت الذي سكن إليه ريثما يتمم الاسس، فلم يتح له ذلك. ومع هذا فإن هذه الأخلاق تستحق العناية لامكان لاستدلال منها على كثير من جوانب الحياة التي أكتنف ديكارت في شخصه ومجتمعه معا.
وثمة مسألة لها قيمتها وهي الخاصة بالعلاقة بين الفلسفة والحكمة من ناحية، والأخلاق والسعادة من ناحية أخرى. أما الحكمة فإنها مرتبطة بالفلسفة ارتباطا وثيقا. يقول في كتابه عن (القواعد) وكلمة فلسفة تعني دراسة الحكمة وليست العلوم بأسرها إلا الحكمة الحكمة الإنسانية التي تبقى هي دائما)، والحكمة - فضلا عن تضمنها للحكمة العلمية -، فإنها المعرفة التامة بكل الأشياء التي يتسنى للإنسان المعرفة بها. وإذا كانت الفلسفة هي دراسة الحكمة فهل اللفظان مترادفان؟ كلا. فالفلسفة هي (الحكمة) من حيث هي (عملية) والأخلاق هي آخر درجة وأبعدها في الحكمة، كما يقول ديكارت في مقدمة كتابة (المبادئ).
وبين الأخلاق وعلم النفس صلة وثيقة، فلنتعرف على أحوال النفس وأحوال البدن ثم على ما بينهما من تفاعل. وكل ذلك نلتمسة بوضوح في رسائل ديكارت إلى الملكة كرستين والاميرة إليزابيث فضلا عن (بحثه في الانفعالات)، وفي هذه الينابيع الثلاثة عرف ديكارت لب الأخلاق من حيث هي السلوك الإنساني على أساس قوي من السلوك النفساني.
وعند ديكارت ألفاظ أخلاقية هي: الكمال والخير الأسمى والسعادة والنعيم المقيم واللذة والنظر والعمل والحرية والفضيلة والمعرفة والإرادة. ودراسة هذه الألفاظ ومدلولاتها عنده والصلة بينها وبين بعضها كل ذلك إدراك للعقد التي تجمع بين أطراف الأخلاق الديكاراتية:
يعرف ديكارت الخير الأسمى بالكمال إذ الخير الأسمى هو الحصول على كل الكمال الذي كل فعل خلقي خليق به والخير الأسمى لا يتضمن أي وسيله للسعادة، ولذلك هما متباينان أشد ما يكون التباين، ولا يتردد ديكارت لحظه في الفصل بين الحيز الأسمى وبين الله فيقول (من الممكن اعتبار طيبة كل شيء في ذاتها بدون ربطها بغيرها مما يكون معناه واضحا، لدرجة أن الله هو الخير الأسمى لانه اكمل الموجودات حيث لا شبيه له في هذا) ثم هو كذلك يبعد معنى الخير الأسمى عن المعنى الأفلاطوني أي المثل الأعلى والمعيار الثابت للعمل الإنساني. . . وعندما نراعي فكرة الخير لاستخدام قاعدة لاعمالنا فإنا نأخذها على أنها الكمال التام).
