الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 852/مع شاعرة (من الأعماق)

مجلة الرسالة/العدد 852/مع شاعرة (من الأعماق)

مجلة الرسالة - العدد 852
مع شاعرة (من الأعماق)
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 31 - 10 - 1949


للأستاذ عبد المحسن الحكيم

الشعر الآن غيره قبل حين. . . حيث كان لا يطلب منه إلا أن يسمو في اللفظ أو في المعنى على اختلاف في فهم الشعر ووظيفته. أما الآن فإن أهم وظائفه أن يصدق في نقل أحاسيس الشاعر وتأثره بالتجارب الشعورية التي تفيض بها الحياة. . . وأحسب أن الشعر بلغ منتهاه من التطور. . . حين تحرر من سلطان اللفظ وسلطان المعنى الذي لم يكن للشاعر به عهد. . . وإنما هو تخيره من بين المعاني لأن غيره من قراء الشعر يعجب به ويدهش له، وحين قدر له أن يكون وقفاً على صاحبه. . . يعرض دقات قلبه لوجه جميل، وحركات شعوره لمنظر جميل أو منظر قاتم. . . تمثله الحيوات التي يحياها مواطنوه.

وجميل أن يطلب من الشعر أن يكون نتيجة إحساس. . قبل أن يكون نتيجة فكرة. . تعرض على أنها حكمة خالدة أبدية. . فهو إذ ذاك يكون شعراً. . وشعراً فقط. . لا منبراً لوعظ وإرشاد وتنبيه إلى الحقائق.

وإن هذا الذي قرأته في عدد سالف من الرسالة، للآنسة الفاضلة والمطوقة، لهو شعر حقاً. . يمنح من الإحساس ويصدر عنه. . . كما لو لم يكن غيره مصدراً لشعر في القديم والحديث.

وليس أصدق في نقل الأحاسيس إلى لغة الشعر من قول الآنسة الفاضلة تعلن وحدتها. . . وهي إذ ذاك تقطع مفاوز الحياة. دون أن تلقى بين يديها من يؤنس وحشتها ويشعرها أن الحياة غير الملل والصمت والظلام. . . لم تلف بين يديها هذا الإنسان. . . وإذا الحياة عندها. . تيه معمي. . ليس فيه غير ظلام مطبق وملل وسأم ووحشة فهي تقول:

سرت وحدي في غربة العمر؛ في التيه المعمي، تيه الحياة السحيق

لا أرى غاية لسيري ولا أبصر قصداً يوفى إليه. . . طريقي

ملل في صميم روحي منساب، وفيض من الظلام الدفوق

وأنا في توحشي تنفض الحيرة حولي أشباح رعب محيق

سرت وحدي في التيه , لا قلب يهتز صدى خفقة لقلبي الوحيد

سرت وحدي لا وقع خطو سوى خطوي على المجهول المخوف البعيد لا رفيق، لا صاحب، لا دليل غير يأسي ووحدتي وشرودي

وجمود الحياة يضفي على عمري ظل العناء. . . ظل الهمود

والإحساس الكبير هنا تتوزعه جميع هذه الأبيات. . ولكنه يظهر في بعضها بصورة أكبر. . تكاد لا تملك نفسك من الإعجاب بها. . . وقد لا تظفر مني أكبر قطعة موسيقية أو أبلغ لوحة وجدانية من الإعجاب ما ظفرت به بعض التعابير هنا. . . في هذه الأبيات. . . من ذلك مثلاً. (غربة العمر) (التيه المعمي) (جمود الحياة). فإن الإحساس الكبير في مثل موقف الشاعرة لا بد أن يعبر عن نفسه بمثل هذه التعابير. . لأنه صادق ولأنه بعد ذلك عميق فائض نفاذ.

وموقف آخر. . . هو أيضاً جميل، يشيع فيه الإحساس باللحظة الكبيرة. . . التي تغمر الشاعرة. . . ولكنه لا يظهر بالتعبير عن نفسه وإنما بالعجز عن ذلك. وهو ما أسميه ب (عي الإحساس) وعندي أن العي ليس وقفاً على اللسان فهو كذلك يصيب الإحساس كما يصيب اللسان على السواء. . . وذلك في المواقف الكبيرة التي تضيق بها التعابير ويضيق بها الإحساس نفسه. . . والشاعرة المجيدة حين تقول:

