مجلة الرسالة/العدد 87/قصة أميرة مصرية
→ صور من أدب السودان | مجلة الرسالة - العدد 87 قصة أميرة مصرية [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 04 - 03 - 1935 |
للأديب حسين شوقي
جلس الإله أوزيريس قاضي قضاة (الأمنتي) وهو الذي يحاسب الموتى في أعمالهم في الحياة الدنيا، إلى مكتبه يراجع ملفات بعض الموتى، وكانت نافذة المكتب تشرف على حدائق (الأورو) الغناء حيث حجم الزهور أضعاف حجم زهورنا الأرضية، ولكن أوزيريس لم يبال المنظر الجميل الذي أمامه، لأنه كان مشغولاً بمراجعة قضايا الموتى، وقد استلفت نظره على وجه خاص الملف الآتي، وهو لخادم شاب من أهالي منفيس. يقول صاحب الملف:
أنا (سبدو) بن (واخ) كنتُ خادماً في قصر الأميرة العظيمة تتا بمنفيس. . .
أي أوزيريس! سيد (الأمنتي) إني أنشر قصتي بين يديك: أنا (سبدو) بن (واخ) هربتُ من المدينة وذهبت إلى الصحراء، حيث قتلت نفسي بيدي لتأكل جسدي الوحوش حتى لا أبعث، لأني لا أرغب في هذا البعث، بل لا أستحقه. .
وكتبتُ هذه الوثيقة خشية أن أبعث على الرغم مني، وذلك بأن يعثر البدو على جسدي قبل أن تفترسه الوحوش فيحنطوه شفقة منهم. . . فإذا بُعثتُ أي أوزيريس! فعاقبني أشد العقاب. . .
إن أقاربي يستطيعون أن يقدموا إليك القرابين ابتغاء مرضاتك والتماس عفوك، ولكن لا تسمع إلى توسلاتهم، لأني مذنب شديد الذنب لا أستحق الشفقة. . .
كنتُ بستانياً لدى الأميرة تتا، وهي سيدة عظيمة تعيش بقصرها في عزلة عن العالم منذ أن فقدت زوجها في إحدى الحروب النوبية، ولم تكن لها تسلية غير ابنتها (شفيت)، وهي فتاة جذابة خلابة نضيرة، أشبه بزهرة اللوتس عندما تتفتح في الفجر. . . . .
لقد أحببتها لأول وهلة. . إن قلبي كاد يثب من صدري حينما دنوت منها يوماً في الحديقة، وقد نزلت الأميرة تقطف بعض الزهور التي تحبها، وليس غريباً أن تحب الأميرة الزهور، فهي شبيهة بها في نضارتها. . . ساعدتها في القطف حتى لا يدمي الشوك أناملها الطفلة. . . شكرتني الأميرة الصغيرة في ذلك اليوم بابتسامة ساحرة دون أن تنظر إلي، لأني حقير ممعن في الحقارة بالنسبة إليها، وكنتُ فوق ذلك دميماً بل دميماً جداً. . .
أي أوزيريس! كم عذبني الحب! إن شياطينك القادرة لم يكن في استطاعتها أن تفعل بي مثل ما فعل الحب. . .
كنت أقضي الليل مؤرقاً، بل مختبئاً وراء الأشجار عند نافذة الأميرة، أتلمس رؤيتها. .
كم ليال لذعني فيها البرد القارس وأنا في مخبئي أشتهي ضم ذلك الإنسان الجميل، ولكن بلا أمل، كما يشتهي الهر ضوء القمر وهو منعكس على المستنقع، وقد حسبه لبناً في طبق. . .!
ولقد أصبت بغيرة شديدة من جراء هذا الحب. . بلغ من غيرتي على الأميرة أني كنت أغضب حينما تنظر هي من نافذتها إلى القمر، لأني تخيلت أن القمر يبتسم لها ويغازلها. . صعقت يوماً بنبأ خِطبة الأميرة إلى أحد أقارب فرعون. . . فكرت في أول الأمر أن أقتل نفسي، ولكن الغيرة التي أنشبت مخاليها في قلبي، أمرتني بقتل الأميرة قبل أن أقتل نفسي، حتى لا ينعم بها أحد. . .
وإليك أوزيريس كيف نفذت جريمتي:
نزلت الأميرة يوماً إلى الحديقة تقطف زهراً، فدنوت منها أساعدها وقلت:
اميرتي، إن عندي سراً عظيماً، هل تأذنين لي أن أفضي به إلي؟
قالت في شيء من الاهتمام: وما هذا السر؟
قلت: عثرت على كنز عظيم يحوي أساور من الذهب، وأقراطاً من الفضة، وخواتم من اللازورد. . . فقاطعتني قائلة في اهتمام شديد هذه المرة، لأن للنساء ضعفاً أمام الحلي كما تعلم
- وأين الكنز؟ إلي به!
قلت: إذا شئت يا أميرتي ذهبت بك إليه.
قالت: وهل مكانه بعيد؟
- قلت: كلا! إنه على مسافة قليلة من القصر
قالت: أين هو؟
قلت: في الصحراء
قالت: لنذهب على الفور، اذهب فناد وصيفتي لتصطحبنا. .
قلت: أرجو أن تأتي وحدك يا سيدتي، إذ يجب أن يبقي أمر الكنز مكتوباً، لأن فرعون لو علم به استولى عليه؟؟
قالت: إذن هيا بنا. .
سرنا في الطريق، وكنت أثناء المسير أود أن أضمنها إلي، ولكن كان لجمالها روعة نهتني عن ذلك. .
ولما بلغنا مكاناً خالياً في الصحراء، أدخلت الأميرة في نفق حفرته بالأمس على سعة مقبرة في جانب الجبل، ثم قلت: إليك الكنز! ولما دخلت الأميرة متشوقة إلى رؤيته، أغلقت عليها النفق بحجر ضخم كنت أعددته بالأمس أيضاً لهذا الغرض، ثم غادرت المكان تواً حتى لا تضعف نفسي في آخر لحظة فأعود عليها. . هاهو ذا جرمي أي أوزيريس! ولكني تمكنت من أن أحرم أي إنسان مساسها والتمتع بها، حتى أنتم معشر الآلهة حلت بينكم وبين الوصول إليها، فقد حرمت الأميرة من التحنيط بهذه الطريقة التي ماتت عليها، فهي لن تبعث في العالم الآخر! وبينما كان أوزيريس منهمكاً في قراءة هذه الوثيقة الغريبة، إذا ولده هوروس الشاب يقبل عليه يطلب منه شيئاً فالتفت إليه أوزيريس وناوله الوثيقة وقال:
اقرأ: أي عقاب يستحقه هذا الرجل؟
فتناول هوروس الوثيقة في امتعاض لأنه لم يأت لهذا الغرض، ولنه ما كاد يبدأ في تلاوتها حتى أهتم اهتماماً عظيماً، وما كاد يتمها حتى ألقى بها جانباً على المكتب وخرج يعدو، ناسياً مطلبه من أبيه:
فتبعه أوزيريس وهو يصيح:
إلى أين؟ إلى أين؟
فقال هوروس: إلى النفق الذي فيه الفتاة فلعلعي أبعثها!
كرمة ابن هانئ
حسين شوقي