الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 857/القصص

مجلة الرسالة/العدد 857/القصص

بتاريخ: 05 - 12 - 1949


الأغلال أقصوصة عراقية

للأستاذ شاكر خصباك

- انظري إلى ذلك الحمال يا سعاد. . . أنه يتعقبنا على دراجته شأنه كل يوم.

قالت رفيقتي إحسان هذا وهي تشير إلى الحمال الذي اعتاد أن يستقبل أفواجنا كلما غادرنا المدرسة. فقلت في عدم اكتراث دون أن أحول إليه أنظاري: ما لنا وله؟!

فنظرت إلى زاوية عينيها وانفرجت شفتاها عن ابتسامة ماكرة. فجأة اشتد ضجيج جرس دراجته وراءنا، فالتفتت إحسان خلفها في حركة سريعة، ولكنني لبثت متجهة بأنظاري إلى الأمام دون أن تطرف عيناي. ومرت لحظة خيل إلي أنها قاربت الساعة والجرس يواصل صخبه، ثم رأيت الحمال ينطلق بعجله أمامنا فتبعته عيناي في حنق وغيظ، وتناهى إلى صوت إحسان كريهاً ثقيلاً وهي تسألني متخابثة: ألم تلاحظي شيئاً على هذا الحمال يا سعاد؟

فأجبتها في صوت حاولت أن يكون هادئاً: كلا مالي وله؟! لماذا يجب أن ألاحظ أمثاله؟

فندت عنها ضحكة مثير وأجابت بلهجة خبيثة: من الغريب أن يخفى عليك غرض تلكؤه المريب.

فهتفت في خشونة: ما هذا الكلام السخيف؟! أمكلفة أنا برصد حركات كل من يمر بي في الطريق؟! هذا شأنك دائماً. . . تشغلين نفسك بالتوافه.

فالتفتت إلي في استياء وهتفت في تحد: بل إنك تتظاهرين بعدم الفهم. إن ذلك الحمال يحبك ما في ذلك، وما حضوره ساعة انصرافنا من المدرسة إلا ليراك.

وصمتت لحظة ثم واصلت القول وهي تضحك في سخرية: إلا ليراك من دون الطالبات جميعاً!

فصحت في وجهها بلهجة ثائرة: هكذا أنت دائماً. . تحسدين غيرك من الفتيات. حسناً، إنني جميلة محبوبة وكثير من الفتيان الممتازين يعجبون بي أراقك ذلك أم لم يرقك، ولن تجديك السخرية السخيفة نفعاً.

ثم ألقيت عليها تحية الانصراف في غضب وابتعدت عنها موسعة الخطى. وحين بلغت الدار وصفقت الباب ورائي تنفست الصعداء كأنني ألقيت عبئاً عن كاهلي. وتناولت طعام العشاء بدون شهية وذهني مشتت تائه، ولما أويت إلى الفراش واستعرضت حوادث النهار غمرتني آلام عنيفة حادة. وأغمضت عيني محاولة إبعاد صورة الحمال عن مخيلتي، لكنها ظلت تتراءى لي في بشاعة، بدوي جرس دراجته كأنني في سوق الحدادين.

استيقظت في الصباح منقبضة الصدر واهنة القوى، وتبدت لي المدرسة شبحاً مفزعاً مخيفاً. ولم أستطع طوال ساعات الدروس أن أرفع أنظاري إلى إحسان شأن من ارتكب فعلة منكرة تورده موارد الخجل. وما أن أعلن الجرس انتهاء الدروس حتى اجتاحني شعور بالضعة والهوان. وتمنيت من صميم قلبي لو أن (الفراش) سها عن دق الجرس ودعا الدرس الأخير يمتد بنا ساعات أخر. كنت أود أن أتجنب رؤية الحمال بأي ثمن كان، فقد كان يتمثل في ذهني فأحس بالاشمئزاز وتتملكني رغبة في الفرار والاختباء عن الأنظار.

