مجلة الرسالة/العدد 86/ورطة
→ أين كانوا يوم كنا؟. . . . . . | مجلة الرسالة - العدد 86 ورطة [[مؤلف:|]] |
قصة المكروب ← |
بتاريخ: 25 - 02 - 1935 |
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
خرجت من بيتي في صباح يوم، ومعي - في جيبي - ثلاثون قريشاً ليس إلا. . . وقالت لي نفسي، وأنا أضع الطربوش على رأسي بيد، وأفتح الباب بيد:
(إنك يا هذا ذاهب إلى عملك فعائد منه إلى البيت لتتغذى، فما حاجتك إلى أكثر من هذا القدر؟ اقنع به، فان امتلاء اليد يغري بالأنفاق، وكفك كالغربال - كثيرة الخروق، وواسعتها جدا - ولو رزقت مال قارون لأتيت عليه كله في بعض يوم، فأنت والله أحق الناس بالحجر!)
فوقفت مغيظاً، فما يليق أن تصبحني نفسي بمثل هذا الكلام القبيح. وكيف بالله أؤدي عملي إذا كنت أسمع مثل هذا التأنيب على الريق؟ وقلت لأزجرها عن هذا السلوك المعيب:
(بدأنا؟ يا فتاح يا عليم! ألم أنهك عن هذا ألف مرة!)
فراحت تكابر وتقول: (وهل قلت إلا إنك مسرف؟)
فصحت بها من الضجر: (مسرف كيف، يل ستي؟ وهل ما أكسب يكفيني حتى أعد مسرفاً؟)
قالت: (إنه لا يكفيك لأنك مسرف. . . . مخروق الكف، وفي دون ما تكسب فوق الكفاية)
قلت: (كلام فارغ. . . ولعب بالألفاظ. . . . هذه يدي ليس فيها خرق واحد، وإني لأحب المال حباً جماً، وأحاول أن أخزنه وأكنزه، ولكن ماذا أصنع؟ كلما دخلت البيت قالوا هات. . . هات. . ولست أسمع وانا في البيت إلا قولهم (هات. . هات!) لا أحد يقول (خذ!) كلا. . هات صابوناً. . . هات بناً. . . هات أحذية وطرابيش. . . كأني مصلحة تموين. . . حتى وأنا نائم أسمع هاتفاً يقول لي: (هات) فاستيقظ مذعوراً. . . وإذا لم أذهب إلى البيت - أعني إذا فرت منه - فلا مفر من الانفاق في حيثما أكون. . . . لا أحد يقبل أن يعطيني شيئاً بالصلاة على النبي. . . كلا. . . لم تبق في الدنيا مروءة ولا كرم ولا تقوى ولا. . . . .)
وأمسكت، فقد رأيت أحد الجيران يرقي في السلم، فخفت إذا سمعني أتكلم أن يحسبني مجنوناً، ولم أر أحداً غيري يحادث نفسه، فيظهر أنهم لا نفوس لهم. . . أعني أن نفوسهم لا تتعبهم ولا يسرها التنغيص عليهم
وجاء الظهر، وزارني صديق عزيز طال غيابه عني، فقلت له وأنا أنهض معه:
(تعالى نتغذى)
قال: (أين؟)
قلت: (أين؟ في البيت عندنا!)
قال: (بيت؟ لا لا لا. . . تعال إلى المطعم)
قلت: (مطعم؟ يا خبر أسود! لا يا سيدي! لا آكل في مطعم ولو شنقوني)
قال: (كيف تقول؟ لماذا تتكلم بهذه اللهجة؟)
قلت: (يا أخي بالله عليك دع المطاعم فان آكالها لا هنيئة ولا مريئة، وتعالى معي إلى البيت)
وكنت وأنا أدعوه إلى ذلك أرجو أن يرضى، وأخاف أن يأبي، ويف لا أخشى وكل ما معي ثلاثون قرشاً لا تكفيني وحدى، فكيف به معي وهو ضيفي؟ وخطر لي أن أصارحه؛ ولكني استحيت، وقلت خير من ذلك أن أحتال حتى اقنعه وأجره معي، والتفت إلى نفسي وقلت لها همساً:
(أرأيت؟ هل يعجبك هذا؟ هذه الفضيحة تسرك؟ مسرف أنا؟ هيه؟ أنا أبعثر المال باليمين والشمال؟ أنفقه بلا داع. . . . أرميه في التراب! بالله ماذا كان يضيرني أو يضيرك لو أني خرجت بجنيه مثلاً بدلاً من هذه القروش القليلة التي لا تنفع؟)
وبدا لي أن خير ما أصنع في هذا الموقف هو أن أكون رجل عمل لا رجل كلام، فشددت ذراعه وقلت: (تعال!)
