مجلة الرسالة/العدد 875/الأدب والفن في أسبوع
→ مناجاة نفس. . . | مجلة الرسالة - العدد 875 الأدب والفن في أسبوع [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 10 - 04 - 1950 |
للأستاذ عباس خضر
حيرة الجيل الجديد في الأزهر
أمامي الآن كومة من رسائل الطلبة في كليات الأزهر ومعاهده، أمطرني بها البريد في هذين الأسبوعين منذ أثرت موضوع المؤلفات القديمة التي يعتمد عليها الأزهر في دراسة العلوم الدينية واللغوية. وقد عشت ساعات مع أصحابها في آلامهم ومشاعرهم وليست حالهم التي يصفون غريبة عني، فقد كنت قريباً منها ومررت بها وبلوتها، وأحمد الله على أن ضقت بها وطلبت منها الفكاك، وكان لي ما أردت، ولكن هذا الموضوع الذي أثرته في (الرسالة) وهذه الرسائل الكثيرة التي يتحدث إلي فيها هؤلاء الشباب حديث الصراحة والصدق والألم جعلتني أندمج في هذه المشاعر وأحس كأني معهم فيما يعانون.
هذا (جمعة الباكي) بعد (ضياء الحائر) وكلاهما في كلية الشريعة، يبكي جمعة مما يحير ضياء. يبكي مما يلقاه في كتاب (الهداية) من أبواب العتق والتدبير ولا ستيلاد، ولا عتق ولا تدبير ولا استيلاد في هذا العصر، ويبكي من (التلويح على التوضيح على التنقيح) الذي تعاقب فيه ثلاثة، وصح ثانيهم ما نقح الأول، ولوح الثالث على توضيح الثاني، وقد نشط هؤلاء في التقيح والتوضيح والتلويح من نحو سبعة قرون، لنعيش نحن الآن عالة على ما صنعوا بلا تنقيح أو توضيح أو حتى تلويح. . .
وهذا (أحد ضحايا الكاكي بمعهد فاروق) يبدأ رسالته بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. . لأنه يشعر أن الشك بدأ بداخله بعد أن قرأ كتاب (الجوهرة) في علم التوحيد! وقد كان من قبله قوي الأيمان، فأصبح لا يكتب رسالة إلا صدرها بالإقرار بالشهادتين ليطمئن نفسه بأنه ما زال مؤمنا. . وهو يشكو من (الكاكي) وأقواله في المجاز العقلي من الشكوى.
وكثير من الطلبة ينقلون إلي نتفا من تلك الكتب، يستدلون بها على ما فيها من تعقيد وعقم وبعد عن الحقائق العلمية المسلم بها في عصرنا وعما يجري في واقع حياتنا. يقول (ع. م. ج بمعهد طنطا الثانوي): إن في الأزهر كتبا يقول فيها أصحابها إن الأرض يحملها حوت اسمه بهموت! ويقول بعضهم في (تفسير النسق) إن (ن) في قوله تعالى (ن والقلم وم يسطرون) هو اسم ذلك الحوت! ويورد (محمد عبد العزيز عمر الطالب بمعهد أسيوط) مسائل غريبة من الفقه، منها: مات رجل وترك نصف بنت أو نصف بنت الابن فما نصيب كل من الميراث؟! ومنها: لا يجوز لحيوان البحر أن يتزوج إنسية. . . ومنها: لو وجد الإنسان قشر رمان أو نواة ملقاة على الأرض يجب عليه أن يحتفظ بها وينادي على أصحابها أربعين يوما! وأقول إنه لم يترك أحد نصف بنت، ولن يجرؤ (السيد قشطه) على أن يخطب بنت حارسه في حديقة الحيوان، ولكن الذي ينادي على من فقد قشرة رمان ومن سقطت منه نواة، فانه سيقضي بقية الأربعين يوما وما بعدها في مستشفى المجانين بالعباسية، ما في ذلك شك. وقد ذكر أيضاًفرضا فقهيا مضحكا تمنع الآداب العامة من شره. وجاءت هذه المسائل أيضاًفي رسالة (سلطان بمعهد أسيوط) يستدل (ح. ي. ع بمعهد الإسكندرية) على ما يعي الطالب الصغير من الخلط بين مسائل الفقه والنحو والصرف، والتاريخ بعبارات لا يستطيع إلا حفظها من غير فهم، قال المصنف في المتن (العاقلة أهل الديون) فجاء صاحب الحاشية يقول شارحا: (وهم الجيش الذين كتبت أساميهم في الديوان، وهو جريدة الحساب، وهو معرب، والأصل دوان فأبدل من المضعفين