مجلة الرسالة/العدد 86/محاورات أفلاطون
→ قصة المكروب | مجلة الرسالة - العدد 86 محاورات أفلاطون [[مؤلف:|]] |
دار الحديث الأشرفية والمتحف العربي بدمشق ← |
بتاريخ: 25 - 02 - 1935 |
14 - محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
- أو قد تنساق كذلك إلى تذكر سمياس نفسه؟
فقال - هذا حق
- وقد يكون التذكر في هذه الحالات جميعاً منبعثاً من أشباه الشيء أو مما يباينه؟
- وهناك سؤال لابد ان ينشأ، حينما يكون التذكر قد انبعث من شبيه الشيء، وهو: هل يكون شبيه الشيء المتذكر ناقصاً في أي ناحية من نواحيه، أم لا يكون؟
فقال: هذا جد صحيح
- وهل نتقدم خطوة أخرى، فنؤكد بأن التساوي موجود فعلاً، لا تساوي الخشب بالخشب أو الحجر بالحجر، بل هو ما أسمى من ذلك وأرفع. أنؤكد بأن التساوي موجود في عالم التجريد؟
فأجاب سمياس: بلى: أؤكد ذلك وأقسم على صحته بكل ما وسعت الحياة من يقين
- وهل نحن نعلم هذا الكنه المجرد؟
فقال: لا شك في ذلك
- ومن أين جاءنا هذا العلم؟ ألم نَرَ متساويات من الأشياء المادية، كقطع الحجر والخشب، فاستنتجنا منها مثالاً لمساواة تخلفها؟ أفأنت موافق على هذا؟ أو فانظر مرة أخرى إلى الموضوع على هذا النحو: أليست قطع الحجر والخشب بعينها تبدو متساوية حيناً متفاوتة حيناً آخر؟
- لا ريب في هذا
- ولكن هل تتفاوت المتساويات الحقيقية أبداً؟ أم هل يكون مثال التساوي يوماً عدم مساواة؟
- لاشك في أن ذلك شيء لم يُعرف بعد - إذن فهذه المتساويات (كما يسمونها) ليست تطابق مثال التساوي ووصلت إليه، على الرغم من أنها مخالفة لذلك المثال؟
- فقال: هذا جد صحيح
- وقد يكون مثال التساوي شبيها بها. وقد يكون مبايناً لها؟
- نعم
ولكن هذا لا يغير في الأمر شيئاً، فما دمت قد تصورت شيئاً من رؤية شيء آخر، سواء أكانا شبيهين أم متباينين، فقد حدثت بذلك من غير شك عملية تذكر؟
- جد صحيح
- ولكن ماذا عساك أن تقول في قطع متساوية من الخشب والحجر، أو في غيرها من المتساويات المادية؟ وأي أثر هي تاركة في نفسك؟ أهي متساويات بكل ما في التساوي المطلق من معنى؟ أم أنها تقع في القياس دونه بشيء يسير؟
فقال: نعم، بل دونه بمسافة بعيدة جداً
- ثم ألا يلزم أن نسلم بأنني، أو أي أحد آخر، حين ينظر إلى شيء فيدرك أنه إنما ينشد أن يكون شيئاً آخر، ولكنه مقصر من دونه، عاجز عن بلوغه - فلابد أن قد كانت لدى من يلاحظ هذا معرفةٌ سابقةٌ بذلك الشيء الذي كان هذا الأخير أحط منه، كما يقول، وإن كانا متشابهين؟
- يقيناً
- ثم أليست هذه حالنا في موضوع المتساويات والتساوي المطلق؟
- تماماً
- إذن فلا ريب في أننا كنا نعرف التساوي المطلق قبل أن نرى المتساويات المادية لأول مرة، وفكرنا بأن كل هذه المتساويات الظاهرة، إنما تنشد ذلك التساوي المطلق، ولكنها تقصر من دونه؟
- هذا صحيح
