مجلة الرسالة/العدد 852/ماذا علمتني الحياة؟
→ ركن المعتزلة: | مجلة الرسالة - العدد 852 ماذا علمتني الحياة؟ [[مؤلف:|]] |
مع شاعرة (من الأعماق) ← |
بتاريخ: 31 - 10 - 1949 |
تأليف الأسقف و. ر أنبج
بقلم الأستاذ علي محمد سرطاوي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
أرى من واجبي أن أذكر شيئاً عن آرائي في الدين، لأندين الإنسان الصحيح هو ما يتعلمه في مدرسة الحياة، وكثيراً ما يختلف عن المعتقد الذي يعتقده وهو صغير. لقد نشأ والداي في مكان ناء عن المدن في الريف، وكانا من المشايعين والمتعصبين لعقيدة التركتاريين القدامى من اتباع بوسيي وكيل - وهم فئة لا وجود لها اليوم، يتركز معتقدها في الصلاة وعدم الإيمان بطقوس الكنيسة. وهم يؤمنون إيماناً حرفياً بما في الكتاب المقدس، وبصورة خاصة بما نشره الحواريون من تعاليم لم تثبت تاريخياً. ولقد كانوا متقشفين على الطريقة البيوريتانية من حرمان النفس والبذل للمحتاجين. كان يوم الأحد مقدساً جداً؛ لا ألعاب فيه، ولا قراءة في كتب دنيوية. ولسبب لا نعرفه كانت تحرم علينا قراءة الروايات ذات (الغلاف الأصفر) حتى روايات ثاكاري وديكنز كانت تحرم علينا.
أما قصص شكسبير وولترسكوت فكانت تقرأ علينا بصوت جهوري، لقد كانت ثقافة جيدة على عيوب الرقابة التي فيها.
لكنني سرعان ما تمردت على ذلك، وأحسب أن أمي لم تغفر لي تمردي طيلة حياتها، ولم يسرها مطلقاً تقدمي المطرد في سلك الكهنوت لأن الرأي السائد في ذلك الزمن كان يتلخص في أن الرج المفكر لا يصلح لخدمة الكنيسة. إنني لم أفكر مطلقاً في المعتقدات الدينية إلا عندما صرت محاضراً في جامعة اكسفورد. لم يكن يسمح لنا في إيتون بالتفكير في مشاكل الحياة، وحينما كنت طالباً في الجامعة لم يكن لنا هم غير التنقيب عما تطلبه لجان الامتحانات. أما في اكسفورد فإن أقل محاضر يجب أن يكون فيلسوفاً.
لقد كان الصراع بين الدين والعلم - ذلك الصراع الذي أثار ضجة كبيرة في القرن الماضي - يبحث من جميع وجوهه بحثاً مستفيضاً يبدو لنا الآن سخافة مضحكة. أن المعتقد الأرثوذكسي يعتمد في أصوله على النبوءات والمعجزات المتواترة. ليس هنالك سبب يحملنا على الاعتقاد بأن في مقدور البشر معرفة الغيب. إن المسيح نفسه قد اعترف بعجزه عن معرفة زمان يوم القيامة. والبحث في صحة تحقيق النبوءات المزعومة يقودنا إلى سبل ثلاث: أما أن تكون النبوءة قد قيلت بعد وقوع الحادثة، أو أنها حرفت لتوافق الحادثة في سياق لا علاقة لها به أبداً، أو أن الحادثة اخترعت لتوافق النبوءة. إن الافتراض الثالث يبدو واضحاً جلياً في الإنجيل، والأمثلة على ذلك تتراءى لنا في أسطورة الميلاد في بيت لحم، وفي أسطورة مذابح الأبرياء، وفي الهرب إلى مصر.
أما ما يتصل بحدوث المعجزات طبقاً لإرادة الله، فأمر يرجع الإصرار عليه إلى ما تواتر في الماضي من رغبة اقتران وقوع المعجزات مع أحداث خاصة، وهو في ذاته لا يعود على الدين بربح جزيل. لم يكن قول جوته: (إن المعجزة ابنة الإيمان العزيزة) إلا تفسيراً لمحاولة الناس ربط قوانين الطبيعة الباردة بتيار من حرارة الروح، والتهرب من الواقع الجامد إلى الخيال الجميل.
إن الاستناد إلى رحمة الله، وأنه يستجيب الدعوات وهو المعتقد الأساسي لكثير من الناس قد يكون في الاستطاعة من جهة أخرى، كما اقترح، اختبار أثر دعاء المخلوق إلى الخالق، بطريقة عملية، كما اختبرت (التلباثي) وهي نقل الأفكار من شخص إلى آخر - وكما تثبت في الولايات المتحدة، وفي هذه البلاد، على رأي بعض الناس. والسخط البالغ الذي تقابل له تجربة من هذا النوع، يخفي وراءه الحقيقة المريرة وهي الفشل التام للتجربة. أن الإله الذي لا يعمل - كما يخيل لناس - أما أن يكون لا ظل له في الوجود، وإما أنه قانون مجسم من قوانين الطبيعة.