باء للتخفيف ولهذا يرد في الجمع إلى أصله فيقال دواوين ويقال إن عمر رضي الله عنه أول من دون الدواوين في العرب أي رتب الجرائد للعمال كما في المصباح) ثم قال المصنف (يؤخذ ذلك من عطاياهم) فجاء صاحب الحاشية يشرح: (جمع عطاء وهو اسم لما يخرج للجندي من بيت المال في السنة مرة أو مرتين والرزق ما يخرج لهم في كل شهر وقيل يوما بيوم جوهرة لأن إيجابها فيما هو صلة وهو العطاء أولى من إيجابها في أصول أموالهم لأنها أخف وما تحملت العالقة إلا للتخفيف) وإني والله لأعجب أشد العجب، لا من مؤلفي هذه الكتب، فقد كانت تلك مسائلهم، وكان ذلك عصرهم وطابعهم العلمي، ولكن العجب من هؤلاء (المعاصرين) الذين يقولون بأن هذه الكتب تقوي المدارك وتنمي المواهب! لنفرض أن المعجزة وقعت وفهم الطالب الصغير تلك العبارات، فما هو الخير الكثير أو القليل الذي يحصل عليه منها! وكيف يوفق بين ما تدل عليه من أن الذين يتحملون دبة القتيل هم زملاء القائل في الجيش. وبين ما يجري عليه معالي الفريق حيدر باشا في تنظيم الجيش المصري الحديث؟ فهل هذا يقوي المدارك والمواهب أو يحيرها ويحطمها؟ لكم الله أيها الحائرون!
ويعجب (ح. س. ع) أيضاًمن إصرار كتب الصرف على تصغير (قهبلس وشمردل وهبخ وحبنطى) وحق له العجب، فهو إن عرف مدلولات هذه الكلمات فأنه لا يجدها في حياته مكبرة أو مصغرة، ولو نطق بها في خارج الأزهر لسخر منه الناس.
ويقول عبد العزيز محمد قاسم بكلية الشرعية: (إن الطالب في كلية الشرعية يدرس المعاملات ضمن مقرر الفقه، ولا تظن يا سيدي أنه يعرف شيئا مما حدث ويحدث من معاملات في أيامنا، وأقرب مثال لهذا أننا ندرس (الشركة) وكل ما نعرفه أنها تنقسم إلى عنان ووجوده ومفوضة، أما الشركات المساهمة وشركات التأمين وغيرها من الشركات القائمة وهل هذه تحت تلك وما حكم هذه الأنواع في الشريعة الإسلامية، فكل هذا لا نعرف عنه شيئا).
ويعبر (حسين علي ريحان بمعهد الإسكندرية) عن متاعبه في تلك الدراسة بعبارات شاعرية مؤثرة، ويعتب على الأستاذ (دنيا) لأنه (وصف ما يقوي السعال لا ما يزيل الصداع) ويدعو الله أن يسامحه.
وفي الرسائل نقد لاذع للأساتذة والرؤساء، على نحو ما بين الأستاذ (أزهري عجوز) في العدد الماضي من (الرسالة) ويبلغ بعضه حد العنف، ويدل ذلك على روح السخط الشامل، كما يدل على الهوة السحيقة التي تفصل العقلية الجديدة عن العقلية القديمة. وينصف بعضهم الأساتذة الذي تخرجوا حديثا، يقول (م. م. ح بكلية اللغة العربية): (ومع ذلك فهناك طائفة من الأساتذة التي تخرجت حديثا ولم تحرم نفسها من الاغتراف من منهل الثقافة العصرية والعلوم والمعارف الحديثة. هذه الطائفة وإن تكن قليلة جداً في هذا الجيش اللجب إلا أنها يرجى منها الخير وينتظر على يديها الإصلاح لو سلم لها زمام القافلة وشاركت في إدارة الأزهر، ولكن متى يتاح لها ذلك؟ إن كل من يشتم منه رائحة التجديد والإصلاح في الأزهر يقصى إقصاء تماما. . . الخ)
والرسائل على العموم ناطقة بروح التوثب والتطلع إلى مجاراة العصر، وفي كثير منها رغبة حارة في تعلم اللغات الأجنبية. وهي في جملتها تدل على وعي وحسن تقدير للأمور، وفيها شعور بالمدى الواسع بين ما يقضي عليهم به من (النفي العقلي) إلى عصور التأخر التي ألفت فيها تلك الكتب وبين ما يجدونه من تقدم العصر في العلوم والفنون والآداب، وفيها غير ما أنيت به من الملاحظات السديدة، وهناك رسائل أخرى كثيرة عدا ما أشرت إليه، ويؤسفني أن تحول دون عرض كل ذلك خشية الإطالة.
