الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 86/الدعوة الفاطمية السرية

مجلة الرسالة/العدد 86/الدعوة الفاطمية السرية

بتاريخ: 25 - 02 - 1935


ضوء على موضوعها وغايتها

للأستاذ محمد عبد الله عنان

لما قامت الدعوة الفاطمية بمصر، وامتد سلطان الشيعة السياسي بين الغرب وأقاصي الشام، عني الفاطميون أشد العناية بالمسائل المذهبية، وعملوا على بث العقائد والمبادئ الشيعية بكل الوسائل، واتخذت هذه الدعاية صفة رسمية في مجالس الحكمة الشهيرة التي كانت تنظم بادئ بدء القصر الفاطمي وفي الجامع الأزهر تحت رعاية الخليفة نفسه، ويقوم بتنظيمها قاضي القضاة أو داعي الدعاة؛ ثم أنشئت لها بعد ذل جامعة رسمية خاصة هي دار الحكمة الشهيرة التي أنشأها الحاكم بأمر الله سنة 395هـ (1005م)، ولبثت عصراً تقوم ببث الدعوة الفاطمية السرية في صور وأساليب ما زال يحيط بها الخفاء والغموض. ولقد تقلبت دعوة الشيعة قبل ظفرها السياسي الحاسم على يد الخلفاء الفاطميين في أدوار ومراحل مختلفة، وتشعبت مذاهبها وإمامتها، فظهرت الدعوة الإسماعيلية أولاً في ثوب دعوة دينية سرية؛ ثم كانت فورة القرامطة التي قامت عليها وانتسبت إليها؛ ثم كان ظفر الفاطميين، وقيام الخلافة الفاطمية، فاتخذت الدعوة الشيعية بذلك لونها السياسي الواضح إلى جانب لونها الديني، وأدرك الفاطميون ما للدعاية الدينية من أثر في توطيد الملك السياسي، فعملوا على بث مبادئهم وتعاليمهم بقوة وذكاء، ووضعوا لذلك نظماً ومراتب سرية، كانت دار الحكمة القاهرية مجمعها ومبعث وحيها

وقد اتخذت هذه الدعوة في عصر الحاكم بأمر الله لوناً من الخفاء والعنف، لم تتخذه في أي عصر آخر، يسبغه عليها خفاء الحاكم وعنفه، وغريب تصرفاته وأهوائه. وكان الحاكم بأمر الله شخصية جريئة مدهشة برغم اضطرابها وتناقضها، ترتفع أحياناً في سماء التفكير حتى لتزعم السمو فوق البشر وتهيم في دعوى الألوهية؛ وتنحط في تصرفاتها إلى درك الجنون. وكان ذلك الذهن الهائم يشغف بنظريات الخفاء والعالم الآخر، ويهيم في غمر المباحث الروحية والفلسفية، ويفيض من خفائه وشذوذه على جماعة من الدعاة الأذكياء الذين يحشدهم الحاكم حوله لينظموا معه وسائل الدعوة المذهبية السرية، وليحملوا دونه تبعة ما تعرض من الأقوال والنظريات الجريئة الممعنة في الإلحاد والهدم. ومن الحقائق المعروفة أن معظم الكتب والوثائق المذهبية التي وضعت في هذا العصر قد دثرت ومحت معالمها يد الدول الخصيمة، ولم نتلق عن هذه الدعوات السرية سوى قليل من الرسائل والشذور التي نقلها إلينا بعض المؤرخين المتأخرين. على أن هذه الوثائق لقليلة التي انتهت إلينا تلقي مع ذلك شيئاً من الضياء على طبيعة هذه المبادئ والأقوال الخفية التي عمل الدعاة الفاطميون كثيراً لبثها، والتي بعثت في عصرها إلى أصول الإسلام الحقيقية كثيراً من سحب الزيغ والريب