حاولت أن أختفي عن عيون رفيقاتي حالما اجتزت باب المدرسة فأسرعت الخطو وأنا ألتفت حولي في خجل وحدة وعذاب. وكان الحمال يتعقبني بدراجته تارة يدنو مني وأخرى يبتعد عني. ولمحت عامر يمشي في موكب من زملائه الطلاب بطلعته البهية ولباسه الأنيق، فهممت أن أجري إليه وأحتمي به، ولكن سرعان ما تذكرت أنني لست سوى معجبة خجولة لا يعرف عنها أي شيء. فعضضت على شفتي في خيبة يمازجها الغيظ، وتابعت سيري في عجلة وارتباك وأنا أغمغم في حسرة: يا للحظ العاثر!

ذاعت قصة غرام الحمال بي وتلقفتها ألسنة زميلاتي بالتهليل والترحيب، فلا بد لألسنتهن أن تثرثر في موضوع ما. ولا يداخلني شك أن إحسان قامت بالنصيب الأوفر في نشر القصة، لا سيما وأن علاقتنا انفصمت عراها إثر ذلك اليوم. ولم يكن بوسعي أن أحتمل البسمات الغامضة التي أخذت ألمحها على شفاء زميلاتي، أو أن أطيق النظرات الساخرة التي بدأت أقرأها في عيونهن، وكم تمنيت لو تنشق بي الأرض وتبتلعني حين يعلن الجرس أوان الانصراف وتنطلق أفواجنا إلى الشارع، فتتأهب زميلاتي للتمتع بمنظر الحمال العاشق. كنت أحس أنني أوشك أن أذوب خجلاً وذله ومهانة. وكنت أضرع إلى الله أن يقع له حادث. . . حادث يعوقه عن الحضور. لكنه ظل يواظب على الحضور في الموعد المعين كل يوم كأنه المتدين يؤدي الصلاة في ميقاتها! ولم يكن باستطاعتي أن أتخذ أي إجراء ضده لأنه لم يتحرش بي أبداً. ولكن أعصابي بلغت من التوتر ذات يوم حداً عنيفاً، فلم أشعر إلا وأنا أنفجر صائحة في وجهه حين اقترب مني بدراجته: (ألا تكف عن ملاحقتي وتنقذني من شكلك القذر ودرّاجتك الكريهة؟!) فاصفر لونه واحمر، وانسل بعجله في هدوء دون أن يتفوه بلفظ واحد! وكانت عيناه تلمعان ببريق كئيب وشفتاه ترتجفان في انفعال شديد!. . .

وأقبل اليوم التالي وإذا بالمشهد يفقد إحدى عناصره ولأول مرة، وهو دراجة الحمال! وشعرت بسرور وارتياح مشوبين بقلق خفي. وخيل إلي أنني تخلصت من مرآه نهائياً، ولكن سرعان ما تبدد ظني، إذ لمحته منزوياً وراء إحدى أعمدة الشارع فأحسست بقليل من الكدر. وكان على غير عهده، يرتدي جلباباً نظيفاً وسترة جديدة، وينتعل حذاء لماعاً، ويضع فوق رأسه طاقية مزركشة وكان وجهه نظيفاً كمن اغتسل منذ برهة وجيزة وما كاد نظره ينالني حتى انطلق يحدق في كالمأخوذ. ولم أستشعر لنظراته وقعاً شيئاً كالذي كنت أحسه من قبل، بل خالجني شعور من يقع بصره على مشهد يبعث على الشفقة والرثاء. ولكن هذا الشعور لم يدم طويلاً، فقد عاودني في الأيام التالية الإحساس بالغيظ والحنق كلما مررت به في ركنه المعهود، ولمحته منزوياً في ترقب وشوق. وكنت أصمم كل يوم على الامتناع عن ملاحظته حين مروري بموضع انتظاره، ولكن عيني كانت تنجذب إلى تلك الزاوية بالرغم مني. واسفزني هذا الحال أشد الاستفزاز فعقدت العزم على ارتداء النقاب. ومع أن فضول زميلاتي في مراقبته كان قد فتر غاية الفتور حتى لم يعدن يأبهن لأمره، لكن رغبة شديدة ألحت بإخفاء وجهي! ولا أدري كيف فشلت في قهر تلك الرغبة مع أنني كنت على رأس الطالبات الثائرات على الحجاب، بل الداعيات إلى نبذ العباءة لا البرقع فقط. وقلت لنفسي في شيء من العناد والتشفي وأنا أبارح المدرسة والبرقع يحجب وجهي لأول مرة: (لن يستطيع أن يراني بعد الآن). وصح ما توقعته، فقد مررت به وهو منزو بركنه المعهود فلم يعرني التفاتاً، ولبث يبحث عني بين الطالبات بعينين مشوقتين.