ويفرق أيضا بين السعادة والنعيم المقيم حظ سعيد قد لا يكون من فعلنا، أما النعيم المقيم فهو نتيجة الحكمة، وهو يقوم على السرور. وليست المسرات على درجة واحدة من القيمة، فالسرور كعلاقة ونتيجة للكمال يجب تقديره بحسب ماله من سبب. وبحسب هذا تعدل مسرات الإنسان المركب من جسم وروح لان مسرات الانفعالات معرضة للظهور مقدما أعظم مما سوف لا تؤول إلية. ولهذا فهي تخدعنا. والمسرات عامة تعطينا من الارتياح أكثر من حقيقتها أي هي متعلقة بالكمال الحقيقي، و (لنعرف تماما كيف يمكن لكل شيء أن يعين على ارتياحنا يجب اعتبار الأسباب التي تنتجها)
هناك نوعان من اللذة: فمنها ما يتعلق بالنفس وحدها. ومنها ما يتعلق بالإنسان أي النفس من حيث اتصالها بالبدن، وهذه الأخيرة تظهر غالبا اكثر مما هي عليه، وقبل حيازتها يكون الأصل في جميع الشرور وجميع الأخطاء في الحياة. وبمقتضى العقل يجب أن تقاس كل لذة بمقدار الكمال الذي ينتجها. وإنه لكذلك حين نقيس تلك التي أسبابها معروفة لدينا معرفة واضحة. وغالبا ما يجعلنا الانفعال نعتقد بعض الأشياء الحسنة والمرغوبة. وإن لم تكن هي كذلك. على أننا إذا أصبنا كثير من الألم وفقدنا فرصة الحصول على خيرات أكثر تحققا فا المتعر تعرفنا الأخطاء. ومن هنا تأتي العوامل الداخلية كالحسرة والندم، ولهذا كانت مهمة العقل امتحان القيمة الصحيحة لجميع الخيرات التي يبدو أن الحصول عليها يعتمد بشكل ما على تصرفنا لكيلا نحتاج أبدا إلى استعمال جميع غاياتنا إلى محاولة أن نتابع تلك المرغوب فيها أكثر من غيرها.
فالنعيم المقيم يؤدي إلى اللذة، ولمعالجتها يجب معرفة كيف تتميز هذه اللذات، ولما كنا لا نستطيع القول ضمنا بأن النعيم المقيم ليس هو الخير الأسمى فانه ليس إلا نتيجة له والنعيم المقيم بعبارة أخرى هو الاتجاه الذي يحتم علينا أن نتبع الخير الأسمى الذي هو الوسيلة لهذه الغاية العليا. وهكذا نرى كيف يتميز ويرتبط كل من السعادة والخير الأسمى.
كيف نعرف الخير الأسمى أو مثال الكمال الذي نتوصل إليه إليه بأتباع اللذة؟ يفرق ديكارت بين المثال الغامض والعام عند الكال الإنساني. وهذا ما يجب على كل فرد أن يفترضه. أي يفترض المثال الذي يوافق طبيعته، وفضلا عن هذا فإن الخير المتعلق بالفرد وحده خير الكل وإنما هو الخير المتعلق بالفرد وحده.
ولما كان من الضروري أن نفرق بين الخيرات الخارجية وبين الخيرات التي تتعلق بنا، فان كل الأشياء لمتساوية عند الغير. والخيرات الخارجية تضيف شيئا إلى الكمال والسعادة الدائمة. ولما كانت الخيرات الخارجية لا تدخل تحت نطاقنا فقد وجب أن نركز رغائبنا في الخيرات الخاصة بنا. والذي يخص المرء أولا وبالذات هو إرادته. والكمال الذي يجب أن نبحث عنه هو كمال الإرادة على نحو ما ينتهي الخير الأسمى إلى الفضيلة فيتحد معها.
وإذ ننزع بالإرادة نحو الكال نكون قد فعلنا كل ما نستطيع فعلة لمعالجة الخير الأسمى الذي قد حصلنا عليه فعلا حينما أدركنا معه كل ما يتفق مع طبيعتنا أي حينما نكون قد استحوزنا على الخير الأسمى الحقيقي وحده من الخير الذي هو ملك لنا.
أما الفضيلة فهي مجهود الإرادة. وهي ليست استعدادا طبيعيا، ولا وظيفة من وظائف الذهن ويهتم ديكارت بالنية فهو يخرجها حتى تقرب أحيانا من الشخصية الأخلاقية، فالنية الحسنة الأساسية هي نية معرفة الخير. وثمة فضيلة هي أن يتفق الشخص والموضوع.