قال: (لماذا تجرني هكذا؟ إلى أين؟)
قلت: (إلى البيت. . . . لا فائدة من الكلام تعال)
وشاء سوء الحظ أن تمر في هذه اللحظة مركبة قديمة يجرها جوادان هزيلان معروقان، وأبى السائق اللعين إلا أن يتلكأ ويومئ إلينا بالسوط الذي في يمينه أن نرب، ويقول:
(أجي يا بك؟)
فصحت: (لا لا لا لا. . .) وأشرت إليه أن يذهب عنا، وأن يبعد جداً، وأن يسرع في ذلك فقال صاحبي: (لا، يعني ماذا؟ انتظر يا رجل. . . تعال نركب فإني متعب)
قلت: (نركب؟)
قال: (نعم. . . إلى مطعم الـ. . . . تعال. . .)
وشدني، وكان أقوى مني وأضخم، فتعثرت وراءه وأنا أقول: (يا أخي، الترام أسرع من هذه الخيل المحنطة. .)
قال: (لا، هذا أحسن)
وركبنا، وضرب الرجل جواديه بالسوط، فصحت به: (يا رجل، حرام عليك، انزل وجرهما!)
فابتسم الرجل، وأقبل على اللجم يشدها ويرخيها، ويخرج وهو يفعل ذلك أصواتاً ليس في الحروف المعروفة ما يترجمها، فلست أدري أهي جء جء، أم تء تء؟ أم ماذا غير ذلك؟ وأدرت وجهي إلى صاحبي وقلت له:
(وكيف تكتب هذا؟)
وقلدت صوت السائق، فقال: (لا تكتب)
قلت: (ما أشد قصور اللغة إذن، وأقل وفاءها بمطالب التعبير!)
قال: (أي تعبير يا أخي؟ مالك اليوم؟)
قلت: (ألست ترى الخيل تفهم عنه؟ فهي لغة تفهمها، ويجب أن نعرف كيف نكتبها ونرسم الرموز لنطقها، وإلا كان هذا منا قصوراً)
قال: (طيب. . . . . . طيب. . . .)
فقلت محتداً: (كيف تقول طيب؟ أيجوز أن تسع اللغة كل هذا الذي تسعه وتعجز عن أداء هذه الأصوات القليلة؟)
قال: (نعم يجوز. .)
قلت: (كيف تقول؟)
قال (نعم، لأنها لغة مجعولة لأبناء آدم، لا للخيل والحمير)
قلت (ولكن الخيل ليست هي التي تنطق بها، بل هذا السائق الآدمي)
قال: (أسلكه مع الخيل والحمير، وأرح نفسك وأرحني) فسكت، فما بقي لي بعد هذا كلام، وبلغنا المطعم الذي اختاره فترجلنا، وأنقدت السائق خمسة قروش - قطعة واحدة، خرجت من عيني، لا يخلا، فما بي بخل، وإني وحقكم لكريم مضياف، وقد سمعتم نفسي تنكر على إسرافي وتبذيري، وتزعمني لذلك من إخوان الشياطين، ومن كان لا يصدق فليجئني بمال، ولير كيف أنفقه له، ولا أبقي لنفسي منه دانقاً!