ويبدو أنني أثرت قلقه يتصرفي الجديد. إذ برز في اليوم التالي من ركنه المعهود وظهر على الرصيف وهو مسند الظهر إلى العمود الضخم. وكان يفحص أسراب الطالبات بوجه متقلص العضلات وعينين مضطربتي النظرات. وأحسست بالسرور والارتياح حين مررت به ورأيته جاداً في البحث عني بين فئات التلميذات دون أن يعثر لي على أثر.

مررت أيام ثلاثة على ارتدائي النقاب والحمال ملازم لموضعه على الرصيف يتفحص وجوه الطالبات في قلق ولهفة وكنت قد اعتدت على النقاب بعض الشيء خلال تلك الأيام بعد أن كابدت في اليوم الأول من تطفله على وجهي أشد الضيق وأحسست أن أنفاسي تكاد تختنق. وفي ظهيرة اليوم الرابع حدث ما لم أكن أتوقعه، فما كدنا نتدفق من باب المدرسة كالسيل حتى فوجئت به فوق عجلته وقد عاد إلى زيه القديم؛ فبدى قذر الملابس عاري الرأس حافي القدمين! ومضى يخترق أفواجنا في تئن وهو يتمعن في وجوه الطالبات في اهتمام. وكان يصل إلى الرأس الشارع فيقفل راجعاً إلى باب المدرسة، ثم يعاود السير إلى رأس الشارع ثم يعود من حيث بدأ، إلى أن احتجب عن بصري. وغمرتني فوره من العواطف المتضاربة، وأنا أرقبه يروح ويجيء فوق عجلته والمرارة تفيض من قسماته. وأحسست بلذة يشوبها كدر وارتياح يعكره قلق مبهم.

ورأيته ساعة العصر وهو يتجول بين جموعنا في خيبة وقنوط والكآبة تغلف ملامحه بغشاء كالح. وكنت متجهة إلى الدار وأنا خالية الذهن من أية فكرة معينة. لكنني أحسست بغتة برغبة قوية في اقتفاء أثره. ولم أتردد في تحقيق تلك الرغبة طويلاً، إذ شرعت أتلكأ في السير حتى أصبحت في أعقاب الطالبات. وتسنى لي بذلك أن أرصد حركاته في حذر واحتراس. فما أن أيقن من خلو المدرسة من التلميذات حتى عاد أدراجه يسوق عجلته في يأس وخذلان. وبلغ دكان لكراء العجلات مترجل من عجلته وسلمها لصاحب الدكان بعد أن نقده مبلغ من المال. وسلك الشارع المؤدي إلى (ميدان الشرطة) فتبعته عن قرب والخوف والوجل يشداني إلى الوراء في حين تدفعني رغبة عارضة إلى الأمام. انتهى به المسير إلى الفسحة الممتدة أمام سوق البقالين فعرج على ناصية الشارع المجاورة لمركز الشرطة وجلس إلى نفر من الحمالين الذين اعتادوا أن يتخذوا تلك الناحية مركزاً. وتوقفت بالقرب من دكان بقال بجانب الناصية متظاهرة بالرغبة في الشراء بينما انطلقت عيناي تدوران في المكان. وناوله أحد الجالسين عدة العمل وسأله: (ألم ترها!؟) فهز رأسه في خيبة ومرارة دون أن ينطق حرفاً. فأندفع آخر ذو أنف معقوف كمنقار البومة وبنيان متين كالفيل يقهقه في سخرية لاذعة، فسأله في خشونة وهو مقطب الجبين: علام تضحك؟! فأجابه ذو الأنف المعقوف في استخفاف: على جنونك يا حسن. ألا يدعو حالك إلى الضحك؟! أية ساعة نلقاك نجدك عابس الوجه مكتئب القسمات برم الحياة، لماذا؟! لأنك تحب تلك الفتاة. .!

