مجلة الرسالة/العدد 853/الأدب والفن في أسبوع
→ تعقيبات | مجلة الرسالة - العدد 853 الأدب والفن في أسبوع [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 07 - 11 - 1949 |
للأستاذ عباس خضر
أبن الحسب والنسب:
هذا هو أسم المسرحية التي قدمتها أخيراً الفرقة المصرية على مسرح الأوبرا الملكية، وهي للكاتبين الفرنسيين أميل أوجييه وجورج صاندو، وقد ترجمها محمد عبد المنعم سعيد بك، وأخرجها الأستاذ فتوح نشاطي المخرج بالفرقة. وتجري وقائع هذه المسرحية في القرن التاسع عشر بفرنسا، وهي تعرض ناحية من الصراع الاجتماعي بين طبقة الأشراف التي كان قد تضاءل نفوذها وانحسرت سيادتها عن المجتمع، وبين الطبق الوسطى التي بمثلها رجال الأعمال الذين وصلوا إلى الغنى بكدهم وارتقت بفضلهم التجارة والصناعة ن ويتجه سير المسرحية إلى السخرية من طبقة الأشراف وانتصار طبقة العاملين عليهم، فكان الغرض واضحاً، كما أن المنهج طبيعي والعرض طلي، بحيث يشعر المشاهد أنه يواجه موضوعاً مهماً، وفي نفس الوقت يحس بالطرافة والمتعة الفنية. وقد استطاع المترجم أن ينقل تلك المقاصد حية نابضة، بأسلوب لا بأس به، غير أنه لم يراع السلامة اللغوية في بعض العبارات، ولا تزال تطن في أذني كلمة (الماية) التي رددها أبطال المسرحية في قولهم (القرض بفائدة ستة في الماية) بفتح الميم الممدودة. . .
وتتلخص المسرحية في أن (المركيز دي بريل) تزوج من (أنطوانيت) ابنة (المسيو بوارييه) التاجر الغني، ويبدو هذا الزواج في المشهد الأول على أنه صفقة رضى بها المركيز المفلس ليستمتع بثروة صهره ويحيا حياة الترف والتبطل التي أعتادها، كما اغتبط بها المسيو بوارييه ليستفيد من لقب المركيز وهو يطمع في أن يصل بهذه المصاهرة إلى عضويه الشيوخ، وقد أنس من ابنته حبها للمركيز. ونعلم بغرض المركيز من هذه المصاهرة، من حديث يجري بينه وبين صديقه (الدوق دي موتمران) الذي يعمل كجندي في الجيش بأفريقيا، وقد قدم في إجازة؛ أما السير بوارييه فهو يعرب عن آماله لصديقه وشريكه (فردليه) وهو (عراب) أنطوانيت، ويخيل إلى أن الجمهور لم يدرك معنى كلمة (عراب) والمقصود بها ما يسمى في العرف الكنسي بمصر (الشبين) الذي يكفل الطفل من وقت (تعميده) أي يرعد ويعطف عليه. والكلمة (عراب) لا تستقيم عربية، ولعلها سريانية.
يلاحظ فردليه أن صديقه يغدق على المركيز المفلس المسرف المتبطل، وأن المركيز يستهين بزوجته أنطوانيت، فيحرض المسيو بواربيه على أن يضع حداً لهذا الحال فيطلب من المركيز أن يبحث له عن عمل. وما إن يفاتح المركيز في ذلك حتى يأبى في تشمخ واشمئزاز، وتسوء العلاقة بين الصهرين، ويشعر المسيو بواربيه أن زوج أبنته يحقره، فيقابله بالمثل ويعنف به، ويرتب الأمور على أن يطرده من القصر. ومرة يلين المركيز في مناقشة صهره حتى يستدرجه إلى البوح له بأنه يطمع أن ينال بجاهه عضوية الشيوخ فيهزأ به وتزداد الحال بينهما سوءاً.
وفي خلال تلك الحوادث نرى الفتاة الوديعة أنطوانيت تتودد إلى زوجها الذي يستخف بها أولاً ثم لا يلبث أن يشعر نحوها بشيء من الحب.