أما ما يتعلق بالعِلم فقد كان الجدل فيه عقيما. لقد أنكر علماء العصر الفكتوري (المادة)، وفسروا العالم بأنه أنواع من (الكم) الميكانيكي، ضاربين صفحاً عما سماه بسمارك (الأجسام التي لا ثقل لها)، ووصلوا عن طريق ذلك إلى ما سموه (بالنظام المتماسك المغلق). وما دعوه خطأ قانون النسبة لم يكن غير قانون الاستمرار الدائم.
أما العلم الصحيح فلم يكن غير الرياضيات. ليس بالصحيح القول أنها تبصرنا بحقائق لا قيمة لها؛ لأن الحقيقة في حد ذاتها قيمة مطلقة. إن الرياضيات تضرب صفحاً عن القيم النهائية ولا تؤمن بها، وتغض الطرف عن قانون الحرارة والعمل الميكانيكي الثاني (ثرموديناميك) والذي بموجبه تتحرك الدنيا في اتجاه عقرب الساعة.
أما الدين، والمثل العليا فقد أضاف هربرت سيسر كل ما يدرك إلى العلم؛ وما لا يدرك إلى الدين، وخطا ليزلي ستيفن خطوة أكثر فتحدث عن الحقائق الثابتة والأحلام. لقد طفت (دنيا القيم) كالضباب على وجه العالم الملموس في النجوم والذرات، غير أنها احتفظت ببعض عتوها فيما يتصل بالأمور الخارقة للعادة والتي سميت بالمعجزات والتي لم يأبه بها العلم كثيراً. وعلى كل حال سواء كان سبب انتشار مرض الكوليرا الماء الملوث بالجراثيم كما هو الواقع، أم إلحاد رئيس البلدة التي ينتشر فيها ذلك الوباء، كما كان اعتقاد كثير من الناس آنذاك، فقد انتهت تلك الفصول الهزلية من مسرح الحياة.
عندما أفكر فيما كان يسميه وليام جيمز (التجربة الدينية) وما كان الناس بالنور الداخلي أو الإيمان بالروح القدسي، يروق لي أن أكرس كثيراً من وقتي لدراسة الصوفية والأفلاطونية، شأن الكثيرين الذين كان يضطرم في نفوسهم مثل هذا الإحساس أن الإيمان بالقديسين يكاد يكون أمراً مفروغاً منه ومجمعاً عليه، وأولئك الذين أعطوا كل ما يملكون ليجدوا الجوهرة الثمينة، لم يرجعوا صفر اليد ولم يكونوا جميعاً من المسيحيين. لقد كان بلوتونيوس أعظم فلاسفة التصوف في القرن الثالث الميلادي وثنياً. وقد ابتدأنا ندرك الآن أن أشياء كثيرة نستطيع تعلمها من الهنود. وليس أصدق من القول الذي يزعم أن الديانة المسيحية والبوذية قد خسرتا بتدابرهما طرق الحياة. إن خيال التصوف يبدو لي غامضاً لأنني لم أحصل على معرفة كافية، ولكنني من ذلك النوع من الرجال الذين لو حدثهم من يثقون به عن وصوله أعلى قمة من جبال العالم، لاعتقدت إمكان الوصول إلى تلك القمة على رغم عجزي عن الوصول إليها. إن الديانة المسيحية كما يصفها سنت أغسطين ليست إلا الأفلاطونية ممزوجة بعقيدة حلول الروح القدسي في المسيح. تكاد معظم الفلسفات تجمع على جعل الإنسان مندمجاً في المهل التي تفهمها الحياة. لكن الديانة المسيحية لا تفعل مثل ذلك. الله هو المحبة. وكثيراً ما تورد المحبة صاحبها موارد الهلكة، وحب الله العظيم للناس جعله يضحي بابنه في سبيل إنقاذهم. إن التضحية هي قانون أولئك الذين يتبعون الله ويؤمنون به ويضحون في سبيل الآخرين ويتحملون الآلام، وكما عبر عن ذلك وليم بن بقوله (لأجزاء بلا تضحية) وكثيراً ما خيل إلي أن جماعة (الكويكارز) قد تأثروا بهذا الرأي كثيراً.