ومن هذه الوثائق غريبة من الرسائل الفلسفية الكلامية تحتفظ بها دار الكتب المصرية، وهي متنوعة في موضوعها، ولكنها متحدة في أسلوبها وتدليلها وغايتها؛ ويبدو من تلاوتها لأول وهلة أن موضوعها إنما هو جزء من الدعوى السرية الفاطمية، وأنها كتبت في أواخر عصر الحاكم بأمر الله، وأنها حسبما يدعي كاتبها قد وضعت بوحيه وإرشاده، وأحياناً بالتلقي عنه. أما كاتبها فمن هو؟ في معظم هذه الرسائل يقدم لنا هذا الداعية الغريب نفسه، ويذكر لنا اسمه وهو (حمزة بن علي ابن احمد) وهو اسم قلما تذكره سير العصر، ولا تقدم لنا أي تعريف شاف عن صاحبه، وكل ما نعرفه أنه فارسي من مقاطعة زوزان، وكان عاملاً يشتغل بصنع اللباد، وفد على القاهرة حوالي سنة 405هـ وانتظم بي الدعاة، وخاض غمار الجدل الديني الذي كانت تضطرم به مصر يومئذ. ومما تجدر ملاحظته أن معظم الدعاة والملاحدة الذين خرجوا على الإسلام وحاربوه باسمه ينتمون إلى أصل فارسي؛ بيد أنا نستطيع أن نعرف من هذه الرسائل كثيراً عن شخصيته وعن مهمته؛ فهو بلا ريب من أكابر الدعاة السريين الذين اتصلوا بالحاكم بأوثق الصلات، وتلقوا وحيه، وبثوا دعوته، وكان لهم أكبر النفوذ في التوجيه الخفي لكثير من مسائل العصر؛ وسنرى حين نعرض إلى مهمته الحقيقية والى رسائله الغربية أنه يقدم لنا نفسه أيضاً في صفة النبوة، ويصف لنا بعض أعماله بالمعجزات

ولدينا من هذه الرسائل مجموعتان: إحداهما فتوغرافية نقلت عن مخطوط محفوط بالعراق، والثانية خطية، وقد اقتنتها دار الكتب أخيراً، والمجموعة الأولى أكبر وأعم من الثانية، وبها كثير من الرسائل التي وردت فيها؛ غير أن الثانية (الخطية) تحتوي أيضاً على بعض رسائل لم ترد في الأولى. وتسمى المجموعة الأولى في صفحة العنوان (بالرسالة الدامغة) وتنعت بأنها رد على النصيري (الفاسق) وهو ما يقوله لنا كاتبها أيضاً في الديباجة؛ وفي معظم هذه الرسائل يذكر لنا الكاتب اسمه وهو حمزة بن علي. ولكن هناك مجموعة ثالثة تختلف في موضوعها عن المجموعتين السابقتين، وليس لها عنوان، ولم يذكر فيها اسم الكاتب، ولكنا لا نشك في أنها من تأليف حمزة بن علي على نفسه لما بينها وبين الرسائل الأخرى من التشابه الواضح في الروح واللهجة والأسلوب. . . وسنرجئ الكلام عليها الآن؛ ونبدأ ببحث رسائل هذا الداعية الغريب، حمزة بن علي، ونحاول أن نستخرج منها بعض الحقائق التاريخية التي ما زالت تقدم إلينا في أثواب من الريب والغموض والتناقض، والتي كانت أعظم ظاهرة في عصر الحاكم بأمر الله، وكانت مستقى لكثير من النزعات والأهواء المدهشة التي أحاطت تلك الشخصية الغريبة بسياج كثيف من الخفاء والروع

من الحقائق التاريخية المعروفة أن بعض الدعاة الملاحدة قد دعا إلى ألوهية الحاكم بأمر الله، وأن الحكام كان يغذي هذه الدعوة ويمدها بتأييده. وقد ذكر لنا ذلك أكثر من مؤرخ، في مقدمتهم ابن الصابي، وهو كاتب معاصر، وشمس الدين سبط ابن الجوزي، والهبي؛ وكان في مقدمة هؤلاء الدعاة شخص يدعى بالأخرم، زعم ألوهية الحاكم ودعا إليها جهراً في جامع عمرو مع نفر من أصحابه، فثار الناس بهم ومزقوهم وفر الأخرم؛ ثم قام بهذه الدعوة داعية آخر هو محمد بن إسماعيل الدرزي، وكان أوفر ذكاء وبراعة، فصاغ دعوته في مذهب منظم ذي قواعد وأصول خاصة، وألف كتاباً في ذلك؛ فقربه الحاكم وتمكن نفوذه لديه حتى غدا أقوى رجل في الدولة؛ ولكنه لما حاول إذاعة مذهبه والدعوة إليه بجامع القاهرة (الأزهر) ثار الناس عليه، فالتجأ إلى القصر، فحاصرته الجموع، وأنكره الحاكم خوفاً من الثورة، وعاونه على الفرار؛ فسار إلى الشام، ونزل ببعض قرى بانياس، ونشر دعوته، فكانت أصل مذهب الدروز الشهير؛ وقوامه القول بالتناسخ وحلول الروح؛ وأن روح آدم انتقلت إلى علي بن أبي طالب، ثم انتقلت روح علي إلى الحاكم بأمر الله