فسأله بصوت أجش: وماذا في ذلك؟! أليس من حقي أن أحب؟! ألم يخلقني الله كما خلق أولئك الشبان المتأنقين الذين يحل لهم الحب؟! كلما هنالك من فرق بيننا أن الله رماني في أحضان أب معدوم فاضطررت أن أشتغل حمالاً لأكسب لقمة العيش، بينما خص أولئك الشبان بآباء أثرياء يرسلونهم إلى المدارس ويكسونهم بالحلل الغالية. . وإن لله حكمة في خلقه!

فهتف ذو الأنف المعقوف بلهجة ساخرة: كفى تفلسفاً وكفراً فنحن نعترف أن من حقك أن تحب، بل وتحب تلميذة جميلة من بنات الأثرياء! ولكن، أفتظن يا قيس أن ليلاك ستتنازل يوماً وتجود عليك بنظرة أو ابتسامة؟!

فقاطعه في انفعال: اسمع يا جاسم. لا تتدخل في شئوني. أنا أدرى منك بما أفعله.

فأستطرد ذو الأنف المعقوف بقول في تهكم: طبعاً أنت أدرى بشئونك. . . لذلك أحببت تلك الفتاة!. . . حمال يحب فتاة مثقفة غنية. . .!

وسكت برهة ثم صاح في هزء كمن تذكر أمراً: اسمع يا قيس. إنني مستعد لمراهنتك على أن ليلاك قد اختارت لها صديقاً من طلاب المدارس كما هو شأن معظم التلميذات.

وكنت أترقب النقاش بنفسي متوثبة وقلب سريع الخفقان، فتملكني الغيظ حين نطق ذو الأنف المعقوف بعبارته الأخيرة، ولكن سرعان ما اهتزت جوانب نفسي بسرور عظيم عندما شاهدت حسن يقفز إليه في جنون ويمسك بخناقه وهو يصرخ هائجاً: لا تدنس اسم هذه الفتاة بلسانك القذر. . . لا تدنسه. . . لا تدنسه. . .

فسدد إليه ذو الأنف المعقوف لكمة ألقته على الأرض، واشتبك الاثنان في معركة حامية في حين بدأ الناس يجتمعون حولهما يحاولون فض المعركة، فانسللت في طريقي ونفسي نهب لعواطف الخوف والألم والإشفاق.

أقبل الليل. .

وجلست إلى كتبي لمذاكرة دروسي. محال أن أفهم شيئاً وذهني يعج بهذه الصور. دراجته الحزينة تخترق صفوفنا في ملل. . عيناه المتفجرتان أسى تتصفحان وجوه الطالبات في لهفة وإعياء. . ذو الأنف المعقوف وضحكاته الساخرة الكريهة. . المعركة العنيفة التي اشتبك فيها الاثنان! ويئست من استيعاب صفحة مما أقرأه فأطبقت الكتاب في ضيق وقمت إلى سريري.