- ونحن نعلم كذلك أن التساوي المطلق لم يُعرف إلا بواسطة اللمس، او البصر، أو غيرهما من الحواس التي لا تمكن معرفته بغيرها وإني لأؤكد هذا عن كل إدراك كلي من هذا القبيل
- نعم يا سقراط، فكل واحد من هذه المدركات لا يختلف عن الآخر في شيء مما يدور حوله الحديث
- وإذن فمن الحواس تنبعث المعرفة، بأن كل الأشياء المُحسة تنشد مثال التساوي، ولكنها تقصر من دونه - أليس ذلك صحيحاً؟
- نعم
- إذن فقبل أن بدأنا في النظر، أو السمع، أو الإدراك بأية صورة أخرى لابد أن قد كانت لدينا معرفة بالتساوي المطلق، وإلا لما استطعنا أن ننسب إليه المتساويات التي نشقها من الحواس؟ - فهذه كلها تسعى نحو ذلك التساوي المطلق فتقصر من دونه؟
- تلك يا سقراط نتيجة مؤكدة للعبارات التي سلف ذكرها
- ثم ألم نأخذ في النظر والسمع واكتساب حواسنا الأخرى بمجرد أن ولدنا؟
- يقيناً
- إذن فلابد أنا قد حصلنا معرفة المتساوي المثالي في زمن سابق لهذا؟
- نعم
- أي قبل أن نولد فيما أظن؟
- صحيح
- وإذا كنا قد حصلنا هذه المعرفة قبل أن نولد، وكانت لدينا عند الميلاد، إذن فقد كنا قبل الميلاد، وفي ساعة الميلاد نفسها نعرف كذلك، فضلاً عن المتساوي، والأكبر والأصغر، سائر المُثل جميعاً، فنحن لا نُقصر الحديث على المتساوي المطلق، ولكنه يتناول الجمال، والخير، والعدل، والقداسة، وكل ما نطبعه بطابع الجوهر في مجرى الحوار، حينما نلقي أسئلة ونجيب عن أسئلة، أفنستطيع أن نؤكد، أننا قد كسبنا معرفة هذه كلها قبل الميلاد؟
- هذا صحيح
- ولكن، إذا نحن بعد كسب المعرفة، لم ننس ما كنا قد كسبنا، فلابد أنا قد ولدنا ومعنا المعرفة دائماً، وسنظل أبداً على علم بها، ما دامت الحياة - لأن العلم هو كسب المعرفة وحفظها، لا نسيانها. أليس النسيان يا سمياس هو فقدان المعرفة لا أكثر ولا أقل؟ - جد صحيح يا سقراط
- أما إذا افتقدنا عند الميلاد تلك المعرفة التي حصلناها قبل أن نولد، ثم كشفنا فيما بعد، بواسطة الحواس، ما قد كنا نعلم من قبل، أفلا يكون ذلك، وهو ما نسميه تعلما، عملية لكشف معرفتنا، ثم ألا يجوز لنا بحق أن نسمي هذا تذكراً؟
- جد صحيح
لأنه من الواضح، أننا إذ ندرك شيئاً بواسطة البصر، أو السمع، أو أية حاسة أخرى، لا نصادف صعوبة في أن ينشأ لدينا من هذا الشيء، تصور لشيء آخر، يشبه أو يباينه، كنا قد أنسيناه، وكان قد ارتبط الشيء، وعلى ذلك، فكما سبق لي القول، يقع أحد الأمرين: إما أن هذه المعرفة كانت لدينا عند الميلاد، وظللنا نعلمها طول الحياة، وإما أن يكون أولئك الذين يقال عنهم إنهم يحصلون العلم، بعد ميلادهم، لا يفعلون أكثر من أن يتذكروا، فما العلم إلا تذكر وكفى
- نعم يا سقراط، هذا جد صحيح
- فأي الأمرين تُؤثر يا سمياس؟ أكانت المعرفة لدينا عند الميلاد، أم أنا قد تذكرنا فيما بعد الأشياء التي كنا نعلمها قبل ميلادنا؟
- لا أستطيع الحكم الآن
(يتبع)
زكي نجيب محمود