ثم ظهرت الدعوة كرة أخرى على يد حمزة بن علي، والظاهر أن حمزة عمل مدى حين مع الدرزي ثم اختلف معه وخاصمه؛ كما يبدو ذلك في إحدى رسائله. وفي هذه الرسائل العجيبة يشرح لنا حمزة مذهبه في (ألوهية) الحاكم بأمر الله، ويقدم إلينا شروحه وأسانيده، ويحاول أن يعلل لنا كل ما ارتكبه الحاكم من الأعمال والاجراءات الشاذة ويتخذ منها سنداً لنظريته. وقد نسقت هذه الرسائل، وهي ثمانية، على حدة في المجموعة المخطوطة الصغرى التي اقتنتها دار الكتب أخيراً، وأشرنا إليها فيما تقدم؛ ويلوح لنا أن هذه المجمعة تكون وحدة متصلة منتظمة، وأن ما أدرج منها في المجموعة الأخرى قد أدرج على سبيل الاختيار العام من مؤلفات الكاتب؛ ولهذا نؤثر الاعتماد عليها في عرض قواعد هذه العدوة الغربية التي كادت تحدث في هذا العصر ثغرة خطيرة في صرح الإسلام ومبادئه الحقيقية كتلك التي احدثتها فورة القرامطة قبل ذلك بنحو قرن

يفتتح الداعي كتابه بما يسميه (ميثاق الزمان)، وفيه صورة الشهادة بالتبرؤ من جميع الأديان الأولى والدعوة إلى الدين الجديد، أي عبادة الحاكم؛ يحدثنا عن اصل العالمين وبدء الخليقة في عبارة غامضة ويقول إن أصل العالم هو البرودة والحرارة؛ ويقدم إلينا بعد ذلك خلاصة موجزة عن معركة علي ومعاوية وبدء الحركة الشيعية؛ ثم يصف الحاكم بأنه (مولانا القائم بذاته، المنفرد عن مبتدعاته، جل ذكره، أورا العالم قدرة لاهوتية ما لم يقدر عليه ناطق في عصره ولا أساس في دهره. . .) ويطلق عليه لقب (قائم الزمان)، في جميع مراحل الدعوة رمزاً إلى القول بالحلول والتناسخ، وأنه هو الرمز الحي القائم. ويعرض الداعي بعد ذك في جرأة إلى قواعد الإسلام، وإلى ما يلقي في شأنها في مجالس الحكمة الباطنية؛ وهنا نستطيع أن نظفر بلمحة من الضياء على موضوعات تلك المجالس السرية الشهيرة التي لبثت عصراً تعقد بالقصر ثم انتظمت بعد ذلك في جامعة خاصة هي دار الحكمة؛ وأول ما نعرف هو أن السرية كانت قاعدة أساسية لهذه المجالس، وأن من يجرؤ على إفشاء مناقشاتها يعتبر منافقاً وخارجاً يستحق اللعنة والعقاب. وقد نقل إلينا المقريزي بياناً ضافياً عن المبادئ الكلامية العامة التي كانت تدور عليها الدعوة الفاطمية السرية في مراتبها التسع؛ ولكن الداعي يتناول هنا بعض الشروح الخاصة؛ فيحدثنا عن الزكاة مثلاً بأنها في الحقيقة ليست كما تلقي إلى الناس؛ بل هي الاعتراف بولاية علي بن طالب والأئمة من ذريته والتبري من أعدائه أبي بكر وعثمان، وأن معناها الباطن هو في الحقيقة (توحيد مولانا جل ذكره، وتزكية قلوبكم وتطهيرها من الحالتين جميعاً، وترك ما كنتم عليه قديماً). وعن الصوم بأنه من الناحية الباطنة صيانة القلوب بتوحيد مولانا جل ذكره. أما الحج ورسومه فيحمل عليها الداعي بشدة، ويصفها بأنها (من ضروب الجنون) وليس أدل على ذلك من أن قائم الزمان (الحاكم) قد قطع الحج والكسوة لنبوية، أعواماً طويلة؛ ومعنى الحج في الحقيقة والباطن (هو توحيد مولانا). وأما ترك الحاكم للصلاة والنحر (في عيد الأضحى) فهو تحليل ذلك للعباد، وقد أبطل الحاكم صلاة العيد وصلاة الجمعة بالجامع الأزهر، واسقط الزكاة، ومعنى ذلك أنه يحل للعباد (عباده) أن يقتدوا به في ذلك (إذ كان إليه المنتهى، ومنه الابتداء في جميع الأمور)