والعقل عند ديكارت هو النفس المنفعلة، والنفس مرآة عليها تظهر الأفكار والحقائق من أشعة النور الإلهي. وعنده أن الانفعال غير مستقل عن العمل لا في النفس ولا في العالم الجسماني، ولا يمكن أن يفهم أحدهما بدون الآخر، فأنهما اسمان مختلفان لحقيقة واحدة ينظر إليها من وجهين. والعقل ليس وحده كل النفس، ولكنه مزدوج بالإرادة، وديكارت يستخرج الحقيقة واليقين من العقل والإرادة معا.
وديكارت لا يقيم للحرية الاعتباطية وزنا لأنها لا توجد، وإن وجدت فإنها أحط درجة للحرية على أن للحرية تعريفا وردفي (الرسائل السادسة) وهو (أنها ملكة وضعية للجنوح إلى أمر، وأجتناب آخر، أي اتباعة وتفادية، وبعبارة أخرى العزم على أمر او رفضه. وإذن فالحرية هي ملكة الاختيار بمعنى أننا إما أن نقبل الشيء او نرفض ولما كانت الارادة والحرية شيئا واحدا فإنهما يعتمدان على الافكار (فنحن لا نريد شيئا لا نعلم عنه شيئا)، وشيء هام جدا هو ان العقل محدود، أما الارادة فلا حدود لها فالعقل لا يتأمل إلا جزاء فقط من الحقيقة، أما الارادة فإنها تتعلق بكل شيء سواء في مظاهرها أم في حقائقها.
ثم يتسامى ديكارت إلى أفق الميتافيزيقا فيفرق بين الحرية الإنسانية والحرية الإلهية، فالأولى تبحث عن الحقيقة التي خلقتها الثانية. والإرادة والمعرفة عند الله شيء واحد، وعند الإنسان: الإرادة مقدرة مطلقة دون المعرفة.
والأيمان - عند ديكارت وعند معظم معاصريه - يكفي لتوجيه الحياة، وهو يقول (بما أن أرادتنا لا تهتم إلا باتباع أمر أو عدم اتباعه حسب ما يصوره لنا العقل حسنا أم سيئا، فإنه ليكفي أن نحسن الحكم لنحسن العمل. وأن نحكم أحسن ما نستطيع أي للحصول على جميع الفضائل).
هذا هو موجز التخلق عند ديكارت، فإجادة الحكم هو إجادة العمل، وبما أن الوضوح هو القاعدة الأولى لاحكامنا، وأن الوضوح علامة الحق، فكذلك أعمالنا لها ما لعزماتنا من القواعد، فليس هناك حقيقة علمية تنظم روابط أعمالنا، وإنما الحقيقة واحدة نظرا وعملا، فالإرادة الحرة تحددها أفكارنا التي ليست نظرية وعملية، هي شيء واحد ولا فضل لاحداهما على الأخرى. إذ الأولى قيمتها في العظمة، والاخرى قيمتها في الكمال كما يقول ملبرانش.
ومن أجل الطرافة التي اتى بها ديكارت بشأن حرية الارادة استحق أن يسمى (فيلسوف الحرية). وكلمة الحرية هنا وعند ديكارت ذات معنى حر إذ تمتد من النفس الانسانية حتى تنتهي إلى الحرية السياسية.
وبهذا تكون الأخلاق اليكارتية ترجمة لنظريته في المعرفة، إذ يرى - وقد سبقه سقراط - أن الجهل والرذيلة شيء واحد.
كما أن العلم والفضيلة شيء واحد، فرؤية الحق بوضوح هي إرادة الخير مباشرة، والرذيلة خطأ، والخطأ ناشئ عن معميات وأوهام وأضاليل، فنحن لا نرى الشر بوضوح، والشر الذي نرتكبه يتمثل دائما في صورة الخير (فإذا نحن رأيناه واضحا كان محالا أن نأثم حين رأيناه على ذلك النحو، ولذا قيل الخطأ جهل، وكل خطأ يرجع إلى آرائنا ونزعاتنا ورغباتنا. ومهما يكن من شيء فنحن لا نقدر إلا على أفكارنا).
