الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 863/البريد الأدبي

مجلة الرسالة/العدد 863/البريد الأدبي

بتاريخ: 16 - 01 - 1950


إلى الأدباء المعاصرين

توفي أخيراً الشاعر علي محمود طه، وسكنت قيثارته إلى الأبد، وراح الأدباء يتسابقون إلى تحبير المقالات ونظم القصائد في تمجيد ذكراه، وإطراء شعره، فهو في كل ما سيكتبون شاعر عبقري، فقده الأدب العربي، ومؤلفاته تستحق العناية والدراسة، وفي أكثر من مكان تعد دراسات مفصلة لشعره أينوي نشرها خدمة للأدب و (قياماً) بالواجب تجاه الفقيد.

ولن يمضي عام حتى تموت الذكرى ويخمد الصوت؛ وتلتصق كلمة (كان) بالشاعر الفذ، ثم تمضي الأيام، وتكر السنوات، وينطوي عنه سوى آثاره الشعرية، وتاريخ مولده ووفاته، وربما لم يعرفوا عنه أكثر مما نعرف عن المتنبي وهو شاعرنا العملاق الذي ألقى ظله الضخم على عصور أدبنا كلها، وإن كنا نجهل سيرته جلا شبه تام.

ولكن أخلاقنا لن يعذرونا كما عذرنا قوم المتنبي، فالفرق بيننا وبنهم هو الفرق بين القنبلة الذرية والسيف. . . الفرق بين مقاعد الطيارات الوثيرة وظهور الخيل،. . . الفرق بين القرن العشرين والقرن العاشر. . . فما عذرنا؟

لا! لن نكون خدمنا شاعرية على محمود طه، بهذه القصائد الحارة التي نحييه بها؛ فهي كلها ليست إلا تعبيراً منغماً عن عواطفنا تجاهه، ولن نخدمه بدراستنا المفصلة لشعره، فالزمن طويل مديد!؛ وسيأتي آلاف يدرسون شعره الدراسة التي يستحقها. وإنما واجبنا الأكبر أن نتقصى سيرة حياته نقصياً دقيقاً نشترك فيه جميعاً - أبناء هذا العصر كله - فيحشد كل قواه كلها من أجل الأدب الذي نعزه، ونؤمن بقوة أثره في إنهاض الأمم والسمو بمداركها وأحاسيسها، وهو عمل لا يستطيع القيام به سوانا ولو جمعت العصور القادمة ذكاءها كله لما استطاعت النهوض به، ففي أيدينا نحن وحدنا المفتاح. نحن الذين عشنا مع علي محمود طه ومنا من كان من أصدقائه المقربين، وأقاربه، ومعارفه، ومنا من قابله وحادثه، ومنا من تلقى منه رسائل طويلة أحياناً قصيرة أحياناً أخر، شخصية حيناً، رسمية حيناً آخر،. . . ومنا من سمع حكاية، ومنا من قرأ عنه في الصحف وحفظ شعره، ومنا من يروي حوادث مرتبطة بشعره. كلنا يعرف شيئاً من تلك الحياة، والواجب الأدبي أن نجمع معلوماتنا في كتاب أو كتب، فهل ينام من تهيأ للقيام بهذا الواجب النبيل؟ الجواب الحتمي المؤكد أننا جميعاً ذاهلون. . . وأقول جميعاً وأنا أعلم أنه ليس من المستبعد أن يكون بعض الأدباء يفكر في تأليف كتاب قيم عن الشاعر، يمس حياته من بعيد ويلخصها في ثلاثين صفحة أبرز ما فيها تواريخ وسنوات وحوادث كالتخرج والسفر إلى أوربا، وطبع الكتاب الفلاني، ومرض الفالج. . . أما سائر الكتاب فعرض شعر الشاعر أغلبه إعجاب، وهو أمر يستحقه الشاعر إلا أن المؤلم أنه لا يغني عن دراسة عميقة مفصلة لحياته العملية التي لولاها لما كتب وما تغنى.

إنني أقترح، وأود لو كان لاقتراحي صدى، أن تنشط لجنة من المتحمسين لشعر على محمود طه إلى تقصي سيرة حياته بدقة وتفصيل معتمدة في ذلك على ما يلي:

الرسائل التي كتبها الشاعر طيلة حياته.

يومياته الخاصة (إن كان قد احتفظ بسجل يوميات يمكن نشر جانب منه).

أوراقه الخاصة وقصائده التي لم تنشر.

ذكريات أهله وأصدقائه المقربين، عنه.

السجلات الحكومية الرسمية وكل ما يتعلق به فيها.

وقد يلوح أول وهلة أن هذه مهمة شاقة، إلا أننا لو راجعنا سيرة حياة أدبا أوربا لرأينا أصغر أدبائهم قد نالها، فكيف نترك نحن كبار أدبائنا ينطوون تحت غبار الزمن القاسي، ولا يتركون إلا كتبهم وحدها؟ وكيف يتيسر لنا أن نفهم آثارهم إن كنا نجهل سيرهم هذا الجهل المخجل؟

لقد آن لنا أن نؤدي ما علينا من ديون تجاه عبقريتنا المطموسة. ألا يكفي أننا تركنا (أبا القاسم الشابي) يضيع ويترك خلفه سيرة مجهولة يخجلنا أننا لا نعرف عنها إلا تاريخ بدايتها وانطفائها؟! ألم يحن لنا أن نعرف عن كل شاعر تفاصيل سيرته، والظروف التي أحاطت بكل قصيدة تركها، وعلاقاته بأسرته وأصدقائه وقرائه، والحب الذي ملك عليه أحاسيسه.