ويؤرخ الداعي هذا القسم الأول، وهو القسم التمهيدي من كتابه بشهر صفر ثمان وأربعمائة من الهجرة (408هـ)؛ ويقول لنا إن هذه السنة (هي أول سنين ظهور عبد مولانا ومملوكه، هادي المستجيبين، المنتقم بسيف مولانا جل ذكره. . . . الخ)، ومعنى ذلك أن حمزة بن علي كان ينتحلها بعد ذلك صراحة. وهو يرجع بدء رسالته إلى هذا التاريخ؛ ثم يقول لنا في خاتمة رسالته الأولى المسماة (بدء التوحيد لدعوة الحق)، إن سنة 408هـ أيضاً (أول سنين قائم الزمان) أعني بدء الزعم (بألوهية) الحاكم بأمر الله، على يد هذا الداعي. وقد كان من قبل ثمة دعاة آخرون روجوا لهذا الزعم كما قدمنا؛ والظاهر أن حمزة هو آخر من ظهر من حشد أولئك الملاحدة في عصر الحاكم، لأن الحاكم لم يطل أمد حكمه بعد ذلك سوى ثلاثة أعوام وبضعة أشهر، وكان مصرعه في شوال سنة 411هـ في ظروف غامضة، اتخذها الدعاة مستقي جديداً للزعم والإرجاف

ثم تأتي بعد ذلك الرسائل الثمان؛ والأولى هي (بدء التوحيد لدعوة الحق) وفيها يدعو حمزة إلى (ألوهية) الحاكم، ويحاول أن يبرر إبطاله لأحكام الشريعة بأن محمداً (ص) قد نسخ كل الشرائع السابقة، فكذلك ينسخ الحاكم شريعة محمد وينشئ له شريعة خاصة. وفي الرسالة الثانية وهي (ميثاق النساء) يتحدث الداعي عن واجبات النساء في الطاعة والتوحيد والبعد عن الفساد والدنس، وألا يشغلن قلوبهن بغير توحيد (مولانا) وأن يكن صادقات وفيات في طاعته، وأن يتركن ما كن عليه من قبل، وفي الرسالة الثالثة وهي (رسالة البلاغ والنهاية في التوحيد) يوصي الداعي بعبادة الحاكم، والإقرار بوحدته، ويقول إنه رفعها بنفسه إلى (الحضرة اللاهوتية)، في شهر المحرم الثاني من سنيه المباركة (المحرم سنة 409)، وأنها نسخت عن خط قائم الزمان بغير تخريف ولا تبديل؛ وفي هذه العبارة ما يستوقف النظر؛ ذلك أنها تعني أن الحاكم بأمر الله قد اشترك في تأليف بعض هذه الرسائل سواء بالكتابة أو الأشراف على كتابتها، وأنه كان يرعى هذه الدعوة ويشجعها بنفسه؛ وهنا أيضاً يعرض الداعي جوهر دعوته ولباب مذهبه، أعني فكرة الحلول، فيزعم أنه من الخطأ أن يعتبر الحاكم ابناً للعزيز أو ينعت بأنه أبو علي؛ ذلك لأنه من زعمه (المولى سبحانه هو هو في كل عصر وزمان) يظهر في صورة بشرية (كيف يشاء وحيث يشاء). وفي الرسالة الرابعة وعنوانها (الغاية النصيحة) يحاول الداعي أن يقيم المفاضلة بين الإسلام أو دين محمد والدين الجديد. وفي الخامسة وهي (كتاب فيه حقائق ما يظهر) يحاول أن يبرر بعض تصرفات الحاكم. وفي السادسة وهي (السيرة المستقيمة) يحدثنا عن آدم وأصل الخليقة ويزعم أن القرامطة هم الموحدون؛ ثم يحدثنا عن تعاقب الشرائع ويزعم أن الإسلام قام بالعنف والسيف، وان الشريعة الإسلامية اختتمت بمحمد بن إسماعيل، وأن آخر خلفاء إسماعيل هو عبد الله المهدي (مؤسس الدولة الفاطمية)، وأن القائم هو الحاكم وفي السابعة الموسومة (بكشف الحقائق) يلجأ الداعي إلى العبارات الرمزية ويقول: (والآن فقد دارت الأدوار، وظهر ما كان مخفياً من مذهب الأبرار، وبان للعالمين ما جعلوه تحت الجدار، وعادت الدائرة إلى نفطة البيكار، فألفت هذا الكتاب، بتأييد مولانا البار، الحاكم القهار، العلي الجبار، سبحانه وتعالى عن مقالات الكفار، وسميته كشف الحقائق. . . . . .)

ولعله يريد بهذا الاسم - كشف الحقائق - عنوان الكتاب كله، لا الرسالة الموسومة بهذا الاسم فقط، فإذا صح ذلك فنكون أيضاً قد عرفنا اسم كتاب حمزة. وفي هذه الرسالة يزعم الداعي أن الإله بشر يأكل ويشرب، وليس كما زعموا من التجرد عن الصفات البشرية، ويقدم لنا شرحاً فلسفياً للعقل والنفس. وفي الرسالة الثامنة والأخيرة، وعنوانها (سبب الأسباب) يتخذ الداعي صفة الهادي والمعلم الأكبر يتفويض مولاه

(للبحث بقية)

محمد عبد الله عنان المحامي