وتتضح بذلك خصائص الأخلاق الديكارتية وتتركز في كونها (معرفة عاملة) فضلا على أنها علم معياري لانه يضيف الحرية ومثالا واضحا للواقع، بل هي علم للنظام المثالي.
والتخلق هو أن كل موجود وكل فعل يجب أن يضع في نصابه، والوظيعة الأخيرة للإرادة هي أن نتوسل بالنية إلى هذا النظام، ومعرفة هذا النظام هي إذن ذات الشأن العظيم، فالرغبة في معرفة النظام، ثم الرغبة في اتباعه هو أساس التخلق عند ديكارت، وإذن فالبرجماتزم على اوضح صوره متحقق في الأخلاق الديكارتية العملية.
ويعنى ديكارت بالانفعالات بغية ترويض النفس تبعا لمعرفة هذه الانفعالات. وبذلك نستفيد منها في غرس عادة جديدة ونزع أخرى ولا سيم أن النفس الانسانية هي القابلة للتعود والتخلق.
والانفعالات بطبيعتها توجه ألا راده قبل العقل لكسب معارف جديدة (الدهشة)، والبحث فيما هو نافع لنا (الحب) والهرب مما هو غريب عنا (الكره)، ولكن هذه الاتجاهات تستمد أيضا من الأحكام على الخير والشر، وهذه الأحكام شأنها شأن الانفعالات التي تبقى في حدودها الطبيعة، وإنما هي أحكام حقه، ولكن يندر أن تكون كذلك.
وبعد، فهل من سبيل إلى التعرف على سلوك ديكارت، ونحن نعلم أن مذهب الفيلسوف قطعة من حياته؟ الحق أن قراء ديكارت يختلفون كثيرا على نص واحد يكتبه، فهو في المقال عن المنهج بصدد الحديث عن القسم الأول يقول (وآمل أن يكون هذا الكتاب نافعا للبعض دون أن يضر أحدا، وان يرضي عني الجميع لصراحتي). هذه الجملة البسيطة، تحمل من اللفتات التهكمية اللاذعة ما لايستطيع قارىء أن يمر به مر الكرام. إذ هو يتواضع تواضعا جما في عرضه لارائه على الناس، وهو إذ يقصد إلى أن يتنع الناس جميعا هذا المنهج الذي أنتهجه نراه يتخفى وراء هذه الغابة فيتخذ من تواضعه ما يشف عن رغبته هذه. وهو أيضا يعبر عن نفسه بأنه صريح. والواقع أن هذه ليست صراحة، إنما هي تقنيع للفكرة التي لا يريد التصريح بها حذر الوشاة والخراصين.
وديكارت بهذا يقوم - كما يقول كوييربية بدور (المناورة السقراطية) ومصداق ذلك قولة (. . . لم اكتسب من اجتهادي في التعليم الا تيبني جهالتي شيئا فشيئا) ولقد سئل سقراط عما يعرف فقال (كل ما أعرف هو أنني لا أعرف شيئا).
ثم هو إذ يعرض للفلسفة يتناولها بالتجريح في لباقة وحرص لأنها (تعطينا وسيلة. . . لكسب الإعجاب ممن هم اقل منا علما) وهو تهكم بالسفسطائيين المعاصرين له.
ويعرض ديكارت بفساد النظم السياسية المعاصرة فيقول (أما ما في نظم الدول من عيوب - إن كان في نظمها عيوب، والخلاف بينها كاف لاثبات كثير من العيوب في كثير منها - فإن التطبيق قد لطفها كثيرا بلا ريب، بل هو جنب من عيوبها، وتلافى منها رويدا رويدا ما لم يكن مستطاعا بالحكمة. ثم إن تلك العيوب تكاد تحتمل دائما أكثر مما يحتمل تغييرها كالطرق الملتوية بين الجبال تتمهد شيئا فشيئا لكثرة التردد عليها. وخير للسائل لأن يذهب في طريق أكثر استقامة، متسلقا فوق الصخور منحدر إلى بطون الوهاد).