وبين هذه الرسائل الكثيرة رسالتان من طالبين (مجتهدين) أحدهما (محمد السعيد بكلية الشريعة) وهو يرجع شكوى (ضياء الجائر) إلى قرب الامتحان وإهماله الاستذكار في أثناء العام الدراسي. . . ويقول إن رسالة الأزهر هي المحافظة على هذا القديم والثاني (مأمون يس عبد الملا بمعهد أسيوط) وهو يقول: لا تلوموا العلوم نفسها ولوموا إن استطعتم من زدها تعقيدا عن مشايخنا المدرسين، فذلك قول الحق الذي فيه تمترون) ويقول (فإن أنكرتم بعد هذا قولي وقلم أساطير الأولين اكتتبها، فنقبوا في الوجود عن عباقرة الأدب العربي ثم ارجعوا إلي وهاتوا ما عندكم من علم إن كنتم صادقين، سئلوا العقاد والدكتور طه عميد الأدب والأستاذ أحمد حسن الزيات أمير البيان؛ هل منهم من لم يقرأ كتب الأزهريين، لا، لا تسألوا هذا ولا ذاك فقد حكمتم حكما قديرا، ما أخاله إلا وقرأ كتبكم وزيادة عليها، ألا وهو الأستاذ عباس خضر (هنا ثناء يخجل ذكره تواضعي!) وأنا منتظرون)
حقا - يا سيدي عبد الملا - إن هؤلاء قرءوا كتب الأزهر ومنهم من كان في الأزهر فعلا، ولكنهم ضاقوا بها وكان لهم عراك معها، وقد خلصوا منها إلى الأدب والثقافة العصرية، ولو أنهم ظلوا عاكفين عليها لكانوا كمن ذكرت من المشايخ، ولكن الله سلمهم، فكانوا من المنتجين النافعين، نفعنا الله بآدابهم آمين ذلك كله، وفي نفس بقية.
مناظرة في الحياد والتكتل
أقام الاتحاد العام لجامعة فؤاد الأول يوم الأربعاء الماضي بدار الحكمة مناظرة برئاسة معالي الدكتور محمد صلاح الدين بك وزير الخارجية، موضوعها: (من مصلحة مصر التمسك بسياسة الحياد في الوقت الحاضر) أيد الرأي سعادة الأستاذ فكري اباظه باشا والأستاذ أحمد هيكل والآنسة ثريا الحكيم، وعارضه الأستاذ حسين كامل سليم بك والأستاذ ثروت اباظه والآنسة ثريا الجبالي.
ويخيل إلي أني لمحت (بين السطور) هذه المناظرة معاني قد تكون مقصودة الموضع من موضوعات الساعة، والرئيس وزير الخارجية، والوزارة وزارة شعبية، فهل أريد دس المسألة على نمط أدبي، ومعرفة رأي الجمهور من المثقفين؟ أولا يدل قيام المناظرة على أننا الآن غير مرتبطين بما يجعلنا مع هؤلاء أو هؤلاء، وإنما نحن، وقد أبطلنا ما استنفد أغراضه، ندير الرأي فيما ترى المصلحة في الأخذ به.
بدأت المناظرة بكلمة الأستاذ مبروك نافع رئيس لجنة المناظرات والمحاظرات باتحاد الجامعة، فأعرب عن اغتباطه لتقدمنا في الديمقراطية حتى صار الوزير يرأس المناظرات العامة، ثم أراد أن يقدم المتناظرين، ولكن الرئيس ينهض قائلاً: يظهر أن ديمقراطيتنا وصلت إلى أبعد من رآسة الوزراء للمناظرات، وصلت إلى أن يهمل الوزير وهو رئيس المناظرة فلا يترك له حتى أن يرد على الشكر. .
