مجلة الرسالة/العدد 877/احتكاك الحضارات
→ الأخلاق الديكارتية | مجلة الرسالة - العدد 877 احتكاك الحضارات [[مؤلف:|]] |
اتين سانت هبلير ← |
بتاريخ: 24 - 04 - 1950 |
منذ ظهر الإنسان على وجهة الأرض وهو دائم الحركة لا يقر له قرار، إذ دأب على الهجرة والارتحال، مما أدى إلى انتشار الأجناس البشرية وتعميرهم مختلف بقاع هذا الكوكب. وهو من الحيوانات المقلدة ولكن ليس تقليده آليا. فإذا ما أنتقل من بيئة إلى أخرى فإنه لا محالة ناقل معه مظاهر حضارته وتقاليده. وكما يحدث تزاوج بين الأجناس واختلاط بين العناصر، كذلك يحدث امتزاج بين الثقافات واحتكاك بين الحضارات، نتيجة الأخذ والعطاء، وتبادل الآراء. وحركة الإنسان هذه لها فائدة مشتركة؛ فانتقاله إلى بيئة جديدة يمكن هذه البيئة من الاستفادة منه، كما يستفيد هو الآخر منها، إذ ينقل إلى موطنه بعض مظاهر الحضارة الجديدة.
ولقد تعقدت حركة الإنسان على مر الزمن، فتدرجت من مجرد هجرات سلمية إلى غزوات حربية وفتوحات استعمارية على أشكال شتى وألوان متباينة. وتبع هذا التطور في الحركات: تطور في الاحتكاك الذي ساعد على شدته وتعقده في الأزمنة الحديثة سهولة المواصلات وظهور المخترعات وانتشار الصحافة وعنى ذلك. فلم تعد هناك عزله بين الحضارات.
والكلام في هذا الموضوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الطرق التي يتم بها احتكاك الحضارات، ثم النتائج التي تنجم عن ذلك، وأخيرا أمثله من اتصال العرب بالشعوب الأخرى بعد انتشار الإسلام، واحتكاك الأوربيين بالجماعات البدائية: الإسكيمو في الشمال وزنوج البانتو في الجنوب، واخيرا لمحة عن الذي حدث بين الشرق والغرب في الماضي والحاضر.
وسائل الاحتكاك
ليس احتكاك الحضارات أمرا مقصورا على الماضي، ولكنه طاهر مستمرة على مر العصور. ويرى الأستاذ دنكن أن الاحتكاك بنوعين من الطرق: طرق منظمة وأخرى غير منظمة.
الطرق المنظمة: يمثلها التبشير والتجارة والاستعمار والحروب.
1 - المبشرون ويرتبط تأثيرهم بالنواحي الدينية والروحية. وتعتبر المسيحية أكثر الأديان تبشيرا. ويقال إن السبب في إرسال المبشرين هو القضاء على الوثنية ونشر المسيحية. والذي يحدث في الواقع محاولة احتلال الحضارة الأوربية الجديدة محل الحضار الأصلية البدائية. فيعقب وصول المبشرين تغيرات في الملبس والمسكن والعادات والتقاليد واللغة، ذلك لأن المبشر يعمل على تعليم الناس لغة قومه قراءة وكتابة. وينظر الأهالي إلى المبشرين أول الأمر على أنهم إنما يأتون أعمالا غير شرعية، لكنه سرعان ما ينبذ التقاليد القديمة وينشر النظم الجديدة التي يعتمد انتشارها اعتمادا كبيرا على مدى تذوق الأهالي لها، وكثير من القبائل في جنوب أفريقيا وجزيرة مدغشقر ونيوزيلند قد تحسنت أحوالها على أيدي المبشرين. ولقد كان الغرب في الشرق منذ زمن بعيد رهبان ومبشرين يعلمون أبناءهم مبادئ العلوم واللغة القومية مع إحدى اللغات الغربية، وجعلوا من بيروت أس حركاتها، يبثون في عول النشء المبادئ التي رأوا فيها مصالح أممهم الدينية. ونقوم الإرساليات الأمريكية بقسط كبير من التبشير الديني.
