مجلة الرسالة/العدد 86/نظام التربية والتعليم بإنجلترا والعناية بالنظر في
→ الدعوة الفاطمية السرية | مجلة الرسالة - العدد 86 نظام التربية والتعليم بإنجلترا والعناية بالنظر في [[مؤلف:|]] |
أين كانوا يوم كنا؟. . . . . . ← |
بتاريخ: 25 - 02 - 1935 |
أخلاق الشعب وتقاليده
للأستاذ محمد عطيه الأبراشي المفتش بوزارة المعارف
يجب أن يعني نظام التربية بالنظر في أخلاق الشعب وتقاليده، وفي الصفات السائدة بين الأمة، وألا يكون ضد العادات القومية. كل هذه الأمور قد لوحظت في التعليم بإنجلترا؛ فان الصفات والأخلاق التي تعرف بها بين الأجناس البشرية معروفة منذ أجيال، متأصلة فيها كل التأصل. يقول (بيتر ساند يفرد): (الرجل الإنكليزي مولع بالمنافسة، يحب من صميم فؤاده الرحلات والسياحات. ولا يستطيع أحد الاستقرار في إنجلترا إلا من كان يميل إلى المنافسة، وإن هذا الميل إلى حب التنافس لا يظهر للناظر العادي، لأنه مغطى بطبقة كثيفة من المندوء العقلي.) والرجل الإنجليزي يمقت النظريات والتفكير في النظريات، ويجب أن يقبض على الأمور العملية في الحياة، ويحلها وهو سائر في عمله. ويقول (بيتر ساند يفرد) أيضاً: (إن الرجل الإنكليزي يُرى هادئاً، وهو في حاجة إلى قوة الخيال، ومن الصعب أن تؤثر فيه، فهو كالفحم الحجري الصلب يتقد ببطء، ولكن حينما يتقد يحترق إلى النهاية.) ولدى الرجل الإنجليزي قوة كبيرة على كتمان شعور، ويمكنه أن يمتلك نفسه، وهو شديد المحافظة على القديم، يحب الحرية الشخصية فوق كل شيء، ولقد قاتل في سبيل تلك الحرية أكثر من ألف سنة؛ ويقول (ساند يفرد) في موضع آخر: (الرجل الإنجليزي هادئ من الجهة العقلية، ولديه حب عميق للحرية، ولقد كانت هاتان الصفتان سبباً في اتخاذه سياسة البطء، لا في السياسة فحسب، بل في التعليم كذلك.) وهو منعزل بطبيعته، يحب العزلة والوحدة، لا يحادثك إلا إذا تعارف بك. وقد يكون هذا الانعزال ناشئاً عن الحياء والخجل، وإذا حادثك فلا تخرج محادثته في الغالب عن الجو، والجو لحسن الحظ كثير التغير والانقلاب بإنجلترا، فمن اعتدل في الطقس إلى ضباب أو مطر، أو برودة، أو عاصفة أو رعد وبرق. وإذا زالت الكلفة وذهب الخجل تحادث معك في أي موضوع كالخيالة والتمثيل، والألعاب الرياضية، والموضوعات الأدبية والاجتماعية. . . يتجنب الأمور الشخصية؛ فلا يسألك عن مقدار ما يمنحك أوبوك في الشهر، ولا عن مقدار ما تنفقع أو تدفعه للسني أسبوعياً - كما يسأل الفضوليون حينما يرونك أو يعرفوك أول مرة.