واتبعت طريقة جديدة في تقديم المتناظرين، فأبتدئ بالأقل. . وقد حار الأستاذ نافع في التمييز. . فأسعفه أحدهم قائلا: الأقل سناً، وجاء ترتيب الأستاذ فكري اباظه باشا في الآخر! فهل كان ذلك مدبراً لشاغبته. .؟
وقد وفق جميع المتناظرين في تناول الموضوع، وكان حديثهم منسقا، وعبارتهم فصيحة، وخطاباتهم بارعة، وكانت الآنستان مدعاة للإعجاب، وخاصة الآنسة ثريا الحكيم فهي خطيبة معبرة بنبرات صوتها وحسن جرسها مع فصاحة في النطق والتعبير. وكان من مظاهر الديمقراطية في المناظرة أن اتخذ الأستاذ ثروت اباظه مكانه في الصف المعارض أمام عمه فكري اباظه باشا، وقد جال جولته في موقف خطابي بارع، ولكنه لم يسلم من طعنات عمه التي سددها إليه وإلى زميلته الآنسة ثريا الجبالي، ولم يكف فكري باشا عن الخطابة بعد أن جلس. . فقد كانت إشاراته الصامتة الناطقة تدحض كل حجة يأتي بها معارضه حسين كامل سليم بك وكان الأستاذ أحمد هيكل لبقاً عندما قال إنه واثق من وطنية المعارضين وأنهم يرون فيما بينهم وبين أنفسهم ضرورة الحياد لكنهم يريدون أن يهيئوا الفرصة لمناقشة كل ما يمكن أن يقال في معارضته.
وقد كانت حجة المؤيدين - على وجه الإجمال - أننا لا مصلحة لنا في الانحياز إلى أحد، وأنه الخير لنا ألا نعرض أنفسنا للأخطار والأضرار التي تأتينا من الجهة التي ننحاز ضدها، وأن خطر الحرب والاعتداء علينا محقق إذا انضممنا إلى أي فريق ولكنه متوهم إذا وقفنا على حياد، فكيف نسعى إلى الضرر المحقق خوفا من المتوهم؟ وأن موقع مصر في مفترق الطرق بين أمم العالم، وموقع قناة السويس منها، يحتم لسلام العلم أن تكون مصر محايدة، ومن الظلم أن تقوى جانبا لهزم آخر لا جريرة له عدها. وضرب المؤيدون لأمثال بالأمم المحايدة، مثل تركيا وسويسرا وأسبانيا، التي تجنبت بحيادها ما لحق بالأمم المحاربة من الخراب والتدمير. وقد تساءل فكري باشا: إلى من ننحاز؟ إلى الإنجليز ونحن نجاهد للتخلص منهم، أم إلى الأمريكان مؤيدي إسرائيل في فلسطين، أم إلى روسيا سعياً إلى فوضى الشيوعية، وقال: لسنا استعماريين ولا رأسماليين ولا شيوعيين، فما مصلحتان إذن في الانضمام إلى أي من هؤلاء؟
أما المعارضون فقد قالوا بأنه لا ينبغي أن نظل بمعزل عن المعترك حتى يدهمنا الخطر، فنضطر إلى ارتجال الخطط، ولن نستطيع وحدنا أن ندفع العدوان فنستنجد بمن يقتضينا الثمن من كرامتنا وحريتنا. وضرب المعارضون الأمثال بالدول التي كانت محايدة، مثل بلجيكا وهولندا، وظنت أن حيادها ينجيها، ولكن هتلر التهمها واحدة بعد واحدة. وقد شبه الأستاذ ثروت اباظه المحايد بموظف ترك الخدمة يقضي وقته بلا أمل في القهوة بين الجريدة والنرد والنرجيلة، قائلا إنه لا يجوز أن تصبح مصر أمة (على المعاش).
وقد طلب فكري باشا من كبير المعارضين، وهو عميد كلية التجارة، أن يجيبه عن مصلحة مصر الاقتصادية في التكتل، ولكن الأستاذ العميد لم يعرض لهذه الناحية، ومما قاله أن التكتل أمر لابد منه، وأن مصر آخذة به فعلا بتكتلها مع الدول لعربية، وأن الجميع متفقون على ضرورة ذلك. وواضح أن هذا ليس هو المقصود بالتكتل، لأن موضوع المناظرة خاص بالانضمام إلى إحدى الكتلتين العالميتين أو عدمه. وأخيراً أخذ رأي الحاضرين فكانت الأغلبية الساحقة مع الحياد.
عباس خضر