مجلة الرسالة/العدد 86/بين القاهرة وطوس
→ دار الحديث الأشرفية والمتحف العربي بدمشق | مجلة الرسالة - العدد 86 بين القاهرة وطوس [[مؤلف:|]] |
في تاريخ الأدب المصري ← |
بتاريخ: 25 - 02 - 1935 |
12 - بين القاهرة وطوس
اصفهان إلى سلطان آباد
للدكتور عبد الوهاب عزام
والباب العالي بناء ضخم قسمه الأمامي إيوان عال يمسك سقفه الرفيع ثمانية عموداً، مشرف على الميدان، ووراء الإيوان بناء ذُو طبقات ست وسلاليم ضيقة، وفي كل طبقة حجرات قليلة صغيرة، وهذا البناء كله كان لجلوس السلاطين مشرفين على اللعب في الميدان، ولاستقبال الوفود أحياناً، وكان بابه العظيم مفتوحاً ليل نهار يأوي إليه أصحاب المظالم فترفع إلى الشاه ظلاماتهم
ومن الآثار التي رأيناها، المسجد الجامع، وهو من أكبر المساجد سعة رقعة وضخامة بناء، وقد كمل بناؤه الحاضر في عهود مختلفة، وهو أقدم مساجد أصفهان. إيوان القبلة له قبة عالية ضخمة مبنية بالآجر، والى الغرب إيوان صغير جميل أظنه من آثار الصفويين، ووراءه مصلي كبير يؤخذ مما كتب على قبلته أنه بني سنة عشر وسبعمائة، ووراء هذا مصلي كبير لا نوافذ له، وفي سقفه كُوى ينفذ ضوؤها من أحجار من المرمر شفافة
وفي المسجد إيوانات أخرى ومصلي له قبة صغيرة زعم بعض الإدلاء أنه كان بيت نار، وأن القبة الكبرى كانت كذلك؛ وذلك زعم لا يصدقه التاريخ وفن البناء. وقصارى القول أن المسجد الجامع بأصفهان من عجائب الأبنية، وأن فيه للتاريخ وفن العمارة درساً طويلاً. وفي الجمعية الجغرافية الآن عشرات الصور تبين عن أقسام هذا الجامع العظيم ودقائقه
وأكبر الظن أن هذا هو الجامع الذي وصفه مفضل بن سعد ابن الحسين المافر وخي في كتابه (محاسن أصفهان) حيث يقول: (والجامعان: الكبير العتيق البديع الأنيق. بني أصله القديم عرب قرية طبران وهم التيم. . . ثم أعيد في أيام المعتصم سنة ست وعشرين ومائتين، ثم زاد فيه علي بن رستم في خلافة المقتدر، فصار أربع أدور يماس كل حد من جماعتها رواقا، يلاصق كل رواق منه أسواقا. . . . . وهو منذ اتخذ يطن بالتهليل والتحميد، ويحن بالتسبيح والتمجيد. لا ينظم لإحدى الصلوات الخمس أقل من خمسة آلاف رجل. وتحت كل اسطوانة منه شيخ مستند ينتابه جماعة من أهلها بوظيفة درس أو رياضة نفس. تزين بمناظره الفقهاء، ومطارحة العلماء، ومجادلة المتكلمين ومناصحة الواعظين، ومحاورات المتصوفين، وإشارات العارفين، وملازمة المعتكفين. إلى ما يتصل به من خانكاهات قوراء مرتفعة وخانان عامرة متسعة، وقد وقفت لأبناء السبيل من الغرباء والمساكين والفقراء. وبحذائه دار الكتب وحجرها وخزائنها الخ الخ
والباب العالي الذي ذكرته آنفاً كان يؤدي إلى حدائق واسعة فيها قصور كبيرة رائعة، رأينا منها قصر (جهل ستون) أي قصر الأربعين عموداً الذي بناه الشاه عباس واحترق فعمره الشاه ومقدم البناء رواق رفيع واسع يقوم بسقفه عشرون عموداً رفيعاً كل عمود قطعة واحدة من خشب الدلب، وكان مكسواً بالمرمر تعلوه قطع المرايا على الأسلوب المألوف في البلاد الفارسية، وللبناء على الجانبين رواقان آخران صغيران، ووراء الرواق الأكبر مدخل يفضي إلى قاعة كبيرة، ووراءها حجرات
وفي رواق الجانب الأيمن نقوش كثيرة، بعضها يصور نفراً من الموسيقيين والمغنين، وبعضها يمثل جماعة من سفراء دول أوربا الذين وفدوا على الملوك الصفويين، وفي القاعة الكبرى صور زيتية كثيرة تمثل الملوك الصفويين مستقبلين ضيوفهم أو محاربين أعداءهم، وهي صور تذكر بصور قصر فرسايل في فرنسا
وأمام البناء كله حوض كبير على حافته نافورات، ينعكس فيه مرآى الرواق الأمامي. قال محدثنا: للرواق عشرون عموداً وهذه مثلها في الماء، فمن أجل هذا سمي قصر الأربعين عموداً
والحق أن آثار الصفويين في أصبهان على ما نالها من عوادي الزمان تشهد بما كان لهم من الغنى والأبهة، وبما كان في الدولة من العمران والصناعات، والنبوغ في العمارة والنقش