ثم يتحرج موقف المركيز عندما يكشف الجميع عن علاقته بمدام (دي مونجيه) بوساطة رسالة منها إلى المركيز تقع في يد المسيو بواريه فيفضها ويطلع أنطوانيت عليها فتكاد تصعق منها. ويهدد الرجل صهره برفع الأمر إلى القضاء ليفصل بينه وبين أبنته التي تحطمت سعادتها. فيغضب المركيز خوفاً على سمعة خليلته، ولكنه يخضع لصهره فيرجوه ألا يفعل ويعده بأن يقطع علاقته بها وأن ينزل عند رغبته في مزاولة عمل، وتدخل أنطوانيت وتخطف الرسالة من أبيها معلنة أنها صاحبة الحق وأنها هي التي ستقاضي زوجها. ويفاجأ المركيز بما يدهشه من نبل زوجته، إذ تمزق الرسالة وتلقي بها. . ويتقدم إليها في احترام، ولكنها تصده وتعلن أنها أرملة منذ اليوم. . ويحاول المركيز أن يستغفر زوجته. ويقبل عليها أخيراً وقد أعتزم مبارزة منافس له في (مدام دي مونجيه) فتمنعه أنطوانيت فيأبى التخلف عن المبارز ولكنها تقول له أنها تعتبر عدوله عن المبارزة دليلاً على حبه إياها، فيعدل، فتطلب منه أن يذهب إلى المبارزة محافظة على كرامته وشرفه، فيهم بالذهاب فترد إليه رسالة من منافسه بعدوله عن المبارزة.
وفي هذا الجو الصافي يعبر المركيز عن اقتناعه بضرورة أن يعمل عملاً يعيش منه فيتقدم (فردليه) ويهدي إلى المركيز وزوجته قصر أجداد المركيز الذي كان قد اشتراه وما يحيط به من المزارع ليعمل المركيز في استغلالها، وبذلك تنتهي المشاكل كلها حتى تطلع المسيو بواربيه إلى عضوية الشيوخ.
وكنت أفضل أن يظل المسيو بواربيه طامعاً في عضوية الشيوخ، فإن المركيز لم يقدم شيئاً، بل هم الذين كالوا له وصفحوا عنه وإن كانوا قد أذلوا كبرياءه، ولكن لا يوجد ما يجعل الرجل يتنازل عما يطمح إليه.
وأبطال القصة سماتهم واضحة ما عدا أثنين: صديق المركيز، وصديق المسيو بواربيه، وقد مثل المركيز (فاخر فاخر) ومثل المسيو بواربيه (حسين رياض) وقد أندمج كل منهما في دوره اندماجاً كلياً حتى نقلانا إلى فرنسا في القرن التاسع عشر وكان حسين رياض يعبر بكل لفظة وكل حركة، حتى حركة قدمه التي كان يرفعها في وجه المركيز احتقاراً له.
ومثلت أنطوانيت (أمينة رزق) فأجادت تمثيل الفتاة الرقيقة المتلطفة لزوجها، ثم الفتاة الشموس التي تغضب لكرامتها وتمزج هذا الغضب بالنبل الذي يصفع نبل (الأشراف) ولكنها أسرفت في مظاهر الغيرة بالبكاء والنحيب كدأبها. . . ولست أدري أهذه الغيرة الشديدة من امرأة فرنسية في أصل المسرحية أم حدث تعديل يمكن لأمينة رزق من هذا الذي عرفت به. . .
وأجاد فؤاد فهيم في تمثيل الطاهي الذي يزدهي بعراقته في فن الطهي، وكان هذا الدور من تمام السخرية من الأرستقراطية إذ ينتسب إليها الطاهي ويفخر بأجداده وماضيهم في المطابخ!
ومثل صديق المركيز (كمال حسين) ومثل فردليه (محمود رضا) والشخصية الأولى مائعة فلم تدل صفاتها وتصرفاتها على طبقة من الطبقتين، والشخصية الثانية تافهة غير جديدة بما أنسب إليها من التأثير في أنطوانيت ولعل ضعف تمثيل الشخصيتين أتى من ذلك. . .
العربية بين الباكستان والبلاد العربية:
قدم إلى مصر في الأسبوع الماضي السيد شودري خليق الزمان (لا خالق الزمان كما ذكرت بعض الصحف) رئيس الرابطة الإسلامية بالباكستان. وزيارته لمصر جزء من برنامج رحلته في البلاد العربية التي يقوم بها لبث الدعوة إلى اتحاد إسلامي عام تتكتل فيه جميع البلاد الإسلامية.
وقد دعت الجالية الباكستانية في القاهرة يوم الأربعاء الماضي، طائف كبيرة من رجال الفكر والصحافة وعلماء الدين، إلى الاجتماع بدارها حيث تحدث إليهم السيد خليق الزمان، وقد بين في حديثه ضرورة تكتل المسلمين وتعاونهم على الأخذ بوسائل التقدم وأسباب القوة، وأبرز فكرة (الجنسية الإسلامية) التي تقوم على الترابط والتواد بين كافة المسلمين في مختلف ديارهم، ومما قاله أن بعض المفكرين يدعون إلى الاقتداء بالغرب، وبعضهم يقول بالنظر إلى الشرق، ولكني أقول: يجب أن ننظر إلى ذاتنا وإلى إلهنا.