وجلسنا إلى مائدة نظيفة، وجاء الخادم بورقة كبيرة مطوية فيها ألوان الطعام - أغني أسماءها - فنحيتها عني بإصبعي، وقلت له: (اقرأ واختر لنفسك)
قال: (وأنت؟)
قلت: (ابدأ بنفسك يا سيدي، واتركني لاختياري بعد ذلك) فرفع الورقة أمام عينيه، واضطجعتُ أنا، وجعلت أنظر إليه، وأجيل عيني في جسمه الضخم الهائل الأنحاء، وأسأل ماذا ترى يكفي هذه المعدة الكبيرة ويملأ هذه الكرش العظيمة؟ وماذا يكون العمل إذا جاوز الأمر ما معي؟
ورمي إلى الورقة وقال:
(الاختيار صعب، فاطلب لي أنت ما تشاء!)
فتناولت الورقة، وأنا فرح مسرور، وقلت في سري: (يا مفرج الكروب يا رب) وصرت أنظر في الأثمان، فأهمل ما ثمنه غالياً، وأقصر الاختيار على كل معتدل الثمن أو ضئيله وقلت له:
(في المطاعم يحسن اتقاء الدجاج والسمك، مخافة أن تكون تلك مخنوقة وهذه قديمة، ولست أرى هنا ما يصلح للأكل إلا المرق والأرز والخضر والفاكهة، والجو اليوم حار جداً، فيحسن الاجتزاء بالخفيف من الطعام، والذي لا خوف من الغش فيه)
فخطف مني الورقة وهو يقول: (يا أخي مالك أنت؟ أهي بطني أم بطنك؟ وصحتي أنا أم صحتك؟ ومن قال لك إني مترف يؤذيه الحر ويثقل فيه على معدته اللحم والطير والسمك؟)
قلت: (إنما أخاف عليك الموت، فما زلت شاباً، وقد مات منذ أيام شباب من إخواننا من أكلة. .)
فقاطعني قائلاً: (لا فائدة. . . لا فائدة. . سآكل ما أريد على رغم أنفك)
فهززت رأسي وقلت: (شأنك، إن همي كله ألا يصيبك ما أصاب ذلك الموظف الذي أكل سمكة متعفنة. .)
فصاح بي: (يا أخي اسكت، أي حديث هذا على الطعام؟)
قلت: (سكت يا سيدي، ولكن لا أقل من أن تشاورني لأنصح لك)
قال: (كلا. . . ولا هذه. . . وهل أنا مسئول منك؟)
قلت: (إنك ضيفي وأنا مسئول عنك)
قال: (متنازل. . . اسكت بقى)
فلولا أن كرمي طبع لا تطبع، لسرني هذا القول، ولكني أبيت أن أقبل (تنازله) ودعوت الخادم وقلت لصاحبي:
(مره بما تشاء. . واطلب مه كل الألوان التي يقع عليها اختيارك دفعة واحدة، ليعدها لك، من الآن، ولا يعود يعتذر بأن هذا فرغ، وهذا لم يبق منه شيء)
فوافق، وكانت غايتي من هذا الاقتراح أن أعرف على وجه الدقة كم يكلفني إطعام ضيفي، وهل يبقى في جيبي بعد ذلك شيء آكل به، أم ينبغي أن أصوم إكراما له وإيثاراً، فوجدت أن جملة الثمن بلغت تسعة عشر قرشاً، فقلت في سري (أما والله إنه لشره نهم! أما كان يستطيع أن يكتفي بلونين؟ إنه لا يبقي لي بعد ذلك إلا ستة قروش تذهب منها اثنان تجزية للخادم، وقرش لابد منه لركوب الترام إلى البيت، فالباقي ثلاثة قروش، وما يدريني أنه لا يستمرئ نعمتي فيطلب قهوة أيضاً، إذن هما قرشان اثنان لا أملك لنفسي غيرهما. . . حسن. . فليكن كل طعامي تفاحة)
واستغرب صاحبي زهدي في صنوف الأطعمة، واكتفائي بتفاحة، فقلت له (يا أخي ألم أقل لك أني أكره أن آكل في معطم؟ ولقد نصحت لك فهل كنت تظنني عابثاً، أم حسبتني من جماعة (يا أيها الرجل المعلم غيره)؟ لا يا صاحبي. وقد تركتك لرأيك، فاتركني لرأيي!)