ورأينا آثاراً أخر يضيق المقام بوصفها، ثم أوينا إلى الفندق وفي حيالنا جلال الماضي وجماله، وأمام أعيننا ما كان من تبدل وتحول
عصف الدهر بهم فانقرضوا وكذلك الدهر جال بعد حال
خرجنا العشية، فجلنا في أطراف المدينة، ورأينا القناطر المشيدة على نهر زنده رود، ورأينا مصنعاً كبيراً لآل اليزدي ينسج فيه الصوف، ثم ذهبنا إلى السوق، وسوق أصفهان من أعظم الأسواق في الشرق، فرأينا بدائع صناعة اصفهان، واشترينا منها ثم رجعنا إلى الفندق
ولما حان موعد العشاء خرجنا إلى دار الحكومة إجابة لدعوة الحاكم. فنعمنا هناك زمناً بحديث السيد الهمام قاسم صور أسرا فيل ورئيس البلدية، والشاعر الإنكليزي درنيكووتر والدكتور شميت الألماني. ثم عدنا إلى الفندق نمشي في القمراء وقد هود الليل، فقلنا حبذا لو امتد بنا المقام
بكرنا إلى الرحيل ونحن نذكر قول أبي عبد الله الحسين النظري:
حوت أصفهان خصالاً عجاباً ... بها كل ما تشتهيه استجاباً
هواء منيراً وماء نميراً ... وخيراً كثيراً ودُوراً رحاباً
وترباً ذكياً ونبتاً روياً ... وروضاً رضياً يناغي السحايا
وفاكهة لا ترى مثلها ... نسيماً وطعماً ولوناً عجاباً
تفيد الأعلاَء برءاً كما ... يفيد الربيع الرياض الشبابا
وزاد محاسنها زنروذ ... مياهاً كطعم الحياةِ عِذاباً ألخ
فارقنا أصبهان والساعة ثمان وربع من صباح الاثنين ثالث عشر رجب (22 أكتوبر) عائدين أدراجنا تلقاء قم - ومن أصفهان إلى كرمانشاهان طريق تسير شطر الغرب لا تمر بقم، وهناك طريق أخرى إلى سلطان أباد في العراق العجمي، ولكن سائق سيارتنا، وهو خبير بالطرق، أبى إلا أن يسلك طريق قم إلى سلطان أباد فهمذان فكرمانشاهان لأنها طريق معبدة مطروقة معروفة، ومررنا والساعة تسع ونصف بقرية صغيرة اسمها مورجه خورد (النملة أكلت) قال السائق هذه قرية دعا رسول الله صلوات الله عليه أهلها إلى إطعام بعض الفقراء فأخفوا ما عندهم من طعام فدعا الرسول عليهم فأكلت النملة ما ادخروه من قوت: ووردنا دليجان والساعة اثنتا عشرة فوقفنا موقفنا الأول على المطعم الذي وصفه آنفاً، فجاء صاحبه وقال قد هيأت لكم الطعام، قلنا أعددت دجاجة؟ قال نعم وغيرها، فصعدنا إلى الطبقة العليا فاسترحنا ثم جاءنا الطعام فأكلنا مسرورين فكهين
واستأنفنا المسير والساعة واحدة وأربعون دقيقة، فلقينا على الطريق زميلنا في المؤتمر الدكتور نظام الدين الهندي، فوقفنا نجدد العهد به. ثم سرنا قليلاً فإذا ثلاثة من أعضاء المؤتمر: ألماني وأمريكي وتركي مقيم في أمريكا، فتحدثنا قليلاً ثم افترقنا وكان هؤلاء يؤمون أصفهان فشيراز
بلغنا قم والساعة أربع فلم ندخلها، بل ملنا عنها شطر الغرب نريد سلطان آباد. ونزلنا بعد نصف ساعة ببناء عند أشجار على مقربة من نهر قم. قلت للسائق أي موضع هذا؟ قال تخت شير (تخت الأسد) شربنا الشاي، وطلبنا شمامة (خربوزه) فجاء رجل بشمامة وبطيخة قلنا هذه البطيخة قديمة، فما رأيك في الشمامة؟ قال حلوة جداً. قلنا شققها. فإذا شمامة غير ناضجة فقمنا نندب أملا ضاع بين قِدم البطيخ وحداثة الشمام. ولم أنس من بعدُ تخت شير وشمامته. وان مسيرنا في أرض عامرة تبدو فيها القرى والزروع والأشجار، والبيادر ليست كالطريق بين طهران وأصفهان. ومررنا بقرية صغيرة وقف عليها السائق قائلاً لا يفوتنا أن نأكل من عسل هذه البلدة فهو حديث الركبان. ثم دخل بناء إلى جانب الطريق، وعاد بقليل من العسل والزبد والخبز. وقد صدق الخُبر خبر صاحبنا فقد وجدنا عسلاً صافياً بارداً فقلنا قد أبدلنا الله بشمامى تخت شير عسل راهجرد. وتمادى بنا السير حتى اجتزنا بقرية اسمها إبراهيم آباد فعلمنا أننا على مقربة من غايتنا، وبعد نصف ساعة وقفنا في مدخل سلطان آباد والساعة ست وخمس وأربعون مساء بعد أن فصلنا أصبهان بعشر ساعات ونصف. فرآى الشرطة جواز السفر ودخلنا المدينة:
عبد الوهاب عزام