وكان الزعيم الباكستاني يتحدث باللغة الأردية، وهي لغة التخاطب السائدة في الهند والباكستان، وترجم عنه إلى العربية الأستاذ الأعظمي عميد كلية اللغة العربية في كراتشي. وقد شعر الجميع بالتقارب الفكري والوجداني بينهم وبين الضيف الكبير الكريم، على رغم الاختلاف في اللغة، ولا شك أن لاتحاد اللغة شأناً كبيراً في جمع المتكلمين بها على المودة والأخوة، وأنا أعتقد أن الباكستان تدنو من أخواتها الإسلامية التي تتكلم العربية، وتحقق هدف الاتحاد المنشود، باتخاذها العربية لغة لها. ولا يقل هذا شأناً - إن لم يزد - عن الوسائل الأخرى من الدعوة المباشرة وغيرها.
ولا أريد أن أثقل على إخواننا الباكستانيين بتكرار ذلك الذي قلته في مناسبة سابقة، وإنما أستبشر بما تنقله إلينا الأنباء عن حركة تعلم العربية في الباكستان، وما تبذله الدولة في هذا السبيل، وهي لا تزال في أوائل سنتها الثالثة، وأستشرف إلى المستقبل القريب الذي نرى فيه الباكستان أمة مسلمة متعربة.
وقد لاحظت كثيراً من الكلمات العربية في خلال حديث السيد خليق الزمان، ويقال إن اللغة الأردية تحتوي من الكلمات العربية ما يقدر بنحو خمسة وستين في المائة من مجموع ألفاظها. ولذلك لم يجد الباكستانيون الذين أقبلوا على تعلم العربية صعوبة فيها، وقد تقرر تعليم اللغة العربية في مراحل التعليم ابتداء من السنة الأولى الثانوية. وهناك (الجمعية العربية العامة) التي يرعاها وزير المعارف ويرأسها شيخ الإسلام، ولهذه الجمعية سنة طريفة في الحث على التخاطب باللغة العربية، فهي تفرض على من يتحدث في دارها أن يدفع عن كل لفظة غير عربية ما يعادل خمسة مليمات مصرية.
وقد جرى حديث بيني وبين باكستاني كبير في موضوع نشر اللغة العربية في الباكستان، قلت له: لماذا لا تكثرون من بعثات الطلاب إلى مصر، ليتعلموا في معاهدها باللغة العربية، ويكتسبون القدرة على هذه اللغة من البيئة المصرية؟ وجهت هذا السؤال وأنا غافل عن خرق واسع فيه. . قال: إن طلابنا الموجودين في مصر يشكون من اللغة العامية التي تتحدثون بها لا في الأسواق فحسب، بل كذلك في دور التعليم ومجالس المتعلمين فكيف يكتسبون القدرة على الحديث بالعربية من هذه البيئة؟
سمعت ذلك فلم أستطع إلا أن أهز رأسي آسفاً على هذه الحال وذكرت ما وقع لأحد المستشرقين، وقد جاء إلى مصر لأول مرة بعد أن درس اللغة العربية في بلده هو وزوجته حتى أصبحا يتخاطبان بها، فلما نزل بأحد الفنادق بالقاهرة وجاءه الخادم، قال له: أريد طعاماً. فأنصرف الخادم ثم عاد يحمل إليه (طعمية) فقال له: ما هذا. .؟ أريد شواء. قال خادم الفندق: مش قلت إنك عاوز طعمية!) فبهت الرجل. . . وكتب إلى زوجته يقول: لقد نزلت بالقاهرة زعيمة العواصم العربية، فلم أجد بها من يتحدث باللغة العربية غير زوجك العزيز!
والعجيب أو المخجل أن كثيراً من (المثقفين) المصريين الذين يجتمعون بهؤلاء الأجانب المتعربين، لا يبادلونهم الخطاب بالعربية، بل يحدثونهم بالعامية فلا يكادون يفهمون منهم شيئاً، ويتضايقون من المجالس، مجالس المتعلمين، التي يدور فيها الحديث بالعامية.
وأعود إلى الموضوع، فأقول مع ذلك: إن تفشي عاميتنا في الحديث العادي لا ينبغي أن يحول دون الإكثار من البعثات الباكستانية، فنحن نعمل على التقريب بين العامية والفصحى بالتعليم ووسائل النشر المختلفة، وليس من بأس ولا كبير عناء في أن يأخذوا بالضروري من العامية، وهي قريبة من الفصحى كما أنها تتشابه في البلاد العربية المختلفة التي تتجه الباكستان نحو مودتها، وهم مع ذلك لن يعدموا مواطن الفصحى وأدواتها في مصر.
عباس خضر