لم تتغير آرائي في شخص المسيح إلا قليلاً. لقد تأثرت في صدر حياتي بما كتبه عن المسيحية شيلي وهارنك والبروتستنتيون من الألمان. لقد وجهت نقداً لاذعاً في محاضراتي في الجامعة لقول ليوزي (إن المسيح ليس إلا فلاحاً من منطقة الجليل في الأرض المقدسة محدود الذكاء). اعتقد أن استمرار إيمان الحواريين بالمسيح بعد صلبه لم يكن إلا انعكاساً من أنفسهم لما تأثروا به وهو بينهم. ومن غير المعقول أن نؤمن بما قاله ليوزي ونحن نرى الأثر الذي تركته حياة المسيح في حياة الناس مدى الأجيال البعيدة. والاعتقاد بعودة المسيح ليس في رأيي غير انعكاس عميق لحماس روحي لم يستطع الناس تفسيره بغير الأمل العظيم في مستقبل قريب. ألم نجرب ذلك في نفوسنا ونحن نعلق الآمال على وقت سعيد مقبل، فهل يتغير ذلك الاعتقاد إذا ما أناخ بكلكله علينا وقت سيئ مفعم بالآلام؟
أرى لزاماً علي أن أبين الخطر الذي يكمن وراء ما يسمونه (عبادة المسيح) لقد أساء مارتن لوثر فهم معتقد سنت بول، ذلك المعتقد الذي كان لا يعني غير صوفية عميقة في المسيح. إن المسيح الذي تعبده الديانة المسيحية هو الذي كان حياً ومات، والذي لا يفنى أبداً. لقد آمنت بأن الأقسام الثلاثة التي قسم سنت بول بموجبها الطبيعة الإنسانية: الجسد والروح والنفس، صحيحة من وجهة سيكولوجية. إننا نعيش في عالم المادة، والروح طليقة تعيش في المادة وما وراءها، فينبغي أن تكون حياتنا الداخلية تحولا مستمراً من المادة إلى الروح. إننا نكاد لا نؤمن بإمكان تحويل الشخصية المادية إلى شخصية غير مادية مطلقة. هذا هو الشرح لضرورة وجود الرمزية في الدين. أما في الحياة المادية فإننا نستطيع أن نرى - كما في المرآة - عن طريق الرمزية. وحينما تمر كل يوم من المنظور إلى غير المنظور، ومن الحقيقة إلى الخيال، تكاد تتملكنا رغبة تدفعنا إلى محاولة رؤية المجهول في عالم الزمان والمكان الذي نعيش فيه. لقد قلت في إحدى مواعظي أن من أبسط واجباتنا نحن رجال الدين أن نساعد الذين في بصيرتهم ضعف على رؤية ما لا يدرك بالحواس، وهو عمل محفوف بالمصاعب. وإذا كان قولي صحيحاً، كان التقليل من الغموض في الدين أدعى إلى إنارة أذهان الناس وأدعى إلى بلوغ ذلك الهدف عن أقرب طريق. لست أريد أن أتجاوز أكثر من هذا في حديثي لأننا كثيراً ما نسمح لأنفسنا بحرية أوسع في التفكير والخيال.
لقد كان اهتمامي بالغاً بالفلسفة والدين، وقد ملكا علي جميع أوقات فراغي. ولم يمنع هذا الاهتمام أن تكون نواح أخرى صرفت لها بعض وقتي ورغبتي. إن من حق الفرد في الحكومات الديمقراطية أن يعبر عن أفكاره تعبيراً صحيحاً، ويقنع من حوله بما يدور في رأسه من مُثل وآراء. وهذا يصدق على رجال الدين أيضاً؛ غير أنه لا يجوز لرجل الدين وهو يحتل منصباً رسميا في الكنيسة أن يجاهر بآراء خاصة قد لا يؤمن بها غيره من المسيحيين التابعين للكنيسة. لقد ظهرت محاولات عديدة ليكون للكنيسة صوت في الحياة السياسية؛ ولكن الكنيسة تجنبت ذلك تمشياً مع قول اللورد أكتون الذي يقول: (إن كل قوة مصيرها إلى الفساد). ولذلك احتفظت الكنيسة بحيادها ولزمت الجانب الروحي من حياة الناس.
كان أبواي من المحافظين، وقد ابتدأت علاقة أتباع الكنيسة العليا بالاشتراكية عن طريق جور وسكوت وهولاند، وكانوا يأسفون أن يكون المستر جلادستون خيراً من دزرائيلي من جهة الدين.