ويميل الإنجليزي دائماً إلى التحفظ في الجواب، فلا يجيب إجابة الجازم المتحقق، ولكنه يجعل للشك دخلاً في كل ما يقوله، ويجيب دائماً بكلمة: (أظن، أو ربما)، بعكس الرجل الفرنسي فانه يميل كثيراً إلى الجزم واليقين
والإنجليز معروفون بحبهم للمحافظة على القديم. وفي إنجلترا تندر المجلة في تنفيذ نظرية من النظريات، أو مشروع عن المشروعات في التربية والتعليم؛ فبينما تحاول الولايات المتحدة بأمريكا تجربة طائفة كبيرة من طرق التعليم والنظريات الحديثة - وقد لا توافق على شيء منها بعد التجربة وعدم الاستحسان - تجد إنجلترا في هذه الحال مثلاً في دور المناقشة والمناظرة في طريقة واحدة من هذه الطرق؛ لأن إنجلترا تخاف الخسارة وضياع الوقت، أما الولايات المتحدة فلا تبالي بما تفقده في سبيل البحث والتجربة، ولذا تجدها اليوم تقود اليوم العالم في العلم والاختراع والصناعة، ولقد ساعدها غناها على هذا التقدم والأقدام، فالمحافظة على القديم في إنجلترا لها فوائد، ولكن يجب ألا ننسى أن لها أيضاً كثيراً من المضار، فإنجلترا تميل إلى الوقوف عند حدما، وهي بطيئة في الإصلاح؛ لأنها لا تستفيد في الحال ما يقدمه لها المفكرون، وما يظهره المصلحون من أبنائها، ولا تشجع الباحثين والمخترعين تشجيع الولايات المتحدة لهم. وإن ولع إنجلترا بالمحافظة على ما لديها يظهر جلياً في القوانين المختلفة للتربية التي وافق عليها مجلس النواب الإنجليزي؛ فلا تجد مطلقاً حذف قانون من القوانين برمته واستبداله بقانون آخر، بل تجد أن كل قانون هو تعديل للقانون السابق، للتوفيق بينه وبين الرأي الجديد الذي يراد إدخاله، ولا يشك أحد في أن التعليم بإنجلترا يستفيد من أن قوانينها في التربية ثابتة
ومع ذلك قد حدق تغيير في التعليم بإنجلترا، فمنذ سنة 1900 نرى المحافظة على القديم أقل منها في الزمن السابق، وفي الحق إن التغيرات الحديثة بإنجلترا كثيرة وظاهرة لمن عرفها من قبل ورآها اليوم. ولا يشعر من الإنجليز بالفائدة الكبيرة من هذا التغيير إلا القليل منهم، وكل ما تعرفه الأكثرية هو أن هناك شيئاً يجري في عالم التربية، وأن الأمور تتغير بسرعة. وهم يشعرون بالحيرة في الابتداء وهم سكوت لا يتكلمون. ولا ننكر أن النزاع بين المحافظين والمجددين دائم لا ينقطع، ولو أنه نزاع صامت
ويظهر الميل الفطري لحرية الفكر، واستقلال الرأي في أحوال كثيرة في التعليم بإنجلترا.
وإن قوانين التربية مفتوحة للتغير البطيء، فحينما تظهر التجارب صواب الفكرة الجديدة، ويرى معظم الناس فائدتها، يتغلب الإنجليز على كراهتهم لها؛ فالحرية الشخصية تخضع دائما للمجتمع، حباً في المصلحة العامة، فمثلاً كان الذهاب إلى المدرسة اختيارياً يذهب إليها من يشاء من التلاميذ، لكن لما تبين أن من المحال تعميم التعليم إذا ظل اختيارياً، غير هذا النظام وجعل إجبارياً. وكان التفتيش الطبي على المدارس والتلاميذ اختيارياً، ثم غير وجعل إلزامياً، وكان إعداد المدرسين اختيارياً أيضاً، ثم ظهر أن المدرس لا يستطيع أن يقوم بمهنته كما ينبغي إلا إذا نال قسطاً من التربية وعرف طرق تدريس المواد، فجعل عشرات الأمثلة لأمور كانت اختيارية بإنجلترا، ثم أصبحت إجبارية يطالب بها القانون
وإن إنجلترا - وإن كانت أمة عملية لا تدين بالنظريات - لا تمتنع من أن تعمل بما يمكن تنفيذه منها. ولا ينكر أحد أن النظرية التي لا يمكن تنفيذها لا فائدة منها، ولا خير في العلم إذا لم يصحبه العمل. لذ كانت طريقة التعليم في إنجلترا طريقة عملية، تتفق هي والأمور العملية التي تحتاج اليها، تنفق مع حاجات الشعب وحياته. ولا يمكن أن تفهم هذه الطريقة منفردة عن التاريخ القومي لهذه الأمة، لأنها نتيجة الخلق القومي والحالة الشعبية.
والمهم لدى الإنجليز الوصول إلى العمل بأي طريقة كانت من غير عناء كبير أو بحث طويل في النظريات، وتاريخ التعليم الإنجليزي مملوء بالأمثلة الدالة على حب العمل، وعدم الاكتراث للنظريات. فمدارس إنجلترا إذن مدارس عملية ذات قوة كبيرة، وتأثير عظيم في تهذيب الأخلاق وتقويمها، وإعداد رجال مخلصين عمليين يثقون بأنفسهم، ويشعرون بما يجب عليهم لغيرهم، ولا يفرقون من تحمل مسؤولية أي عمل يقومون به. هي مدارس تربى في كل طفل الثقة بالنفس، فيقول لك دائماً: (سأحاول) إذا سألته: هل يستطيع أن يقوم بعمل من الأعمال؟
محمد عطية الابراشي