مجلة الرسالة/العدد 86/في تاريخ الأدب المصري
→ بين القاهرة وطوس | مجلة الرسالة - العدد 86 في تاريخ الأدب المصري [[مؤلف:|]] |
القُبلة الممنوعة ← |
بتاريخ: 25 - 02 - 1935 |
3 - ابن النبيه
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 5 -
أهم أغراض شعر ابن النبيه المدح والغزل والرثاء والوصف، ولقد كان مدح شاعرنا رقيقاً بارع الأسلوب، يستهوي السامع ويأسره، ويستطيع أن يملك قلب الممدوح فيهبه جزيل الهبات، وهو يبدؤه بالغزل غالباً وأحياناً كثيرة يبدؤه بذكر الخمر ومجالسها والساقي وجماله وحينما مدح الخليفة الناصر أحمد بدأ مدحه بذكر الناقة التي حملته إلى الممدوح، وقريته من مقر حكمه، كما كان في بعض الأحيان يبدأ مدحه بدون تقدمة، غير أنه كان حينما يأتي بمقدمة قبل مدحه يجيد غالباً التخلص منها إلى المدح بلباقة وبراعة فهو حين يبدأ بالغزل يتخلص إلى المدح بمهارة كقوله:
عسى قلبه يعديه قلبي برقة ... كما طرفه الفتان بالسقم أعداني
لئن كان ينسى عقد عهد مودتي ... فلي ملك من فصله ليس ينساني
وحين يبدأ بالخمر يحسن التخلص منه كذلك مثل قوله بعد أن وصف الخمر:
حمراء تفعل بالألباب ما فعلت ... سيوف شاه أرمن من في عسِكر لجب
ولقد كان في النادر يطيل المقدمة إطالة كبيرة حتى تغير على المدح المقصود من القصيدة، ولقد كانت المقدمة مرة سبعة عشر بيتاً في حين أن المدح لم يستغرق أكثر من أحد عشر بيتاً، غير أن هنا ملحوظة أحب أن أوجه النظر إليها، تلك هي صيحة التجديد التي رفع الصوت بها، مندداً بأولئك الذين جعلوا كل همهم تقليد الأقدمين في بدء الشعر بالحديث إلى الأطلال وسؤال الديار، وهو في تلك النزعة يشبه - إلى حد كبير - أبا نواس الذي صاح قبله تلك الصيحة، واستمع إلى ابن النبيه يقول:
شكر المدام وشكر موسى مذهبي ... فلقد محون بطاعتي عصياني
شغلي مدائحه وغيري لم يزل ... كالبوم يندب دارس الجدران
للبيد والقفر الدوارس معشر ... عدل الزمان بشانهم عن شان فأنت تراه يشبه أولئك الذين يتحدثون إلى الديار بالبوم تندب دارس الجدران، ثم يؤكد لك أن مذهبه لا يشبه مذهبهم، وطريقته لا تتفق مع طريقتهم ويقول:
حسبك لا يغني سؤال الديار ... قم، فاصرف الهم بكأس العقار
واستنطق العيدان إن كنت ذا ... لب فما ينطق صم الحجار
البم والزير وكأس الطلا ... أولى بمثلي من سؤال الديار
وهو يشبه في ذلك أبا نواس الذي سفه أولئك الباكين على الأطلال والآثار، وصرح بأن الأولى والأفضل أن يبدأ الشعر بذكر الخمر وما إلى الخمر