وفي هذا من الغمز والتعريض ما لو شرح لفقد قيمة التعريبية والتفكيرية معا. وهو لهذا يعد صاحب (ثورة سياسية) لا (ثورة فكرية) فحسب، كما يرى بعض المؤرخين اعتمادا على افتتاحية المقال عن المنهج. فإن ديكارت - في نظري - كفلاسفة اليونان إذ نشدوا الإصلاح الاجتماعي فبدءوا بتغيير عقيلة المجتمع على أسس فلسفية؛ وكذلك كان ديكارت.
واختلف الناس في لمر هذا الثائر الجبار الذي اتخذ شعاره (عاش سعيدا من احسن الاختفاء)، ولم يحاول أحدهم ظان يعذر ديكارت من مناوراته الفكرية.
ومع ذلك فإنه إذ ينشد الإصلاح يرى أن (من المفيد أن نعرف شيئا عن أخلاق الأمم المختلفة يكون حكمنا على أخلاقنا أصح، وحتى لا نظن أن كل ما خالف عاداتنا هو سخرية، ومخالف العقل كما هو دأب الذين لم يروا شيئا) الذين لم تتجاوز معارفهم حدود بلادهم. لهذا ساح ديكارت حول (الكتاب الأكبر) واستفاد من أسفاره ما حقق له غرضه.
وما كان ديكارت ليعشق الجاه، بل لقد بغض إليه - على ما أوتى من بساطه في العيش - ولم يكن يحفل بمنصب يناله، ولا بجمال زائف غير جمال الحقيقة؛ حتى لقد آثرها علي جمال التي هوفى بيتها. ولم يغفل ديكارت الصدى المر الذي تردده مأساة جاليليو، فآثر الحيطة في كل ما يقول ويكتب، ولكن ألم يذكر حقا غير الأخلاق الموقوتة التي ذكرها في المنهج لانة لم يكن قد انتهى بعد من إقامة هيكل العلوم؟
الحق أن ديكارت أتخذ من الأخلاق الموقوتة سكنا موقوتا حتى يتم له هدم القديم لبناء الجديد. فهل تم له الهدم والبناء. وإذا لم يكن ذلك فكيف كتب هذه البحوث المستفيضه في الاخلاق، وهو لم ينته بعد من العلوم التي افترض وجودها قبل الأخلاق؟
الواقع أن ديكارتاضطر إلى ذلك اضطرارا. اولا ليرضي رغبة الاميرة. وثانيا ليظهر مجهوده الأخلاقي قبل أن تعاجله المنية فتخرج فلسفة إلى التاريخ مبتورة من عضو هام هو الأخلاق. وكل فيلسوف - فيما نعلم - لا بد أن يردف الأخلاق بالسياسة فأين السياسة من فلسفة ديكارت؟ الجواب على ذلك معاد، وهو أنه لم يرد أن ينبه الأذهان في رفق إلى فساد استغرق العصر دون ظان يعكر مزاجة ويخرج هدوءه صخب النيا، فضلا عن نداء المجازر والمشانق لكل متمرد ثائر.
من أجل هذا اطمأن صاحبنا إلى منزله المؤقت المبنى على قواعد ثلاث هي: -
1 - طاعة قوانين البلاد واحترام عوائدها، والثبات على ديانتها في اعتدال اجمع عليه اعقل المعاصرين.
2 - الثبات في العمل، وتجنب الشك والتردد في السياسة.
3 - مغالبة النفس التي لا نقدر ألا على أفكارها إذ لا تحكم لنا في الأقدار. وهي أخلاق لها أهميتها - كما يقول (مزنار) لأنها تمكن النفس من الاستمرار في البحث عن الحقيقة في أمان، والاستمرار في كسب العلوم، ثم هي تكفي للأخلاق المضطربة التي تمثل مشاكل الحياة العملية في كل لحظة.
محمد محمود زيتون