والتقينا. . . لم أدر أي قوى سا ... قتك حتى عبرت درب حياتي

كيف كان اللقاء؟ من ذا هدى خط ... وك؟ كيف انبعثت في طرقاتي؟

لست أدري، لكن رأيتك روحاً ... يوقظ الشوق في مسارب ذاتي

ويذرِّي الرماد عن روحي الخابي، ... ويذكي ناري، ويحيي مواتي

وحين تشيع الاستفهامات. . . لأن اللحظة كبيرة غمرت الإحساس بفيضها، وعب هو منها حتى ارتوى، وزاد بعد ذلك من اللحظة كثيراً. . . لم يحتوه الإحساس ولم يغمر. . . فضاق وعجز. . . وعبر عن هذا الضيق والعجز بهذا الاستفهامات الكثيرة في الأبيات القليلة. . . وما ذاك إلا لأن الموقف كبير. . . وكبير جداً. . . فلنتصور فتاة هائمة. . . قد أعياها البحث عن الشريك الذي يزيل لهفتها، ويريها الحياة كما هي لا من وراء الوحشة والوحدة. . . لعبور هذه الفتاة الهائمة تعبر الدروب وتجتاز المغاوز حائرة بائسة. . . وإذا هناك في بعض الدروب ألفته. . . أجل ألفته. . . عن غير قصد ولا سابق وعد أو انتظار. . . فسوف تدرك سر الاستفهام وجلاله وروعته. . . وسوف تدرك أن الشاعرة كانت تعوم حينذاك في السموات. . . تبحث فيها عن الصورة التي تمثل هذا المشهد المفاجئ تمام التمثيل. . بعد أن فتشت عنه في الأرض. . . وحين لم تلقه هناك. . . ألقت حيرتها في الاستفهام وهي تدري أن قصاراها في هذا الموقف هو الاستفهام الذي يبدي عجزها، في الموقف وبعده.

ولا يفوتني أن أدل على تعبير جميل تريد به الشاعرة الفاضلة مفاجأة اللقاء. . . هو (كيف انبعثت في طرقاتي). . . أرأيت المشاهد كيف تنثال عليك؟. . . مشهد الفتاة الهائمة في الطرقات. . . ومشهد الطرقات وهي قفراء من الحبيب، ثم مشهد الحبيب وقد نبض على غرة من الهائمة. . ومشهدها هي وقد فاجأها اللقاء. . . هذه المشاهد التي توحيها كلمات (كيف انبعثت في طرقاتي) مصدرها قسوة تكمن في قلب الشاعرة النابض. . . ومصدرها كذلك حاسة فنية عميقة.

ولأعبر ثلاثة أدوار من قصيدة (من الأعماق) لأقف قليلاً عند قولها البليغ:

ومضت بي الأيام، لا أنا صر ... حت، ولا لهفتي الحيية تبدو

كم وكم راح يحتوينا مكان ... وأنا صبوة توارت. . . ووجد

كم حديث حدثتني! كم قصيد ... هز روحي وأنت تروي وتشدو

ولقلبي السعيد شيء كعنف المو ... ج، يطغى تياره. . . ويمد

والبلاغة هنا تعني مطابقة الإحساس. . يضاف إليها الحاسة الفنية التي لا تكاد تلتقي بلحظة حياة. . حتى تحيلها إلى حياة بعيدة المدى شديدة الإيحاء. . وأحب للقارئ أن يقف على هذا البيت بصورة خاصة:

كم وكم راح يحتوينا مكان ... وأنا صبوة توارت. . ووجد

ثم يلمس بنفسه جمال الصورة التي توحيها هذه الألفاظ. . وليتذكر القارئ أبداً أنه أمام ألفاظ لا قطعة موسيقية ولا تمثال جميل.

وهكذا تسير قصيدة (من الأعماق). . إحساس شديد صادق. . وحاسة فنية قوية. . وتعبير جميل موح. . وروح بعد ذلك كله شاعرة طليقة. . وإن بدت أنها مقيدة إلى الأرض بأكثر من قيد.

وإني لأشبه الآنسة المطوقة. . بالشاعرة العراقية المجيدة (نازك الملائكة). . فقد كانت الشاعرة العراقية دائمة الشكوى من الحياة شديدة التذمر من أسبابها. . أما الآن فقد عطفها إلى الحياة طبيعة عريقة لا يمكن أن تفلت منها مهما حاولت ذلك. . وعلى أي حال. . فإني أريد قبل أن أفارق القارئ أن أتلو معه خاتمة (من الأعماق) لتكون خاتمة هذا الحديث:

وافترقنا، وبين كفي رسم ... لم يزل كل زاد روحي المتيم

كم تلمست عمق عينيك فيه ... وبعينيَّ أدمع تتضرم

يا لقلبي (كم راح بين يديه ... يهتك الحجب عن هواه المكتم)

اصغ تسمع عبر الصحارة صداه ... يترامى إليك شعراً مرنم

(العراق - النجف)

عبد المحسن الحكيم