اضطرب نومي بأحلام تارة أراه في صور كريهة تثير في قلبي الحنق والاشمئزاز، ويهم بالقبض على ذراعي فأنفلت من يديه مذعورة، وأركض أمامه خائفة وجلة وهو يعدو ورائي وزميلاتي يقفن على طول الطريق وهن يرمقنني هازئات. وطوراً يتمثل لي شاباً أنيقاً يرتدي السترة والبنطلون، ويغادر مدرسة البنين الثانوية المجاورة لمدرستنا في موكب من رفاقه المتأنقين، وهو يسير بينهم رافع الرأس شامخ الأنف، وأمر بالقرب منه أنا وزميلتي إحسان، فيلتفت إلي في اهتمام ويستقبلني بنظرات تفيض بالهيام. فتثير تلك النظرات في قلبي أعذب المشاعر وأحلى الأحاسيس. وحيناً أراني واقفة في أرض خضراء واسعة أتطلع إلى الأفق البعيد، وفجأة يبرز إلي وهو يمتطي صهوة جواد جميل، فينتشلني من الأرض ويردفني وراءه، ثم ينطلق بنا الجواد خبباً ونفسي تهتز نشوة وطرباً.

واستيقظت في الصباح متأخرة عن ميقات يقظتي اليومي. الصداع يلهب رأسي والضيق يكاد يكتم أنفاسي. وتناولت فطوري في غير شهية، وقصدت المدرسة وأنا منقبضة النفس حزينة المشاعر. تلقيت الدروس ضجرة متبرمة، ولما دق جرس الدرس الأخير زايلني بعض ما أحسه من ضيق وانقباض، وبادرت إلى الخروج وأنا أتوقع أن أرى حسن فوق دراجته يخترق الصفوف، ولم يكن ليزعجني التوقع تلك اللحظة، بل أحسست نحوه بشيء من الرضا والاطمئنان. ولشد ما ذهلت حين قطعت معظم الشارع دون أن يبدو له أثر. واستولى علي استغراب شديد يمازجه شعور بالاستياء والقلق، وظللت سائرة في خطي مضطربة وأنا أتلفت حولي طول الطريق، متوهمة في كل صوت عجلة تدرج ورائي. واكتسبت أذناي في تلك الدقائق قوة مدهشة، فكنت أنتبه إلى أدق صوت، بل لعلني كنت أتخيل سماع بعض أصوات وهمية. ومع ذلك فقد بلغت الدار دون أن يلوح لدراجته ظل. . .!

انتظرت فترة العصر في لهفة لا تطاق. وكنت خلال ساعات الدرس أحدق في ساعة معصمي بين لحظة وأخرى متأففة متململة كأنني أستحث عقاربها على الإسراع. وما أن طرق سمعي رنين الجرس حتى قفزت نحو باب الصف في رعونة أثارت استغراب معلمة التاريخ التي تعهد في الرزانة والتعقل، لكنني لم أعبأ بدهشتها، وهرعت إلى الشارع ما اجتاحني موجة عارمة من المشاعر زاخرة بالمرارة والامتعاض والخذلان حينما ألفيت الشارع خالياً من دراجته، وصاحبتني تلك المشاعر الخانقة طيلة اليوم.

مضى أسبوع دون أن يبدو لحسن أثر: وكنت أثناء أيام الأسبوع أتوقع رؤيته في شغف كلما غادرت المدرسة في فرصة الصباح والمساء، وما أن يخيب ظني حتى يمتلأ كياني بأحاسيس يمتزج فيها الضيق بالأسى والثورة بالحنق. وتصارعت الأفكار والهواجس في رأسي كل منها يعزو غيابه إلى سبب. وكنت أجزم أحياناً بأنه في السجن يتحمل عقوبة المعركة. ثم أعود حيناً آخر فأعتقد أنه في المستشفى يداوي الجراح التي ألحقتها به المعركة. وحيناً ثالثاً أنقض ذينك الخاطرين ويعجزني ارتباك الخيال عن افتراض سبب معين!