وكان يأكل وانا أدخن وأتكلم، ثم صفق فذعرت وسألته ماذا تريد؟)
قال (أليس عند هؤلاء القوم نبيذ جيد؟)
فقلت بسرعة (لا لا لا. . . إنه خل - إحذر)
قال (خل. . . عسل. . . لابد لي من النبيذ)
فضربت كفاً بكف، ولولا المكان غاص بالناس للطمت وجهي، فنظر إلي مستغرباً وسألني: (مالك، لم أرك قط على مثل هذا الحال؟)
قلت: (يا أخي أتريد أن تفضحني)
قال: (أفضحك؟ لماذا؟)
قلن: (تشرب النبيذ وأنت معي؟ ماذا يقول الناس عني إذا رأوك ورأوني)
قال: (إيه؟ أنت تخجل أن يراك الناس مع صاحب يشرب خمراً؟ متى تغيرت عن عهدي يا صاحبي؟)
قلت: (اليوم. .)
قال: (على كل حال، هذا لا يعنيك. . اطلب ما شئت إلا الخمر. . . فلن أدفع ثمن قطرة)
فأطال التحديق في وجهي، ثم قال:
(ليس هذا مربط الفرس. . . ما هي الحكاية؟ قل بصراحة!)
فلم أعد أطيق الكتمان، فقد كنت أمعائي تنقطع من الجوع، وعيني تكاد تخرج من الغيظ، وشق علي أن أراه يلتهم الطعام وأنا جالس أنظر وأتضور واتحسر، فانفجرت قائلاً:
(الحكاية يا أحمق يا غبي أن كل ما معي في هذه الساعة المنحوسة التي تجلس فيها أمامي خمسة وعشرون قرشاً. . . وأنت تأكل كأنك ما ذقت طعاماُ منذ قرن كامل، وتريد فوق ذلك أن تشرب نبيذاً! شيء لطيف جداً؟ ومن أين أجيء بثمن النبيذ الذي تفرغه في جوفك؟ أرهن ثيابي؟؟ أم أطعمك وأسقيك، نسيئة؟ او كان في رأسك هذا ذرة من العقل والفهم، أو في عينك تنظر لفطنت إلى الحقيقة ولم تحرجني إلى الكلام، ولكن كل جارحة فيك مَعِدة. . .)
فقال بعد طول الإصغاء: (أهو ذاك؟)
قلت بغيظ: (نعم هو ذاك يا أيها الكرش؟)
فلم يجب بشيء وصفق فجاء الخادم فقال له:
(اطعم هذا الجوعان المسكين)
فقلت له: (قبحك الله! ألا بد أن تفضحني؟)
قال: (ألا تستحق ذاك؟)
قلت: (ليس هذا وقت الجدل. . هات دجاجة سمينة) قال: (فان الدجاج مخنوق. . . .!)
قلت: (لا تكن كزاً لئيماً. . اذهب يا هذا وهات الدجاجة السمينة. . . والله لا بدأتُ إلا بها)
قال: (بدأت؟)
قلت: (نعم، ثم بسمك)
قال: (إنه قديم، متعفن)
قلت: (فليكن من عهد الفراعنة، فأن الجوع لا يرحم)
قال: (قاتلك الله. لقد كنتُ أشتهي الدجاج والسمك فصرفتني عنهما بتهويلك وخوفتني منهما)
قلت: (ما في بطني في بطنك!)
ولما عدت إلى البيت قلت وأنا أبدل ثيابي لأستريح
(أظن أنه لا يسعك أن تتهميني بالإسراف في يومي هذا، فقد عدت بأربعة وعشرين قرشاً من ثلاثين خرجت بها)
فابتسمت، وهزت رأسها راضية، فقلت:
(ولكنه موقف لا يحتمل إذا تكرر، ولن أطاوعك بعد اليوم)
إبراهيم عبد القادر المازني