ولقد سار ابن النبيه على تلك الطريقة فلم يبدأ شعره يوماً بسؤال حجر ولا استنطاق أثر، وهناك نقطة ثانية تراها في بعض مدحه تلك هي نقطة الاستطراد والدخول في موضوع جديد بمناسبة ذكره، ولنمثل لذلك بمدحه للخليفة الناصر فهو مدحه وأثنى عليه، وما هو إلا أن ذكر انتسابه للنبي حتى مضي يمدح النبي، ويذكر خصاله ومعجزاته. ولعل ذلك نشأ من أن الخليفة في ذلك الوقت لم يكن له من السلطان والقوة شيء، وإنما كان يعتز بالسلطة الروحية التي تستمد من النبي، فلا جرم كان مدح النبي مصدر تلك السلطة مدحاً للخليفة، وترقية من شأنه، هذا وقصائد مدحه متوسطة بين الطول والقصر غير أنه كان يقصرها أحياناً، ولكن لا يفوته أن يعتذر عن هذا القصر، ولنختم الحديث عن مدحه بذكر قطعة صغيرة تعطيك صورة عن هذا المدح: قال يمدح الملك الأشرف، ويذكر دخوله مدينة خلاط:
أبيٌ، سخيٌّ تحت سطوته الغني ... فحف وتيقن أن في عسره يسرا
هو البحر بل أستغفر الله إن في ... بنان يديه للندى أبحرا عشرا
لحي الله حربا لم يكن قلب جيشها ... ومجلس عدل لا يكون به صدرا
أطل على أخلاط يوم قدومه ... بلجة جيش يملأ السهل والوعرا
تلقاه من بُعد المسافة أهلها ... فذا رافع كفا وذا ساجد شكرا
فشككت أن الناس قد حشروا ضحا ... أم الناس يستسقون ربهم القطرا
أما غزل شاعرنا فنوعان: غزل هو مقدمة لمدح، وغزل قصد إليه قصداً وعناه من أول الأمر، وهو في كلا الغزلين عذب جميل تحس فيه رقة الهوى وشكواه، وقد تحدثنا عن تعزله بالغلمان: السقاة منهم والجنود؛ ومن الرقيق هنا أنه كان يستخدم ألفاظاً للتورية كقوله في غلام يهودي:
من آل إسرائيل علقته ... عذبني بالصد والتيه
أنزلت السلوى على قلبه ... وأنزل المن على فيه
على أن غزله لم يقتصر على الذكر، بل كان يتغزل كذلك بالمؤنث وإن كان قليلاً. ومن أرقه قوله:
إلي كم أكتم البلوى ودمعي ... يبوح بمضمر السر الخفي
وكم أشكو للاهية غارمي ... فويل للشجي من الخلي
ممنعة لها طرف سقيم ... شديد الأخذ للقلب البري
وشاحاها على خصر عديم ... ومئزرها على ردف ملي
وقد صدرنا مقالنا بشيء من هذا الغزل الرقيق الذي شهر به شاعرنا حتى أصبح يقال في حقه: هو صاحب الغزل البديع، فهو جميل حين يصف لك الحب وإن كان وصفاً حسياً، وجميل حين يذكر أيام الوصل أو حين يعيد إلى نفسه ذكرى الأيام العذبة ويقول:
أترى لأيامي بوصلك عودة ... ولو أنها في بعض أحلام الكرى
زمن شربت زلال وصلك صافيا ... وجنيت ورد رضاك أخضر مثمرا
ملكتك فيه يدي فحين فتحتها ... لم ألق إلا حسرة وتفكرا
لننصت إليه حين يقول ارتجالا:
أماناً أيها القمر المطل ... فمن جفنيك أسياف تسل
يزيد جمال وجهك كل يوم ... ولي جسد يذوب ويضمحل
وما عرف السقام طريق جسمي ... ولكن دلُّ من أهوى يدل
إذا نشرت ذوائبه عليه ... ترى ماء يرف عليه ظل
أيا ملك القلوب فتكت فيها ... وفتكك في الرعية لا يحل
قليل الوصل ينفعها فان لم ... يصبها وابل منه فطل
أدر كأس المدام على الندامى ... فمن خديك لي راح ونقل
فنيراني بغيرك ليس تطفي ... وأحزاني بغيرك لا تبل فهو مع استخدامه الصناعة اللفظية لم يزل جمال الشعر رائعاً خلاباً كما ترى
(يتبع)
أحمد أحمد بدوي