أما ما يتعلق بي، فإنه ليضحكني أن أذكر - حتى زمن حرب البوير - أنني كنت محافظاً متعصباً على طريقة رديارد كبلنج، وقد أثرت تلك الآراء في وفي الكثير من أمثالي، ورأى القرن الجديد انكماش الإمبراطورية البريطانية وتقلصها، وأصبح لزاماً على الإنجليز أن تكون لهم آراء تتمشى مع التطور الجديد. لقد بلغت الذروة جميع الشعوب التي تقع على شواطئ الأطلسي وأصبح اتجاه التوسع الإمبراطوري إلى الشرق، وانتهى من ناحية الغرب. إنني لا أنسى قول اللورد هلدان في مطلع الحرب العالمية الأولى: (لو ركن الألمان إلى السلم لنالوا كل ما يريدون). لقد ألقوا بالجائزة مرتين من أيديهم. وقد أخذ عصر الاسترقاق يطل برأسه على الدنيا. إن المستقبل للشعوب التي لديهاأرض واسعة، ومستوى منخفض في المعيشة، واستعداد للعمل المرهق، ونحن والفرنسيون لا ندخل في نطاق هذه الشعوب.
كثيراً ما يتراءى لنا أن ثلاثة أخطار تهددنا: أولها حق التصويت العام. من المؤكد أن السياسة ستنحط إلى نوع من المزاد العلني تباع وتشترى فيه أصوات الأغلبيات غير الممثلة. أقول غير الممثلةلأن المفروض أن أصحاب الحرف التجارية والمهن قد مثلتهم في المجلس مائة مقعد، إلا أن الواقع يظهر أن كثيراً من المناطق لا يمثلها أحد غير مدينة لندن والجامعات القديمة. لقد تدهورت معنويات العامل الإنجليزي تدهوراً جعله غير مرغوب فيه عند الشعوب الأخرى.
والخطر الثاني: نمو سلطان الحكومة المركزي من أثر الحربين الأخيرتين، وفي سبيل القضاء على الطغيان الفاشي، قد جعلنا أنفسنا فاشيين: إن عبادة الدولة شر أنواع الوثنية. والشعب الإنجليزي يضع قوته في المجتمع لا في الدولة. لكن الدولة الآن تصول وتجول وتتجاوز كل حق موضوع.
والخطر الثالث هو اكتشاف قنابل الذرة، ذلك الاكتشاف الذي وضع سلاحاً رهيباً في يد الدولة وقوى سلطانها. ليس هنالك ما يدعو إلى الخوف من القنبلة الذرية الآن. ولقد بدا ذلك واضحاً في روسيا وألمانيا حيث عوملت الجماهير بأشد ما في الظلم والهمجية من معان. نقول لأنفسنا أحياناً: (إن أعمالاً من هذا النوع لا تحدث عندنا)، ربما كان ذلك صحيحاً.
لكن الخطر لا يزال موجوداً. إن الطبقات المتوسطة التي تحمي الحرية الشخصية آخذة في الفناء، والأحرار الذين كانوا في زمن سابق يحمون هذه الحرية أصبحوا في موقف سيئ لا يحسدون عليه. حينما كنت طفلاً كان الأحرار يعيرون المحافظين بأنهم حزب بليد. لقد جنوا على أنفسهم وهم يفسحون المجال للامتيازات والآراء الحديثة. ويذكرنا ذلك بقول جلادستون (لن يمكن للشيوعية الاشتراكية إذا قدر لها أن تكون في هذه البلاد غير حزب الأحرار). وهربرت سبنسر كان يرى أن الاشتراكية ربيبة الأحرار أيضاً.
إنني أرجو أن يكون في إنزال إله المال عن عرشه، بعد أن أصبح صفر اليدين، بعض النفع للطبقات التي هي خليعة بذلك وكانت محرومة. إن كل ما يطلب هو إزالة ويلات الحرب، وليس ذلك - في اعتقادي - بعزيز. ومن يدري فلعلنا في مطلع عصر مظلم رهيب. حينما يوجد الأمل توجد الحياة. والغرب لم يفقد آماله. إننا نجتاز أعظم كارثة حلت بالبشرية، ولكن كل تحد - ما لم يكن مدمراً - يترك رد فعل. وقد برهنا على أن في استطاعتنا احتمال الآلام دون مضض أو تذمر أو تراجع.
ليكن هذا كل ما أريد قوله. لقد علمتني الحياة ما كنت خليقاً بتعلمه منها. لقد كنت طموحاً، ولا أذكر أنني قلت أو كتبت أي شيء لا يرضى عنه ضميري، في سبيل إرضاء الآخرين.
يقول الناس عني إنني كنت كثير الحركة، وكثير الحركة تتوارى وراء روحه الثورة. إن الناجح في الحياة هو ذلك الذي يطفو على ماء نهر الوجود كالكلب الميت؛ يتملق صاحبه وكأنه ينبض بالحياة. إن الصرخات التي لا معنى لها اليوم ليست إلا صدى أحلام الأمس غير البعيد.
آمل أن يكون جزائي ما كنت أحمله في عواطفي من الصدق، ذلك الصدق الذي لم أستطع خدمة بلادي به إلا قليلا.
(بغداد)
علي محمد سرطاوي