2 - التجار
يأتي التجار غالبا في إثر المبشرين. ومع أن التاجر يكون عدوا للمبشر إلا أن الاثنين يعملان معا على نشر الحضارة الجديدة؛ فالمبشر يعمل على محو الوثنية ونشر المسيحية، وأما التاجر فيبيع الكماليات مثل الشاي والسكر والأسلحة للأهالي. على أن البضائع التي تباع للأهالي هي من أحط الأصناف وفي الواقع يلحق التجار كثيرا من الضرر بالسكان، فمثلا حملوا جماعات الإسكيمو على احتساء القهوة وتناول الخبز واستعمال الطباق وتعلقوا بها حتى إنهم اضطروا إلى بيع الجلود التي هم في حاجة أليها - لكي يحصلوا على هذه المواد، فأصبحت الحاجة ماسة إلى الجلود الأمر الذي أدى إلى سوء الأحوال: وفي ساحل الذهب بغرب أفريقيا استطاع التجار أن يحصلوا على الكاكاو - أهم غلات هذا الإقليم - وذلك مقابل إعطائهم الخمور التي ولع بها الزنوج لذلك قال وكادو كوت (إن المسيحية لم تر في التوسع الاوربي عملا مساعدا بل وجدتة معرقلا لها.) وليس من شك في أن الربح من التجارة كان اساس احتكاك الاوربيين بغيرهم. ويحدث عادة انقسام بين الاهالي إزاء البضائع الجديدة، فمنهم من يقبل عليها ومنهم من يحجم عنها. ويتوقف نجاح التجار على مدى إحاطتهم بعادات أهل البلاد وتقاليدهم. والقاعدة العامة أنه كلما كان التجار اسمى حضارة كان تأثيرهم قويا، حتى ولو كانوا قليلي العدد. مثال ذلك: العرب في الملايو، إذ استطاعوا أن ينشروا الثقافة الاسلامية في هذة الاصقاع رغم قلة عددهم - ولو أن التأثير الجنسي كان ضئيلا بالطبع.
3 - الاستعمار
وهو انتقال جماعة من الناس من موطنهم الاصلي إلى منطقة اخرى بقصد السيطرة عليها واستغلال مرافقها او الاقامة فيها. وقد يكون الباعث اقتصاديا او سياسيا او هما معا. ولقد كان لمعظم الدول الاوربية نصيب في استعمار المناطق البدائية. وحيثما حل المتعمرون فإنهم ينشرون حضارتهم. ويعتبر محل إقامتهم مركتزا للمبشرين والتجار. وكثيرا ما يحدث امتزاج بين حضارتي المستعمرين والاهالي، أي أن كلا الطرفين يستفيد من صاحبة؛ فقد أخذ الامريكيون عن الهنود كثيرا من أسماء المدن والانهار، وفي لغتهم كلمات هندية كثيرة. وإن جزءا كبيرا من غذاء الاوربيين مأخوذ من الهنود، حتى قال احدهم: (لو أننا حذفنا من الاوربية كل الاصول الهندية فإن ذلك يترك ثغرة كبيرة. ولولا الاتصال الدائم بالموطن الاصلي لحدث التشابة التام بين الحضارتين.) وأحيانا يحتفظ المستعمرون بمقومات حضارتهم ويعزلونها عن الاهالي فلا يختلطون بهم؛ ولكن هذا الامر لا يطول. ويتميز الاستعمار الحديث بميزة سوداء، ألا وهي إبادة كثير من العناصر الأصلية، هذه الإبادة على ثلاثة أشكال.
أ - إبادة مباشرة: وهذه تتم بالقتل كما حدث في تسمانيا
ب - إبادة غير مباشرة: وذلك بتسليمهم الأسلحة التي يجهلون استخدامها فيقتل بعضهم بعضا، أو نشر الأمراض كما حدث بين الإسكيمو.