وفي الليالي الثلاث الأخيرة من الأسبوع لفت نظري ظاهرة جديدة تحت نافذتي. فمن عادتي أن أفتح نافذة غرفتي المطلة على شارع عرضي وأمدِّ رأسي في الفضاء بضع دقائق لأملأ رئتيّ من هواء الليل العذب قبل أن أتهيأ للرقاد وبعد أن أفرغ من استذكار دروسي. فكان نظري يقع على شبح شخص يتحرك في تسكع. وبما أن مصباح الشارع الكهربائي بعيد عن دارنا فإن الظلام يغمر هذه البقعة فلا يسعني أن أميز شكل من يدخل في نطاقها. وخمنت للمرة الأولى والثانية والثالثة أن هذا الشخص عابر سبيل لكنني ما عتمت أن أيقنت أن تسكعه تحت نافذتي عن قصد وتعمد. وما أن رسخ في ذهني هذا الاعتقاد حتى أصبت بنوع من الهوس، فكنت أطل على الطريق في الليالي الأخيرة بين ساعة وأخرى فألحظه يتحرك تحت النافذة في نفس الموضع. وكان يتوارى عن أنظاري كلما أبرزت رأسي. وعجبت لحاله. . . من يكون؟! وماذا يعني سهره تحت النافذة؟! ولماذا يحاول الاختفاء عن عيني؟!

ولطالما ارتددت عن النافذة وتحولت إلى المرآة أتملىَّ فيها مفاتني. . . لا شك أنني رائعة الجمال. . . عينان سوداوان واسعتان. أنف صغير جميل. شعر أسود وحف ينسدل على كتفي كالحرير. قامة شامخة مغرية بخصرها الدقيق وصدرها الناهد. ثم هذه النقرة اللطيفة التي تبدو في وجنتي كلما افترت شفتاي عن ابتسامة صغيرة وصحيح أنني سمراء، لكن لوني خمري كما يقول الشعراء.

وكانت تلك الأفكار تبعث في قلبي نشوة هادئة، لكنها لم تكن لتصرفني عن أمر هذا العاشق الجديد. فكنت أنفق الساعات وأنا أنقد تصرفاته. وكنت أحدس أحياناً كثيرة أنه حسن نفسه. لكن ميلي إلى الاعتقاد أنه إما يكون طريح المستشفى أو يكون السجن كان يضعف هذا الحدس.

مرت أيام ستة على هذا العاشق الجديد وهو مقيم على عهده، يروح ويجيء تحت نافذتي كل مساء. وبينما كنت عائدة من المدرسة عصر اليوم السابع انحرف نظري ت على سبيل المصادفة إلى عطفة مهملة بالقرب من المنزل كنت أرفع البرقع في العادة حين أتجاوزها، وإذا بي ألمح حسن قابعاً فيها. وخفق قلبي في شدة وعنف، وساد الارتباك مشاعري واضطربت حركاتي، فحولت عنه عيني سريعاً، وأوسعت خطواتي حتى كدت أهرول. ولما بلغت الدار ارتقيت السلالم وثباً واتجهت إلى مخدعي من فوري واستلقيت على الفراش وأحاسيس النشوة والفرح تجيش في صدري. وتمثل لي شبح العاشق الجديد وهو يخطو تحت النافذة في تلكؤ، فوجدتني أجزم بأنه حسن نفسه. . . بقامته الفارعة وكتفيه العريضتين وملامحه القوية الصارمة، وإن له قامةطويلة حسن العبلة وإن لم تبن قسمات وجهه.

وما أن أسدل الظلام أستاره حتى هرعت إلى النافذة فرأيت الشبح يتحرك بعيداً مختفياً عن أنظاري، فارتددت عن النافذة.