ألم يحن لنا أن نقرأ الرسائل الخاصة التي يكتبها كبار أدبائنا، كما يقرأ الأوربيون رسائل شعرائهم؟

ولم يفت الأوان بعد، حتى بالنسبة لأبي القاسم الشابي الذي مات منذ ثماني عشرة سنة بعد شباب قصير متعثر بالآلام العقلية والجسدية. فلو نشط متحمس واحد لشعره، واتصل بمن كان يعرفه لأنقذ ما تبقى من ذكريات عنه وبما فاز ببضع عشرة رسالة من رسائله يتحف بها القراء المتعطشين، ويرفع تهمة الكسل عن هذا العصر. . . فمن المخجل أن يكون كل ما نسلمه إلى الأجيال القادمة عن أبي القاسم الشابي حفنة من القصائد البديعة!

أيها المعاصرون! لقد آن لنا أن نفيق من نومنا الطويل، وندرك ما علينا من المسئوليات

(إنسان)

بغداد

الوعد الحق للدكتور طه حسين بك

لقد تفرد الدكتور طه حسين بك بهذا الأسلوب القصصي في عرض حياة هؤلاء الأرقاء. وأعطانا صورة رائعة من الجو النفسي والاجتماعي في مكة في فجر الإسلام. وما تعرضوا له من ألوان البلاء. وضروب الإيذاء في صبر، وجلد، وشجاعة، ما تركهم نماذج فريدة في سجل التضحية والفداء. ولقد عرض الدكتور هذه الصورة قوية، حية. مؤثرة. مثيرة. . . ولكن لا حاجة إلى إطراء فن الدكتور في هذا العرض ومقدار ما يبلغه من إشاعة الحياة في صوره. وتأثيرها. ولا إلى القول بأنها لون جديد في أدبنا الحديث نعتز به. بل خير للناقد من هذا أن يأخذ بيد القارئ حتى يبلغ به أعتاب هذا المعرض ويخلي بينه وبين طرائقه وبدائعه حتى يتهيأ له أن يأخذ لروحه وعقله ما فيه الغناء. أنظر كيف يصور الدكتور ما قاسته أسرة ياسر، من شدائد وأهوال، وكيف صبت عليها المحن صبا فلم يتزعزع إيمانها. ولا خانها صبرها. ولا تخلى عنها جلدها. ولا فقدت أمهلا في الله: (. . . أقبل أبو جهل ومعه أصحابه. فرأى الناس أنطاعاً من أدم يسع كل نطع منها رجلا وقد ملئت ماء. ورأوا ناراً مؤججة. ومكاوي قد أغمي عليها. ورأت تلك الأسرة قد شد وثاق كل منها. وألقى ثلاثتهم في جنب من الطريق كما يلقى المتاع غير ذي الخطر. فلما بلغ أبو جهل وأصحابه مكان العذاب أمر غلمانه فوضعوا بين يديه ياسراً. وزوجته. سمية وابنه عماراً. . . وألسنتهم لا تفتر عن ذكر الله. فألهب أجسامهم بالسياط ثم أذاقها مس النار ثم صب عليها قرب الماء ثم عاد فيهم سيرته مرة ومرة ثم أمر بهم فغطوا في الأنطاع التي ملئت ماء حتى انقطعت أنفاسهم أو كادت ثم ردهم إلى الهواء. وانتظر بهم فغطوا في الأنطاع التي ملئت ماء حتى انقطعت أنفاسهم أو كادت ثم ردهم إلى الهواء وانتظر بهم حتى أفاقوا وتسمع لما ينطقون به بعد أمثاب إليهم شيء من قوة فإذا هم يذكرون الله ويثنون على محمد قال أبو جهل لسمية وقد بلغ منه الغيظ أقصاه: لتذكرن آلهتنا بخير ولتذكرن محمداً بسوء أو لتموتن. تعلمي أنك لن تري مساء هذا اليوم إلا أن تكفري بمحمد وبه. قالت سمية بصوت هادئ متقطع قليلا: بؤساً لك ولآلهتك! وهل شيء أحب إلي من الموت الذي يريحني من النظر إلى وجهك هذا القبيح! هنالك تضاحك عتبة وشيبة أبناء ربيعه وأخرج الحنق أبا جهل عن طوره فجعل يضرب بطن سمية برجله وهي تقول في صوتها الهادئ المتقطع: بؤساً لك ولآلهتك، وتجن جنون أبي جهل فيطع سمية بحربة كانت في يده فتشهق شهقة خفيفة. ثم تكون أول شهيد في الإسلام: يقول ياسر قتلتها يا عدو الله! بؤساً لك ولآلهتك. ويقول عمار: قتلتها يا عدو الله بؤساً لك ولآلهتك! ليمتلئ قلبك غيظاً وحنقاً فإن رسول الله قد ضرب لها موعداً في الجنة. قال ياسر: أشهد أن وعد الله حق. ولكن أبا جهل لم يمهله وإنما يضربه في بطنه برجله فيشهق ياسر شهقة خفيفة ثم يصبح ثاني شهيد في الإسلام. قال عتبة بن ربيعه: فينبغي أن تطلق هذا الرجل وأن تخلي بينه وبي الحرية ليواري أبويه).

هذا لون من الألوان الدامية المريعة التي كانت مكة تذيقها أسرة ياسر وبلال وصهيب وخباب ولم تستطع برغم هذا أن تبلغ منهم ما أرادت وباءت بالهزيمة وفازوا هم بالنصر والخلود.

لقد استطاع الدكتور أن يخرج لنا من هذه الأطراف المبعثرة المشققة من الأحاديث عن هذه الشخصيات وهذا العهد كائناً حياً بكل خصائصه وسماته. فيا حبذا لو اتخذ أدباؤنا صنع الدكتور قدوة فنظفر بهذا التاريخ مجلوا ناصعاً حيا.

محمد عبد الحميد أبو زيد