ج - إبادة هادئة لطيفة بإسكانهم في المناطق غير المنتجة كما في استراليا أو وضعهم في حضائر - كما عومل الهنود في جنوب أفريقيا.
وإذا نظرنا إلى أعمال الدول الكبرى يمكن القول إن للاستعمار سياستين: سياسة التلاشي داخل الوحدة وهذه سياسة الدول اللاتينية وعلى رأسها فرنسا، وتعمل على فرض حضارتها بشيء من القوة مع القضاء على الأصلية وسياسة التنوع داخل الوحدة وهي سياسة الدول السكسونية وفي مقدمتها إنجلترا، وتحاول إيجاد نوع من الاحتفاظ بالشخصية ويكون ذلك في الناحية الدينية غالبا مع إبقاء الأمور الاقتصادية تحت سيطرتها توجهها كيف شاء لها الهوى , وليس من شك في أن هذه السياسة أكثر تضليلا، على أن الأهالي قد يقاومون أو قد يرضخون.
4 - الحروب
للحروب اثر كبير في احتكاك الحضارات، إذ أن كلا من الفريقين يستفيد من صاحبه. وقد أدت حروب الاسكندر الاكبر إلى وقوع احتكاك بين التيارين الثقافيين في الشرق والغرب. وكانت خطة الاسكندر هي إقامة وحدة حضارية عالمية قائمة على الحضارة اليونانية، والسبيل إلى ذلك إنشاء مراكز ثقافة تدرس فيها علوم اليونان وتحكم بنظمها، فكانت الاسكندرية من أعظم المراكز الثقافية التي يشع منها نور الحضارة الاغريقية.
ويختلف الكتاب في مدى احتكاك المغلوبين والغالبين:
فيرى ابن خلدون أن المغلوب مولع ابدا بالاقتداء بالغالب في شعارة وزية ونحله وسائر أحواله، ذلك لأن المغلوب يعتقد الكمال، فمكنه ذلك من الغلب، بمظاهر حضارته وبأنف من الاختلاط بالمغلوب كما فعل العرب في مصر أول الأمر لكنما هذه العزله لا تستمر طويلا. أو أن يحتفظ المغلوب بمقومات حضارته كراهية منه للغالب كما فعل المصريون مع الهكسوس والفرس.
ويرى الأستاذ ريفرز أنه كلما كانت حضارة المغلوبين راقية كان التأثير عليهم بطيئا وبسيطا. والفرق عظيم بين تأثير الأوربيين في الهند والصين وبين تأثيرهم على العناصر البدائية التي تتأثر بسرعة لأنها اسلس قيادا واكثر طواعية.
وترى مس سمبل أنه إذا كان الغزاة أسمى حضارة - حتى ولو كان عددهم قليلا - فإن الغزو يتمخض عن اندماج المغلوبين تدريجيا مع الغزاة: في النظم الاقتصادية ومختلف نواحي الحياة، مع التسليم بتأخر الاندماج في النواحي الروحية، فقد استطاع الإغريق أن يصبغوا شرقي البحر الأبيض المتوسط بالصبغة الإغريقية، وتمكن العرب من نشر الثقافة الإسلامية في سواحل شرق أفريقيا حتى موزنبيق - مع قلة عددهم هناك، وذلك لارتفاع مستوى حضارتهم وسموها.
وقد استفاد الشرق والغرب استفادة عظيمة من الحروب الصليبية إذ عرف الصليبيون صنائع أرقى من صنائعهم، وحبب إليهم تسامح المسلمين الهجرة والترحال فربطوا صلات تجارية مع الشرق. وارتفع عن أذهان الغربيين ما كان دسه رؤساؤهم عن الإسلام حتى عاد بعضهم بشرح المعتقدات الإسلامية بضبط ودقة، كما استفاد المسلمون كثيرا من ذلك.
محمد محمد علي
البقية في العدد القادم
ليسانسيه في الآداب