وتهافتُّ على المقعد صامتة. لكنني ما عتمت أن قفزت على قدمي وأنا أحس كأنني حبيسة وراء جدران ضخمة. وانطلقت أذرع أرض الغرفة بخطوات سريعة مضطربة وأنا أرزح تحت وطأة رغبة جارفة في الخروج إلى الشارع. وضجت بتلك الرغبة مشاعري واختنق صدري بصراخها فأدركت أنني أقاومها عبثاً. وارتديت ملابسي على عجل. وأستاذنت أمي في زيارة زميلة لغرض يتعلق بالواجب المدرسي. رددت باب الدار خلفي وقلبي يسرع في دقاته وأعصابي ثائرة ونفسي متوثبة، وانعطفت وراء المنزل وسلكت رأس الشارع الثاني، ثم ظهرت أمام العاشق الجديد فجأة بحركة مباغتة. كان حسن نفسه بلحمه ودمه وهو منكمش تحت النافذة. ورفعت البرقع عن وجهي وأنا مفترة الثغر عن بسمة رقيقة، ولبثت بضع لحظات أحدق في وجهه بنظرات تنبض باللطف والإغراء وانتابه حالة من الذهول الشديد، فجمد في موضعه وهو متسع العينين دهشة، فاغر الفم في بلاهة وتبلد كمن لا يفهم لما يراه معنى. ثم واصلت سيري بخطوات متمهلة وأنا أتلفت ورائي بين لحظة وأخرى كأنني أدعوه إلى تعقبي. وابتعدت عنه وهو ثابت في وقفته كالتمثال، وكدت أيأس من استجابته للفتاتي ثم رأيته يتحرك فجأة في ذهول كأنه واقع تحت سلطان قوة خفية. وغاب دارنا عن أنظاري بين المنعطفات التي اجتزتها، ودخلت درباً يكاد يكون مقفراً من السابلة، وحسن لا يزال يتبعني بخطوات بطيئة مترددة، وكلما ازداد اقترابه مني اشتدت ضربات قلبي واندفع الدم في شراييني حاراً لاهباً وتضرمت في لأعماقي لذة مبهمة. ودنوت من منعطف يؤدي إلى شارع عام فتوقفت عن السير، ودرت على أعقابي بحركة بطيئة وانتصبت أمامه وجها لوجه وعلى ثغري ابتسامة رقيقة. كنت أشعر تلك اللحظة أن رأسي قد ألتهب وجسمي قد تخدر وأخذ يرتعش وطأة تيارات غريبة تمسني مس الكهرباء. أما هو فوقف صامتاً وكل جزء من أجزاء وجهه يعكس عواطف قلبه المصطخبة. ومرت لحظة صمت، ثم همهم بصوت مرتعش وشفتين مرتجفتين: (أنا عبدُك).

لا ادري ماذا حدث لي تلك اللحظة، ولكنني أذكر أنني لمحت عامر ينعطف من الشارع ويدخل الطريق، فاندفعت أصيح بحركة لا إرادية: (أنقذوني. . أنقذوني). فهرع إلي وهو يردد باهتمام: (ماذا بك يا آنسة!!. . . ماذا بك يا آنسة؟!) فأجبته بلسان متلعثم وأنا أشير إلى حسن: (إنه حاول تقبيلي). فتحول إليه مزمجراً، وراح يهدده بالويل إن لم يدعني وشأني.

ولن تمحى صورة حسن الذاهلة من ذاكرتي أبداً. فقد تحجر في موضعه، وراح ينقل أنظاره بيني وبين عامر في فزع كأنه تحت رحمة كابوس مخيف. ولم ينطق كلمة واحدة، بل ألقي علي نظرة تتدفق ألماً ومرارة وتعاسة، ثم دلف يخطو في تخاذل كأنه يرزح تحت حمل ثقيل، والتفت إلي عامر وقال بأدب: (لا أظنه سيضايقك مرة أخرى أيها الآنسة. . ليلتك سعيدة). ووقف ينظر إلي برهة كأنه ينتظر أن أقدم له شكري، لكن لساني انعقد عن الكلام وخوى رأسي من الأفكار. فهز كتفيه وسار في طريقه. وأردت أن أستوقفه لأقول له شيئاً، لكن قوة طاغية جذبت رأسي إلى الجهة التي سلكها حسن، فاتبعه بأنظاري وأنا أحس أنني سأنفجر من شدة الغم والألم والضيق. ثم ارتد إلي طرفي مبللاً بالدمع حينما تلاشى شبحه في النور الخافت.

القاهرة

شاكر خصباك