الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 851/تعقيبات

مجلة الرسالة/العدد 851/تعقيبات

بتاريخ: 24 - 10 - 1949


للأستاذ أنور المعداوي

حول مشكلة الأداء النفسي مرة أخرى:

في بريد العدد الماضي من الرسالة، طالعت كلمة وجهها إليَّ الأديب الفاضل عبد المنعم سلمان مسلم حول مشكلة الأداء النفسي في الشعر العربي، ولا يسعني قبل الرد عليه إلا أن أبادر بشكره على تلك التحية الكريمة التي شاء ذوقه ولطف مودته أن يخصَّ بها هذا القلم!

يقول الأديب الفاضل بعد تحيته: (ولكنني لا أوافقك، بل أعتب عليك عتباً كبيراً حينما تصب حكمك القاسي على الشعر العربي القديم جملة واحدة، هذا التراث الذي نفخر به على مرِّ الزمن، هذا التراث الذي جعلته خواء من الروح والعاطفة. إنك بهذا الحكم تهدم حضارة، وتبعثر أمجاد أمة، وأنا أعيذك من هذه النظرة، وأرجو تراجع نفسك، وتستشير ذوقك وحسك، وأنا موقن أنك لن ترضى لنفسك أن تسم الشعر العربي بهذه السمات: (شعر السطوح الخارجية)، شعر يشعرك بفراغ (الوجود الداخلي) عند قائليه، لأنهم كانوا يعيشون خارج (الحدود النفسية). . .

ثم يقول الأديب الفاضل بعد ذلك: (ألم تقرأ شعر المتنبي؟ اقرأه في السيفيات والكافوريات، فتراه شِعراً مُنبثقاً من أعماق النفس، هو في ظاهره مديح، ولكن وراء هذا معان كلها أثر للإحساس النفسي والانفعالات الحزينة تارة، المريرة أخرى، الساخرة كثيراً. واقرأ شعر ابن الرومي في رثائه ومدحه وهجوه، فهو صادر عن نفس حساسة شاعرة، وألفاظه شفافة موحية. واقرأ في كل عصر من عصور الأدب، فستجد شعر النفس، وصدق الفن في أكثر ما تقرأ). . .

هذه هي الكلمات واللفتات التي تحفل بصدق الغيرة على تراثنا العربي القديم ممثلاُ في الشعر، وهي غيرة من حقِّ صاحبها عليِّ أن أحمدها له، مهما بعدت الشقة بيني وبينه، واختلفت وجهات النظر. . . أما عن حُكمي على الشعر العربي، فأنا لا أصدر حُكماً إلا وأنا مؤمن به، ولا أسوق رأياً إلا وأنا مُطمئن إليه؛ ذلك لأنني ما نظرت في فن من فنون الأدب إلا وأنا أنشد الدراسة بغية التقويم، وإطالة التأمل رغبة في النقد، وإنعام الفكر سعياً إلى كشف غامض أو جرياً وراء تقرير مذهب؛ تلك هي عادتي كلما تناولت أثراً من آثار الفن وكلما لقيت رجلا من رجاله، سواء أكانت اللقيا في عالم الأحياء أم في عالم الشعور والسطور. . . من هنا أود أن أقول للأديب الفاضل إنني ما وسمت الشعر العربي القديم بتلك السمات، إلا بعد أن صاحبتهُ مصاحبة كانت في حساب الزمن خمسة عشر عاماً، وكانت في حساب الدراسة النقدية خمس عشرة مرحلة، في كل مرحلة منها ما شاء من إعادة النظر، وما شاء من تقليب الرأي، وما شاء من مراجعة النفس، وما شاء من استشارة الذوق والحس والوجدان!

أنا يا صديقي لا أنكر أن في الشعر العربي القديم لوامع رائعة من الأداء النفسي، ولكنها كما قلت لوامع تطغى عليها تيارات الأداء اللفظي، ذلك الأداء الذي يعني بمادية التعبير أكثر مما يعني بظلاله النفسية. . . إن الأداء النفسي موجود في شعر المتنبي كما هو موجود في شعر ابن الرومي والبحتري وأبي تمام وما شئت من كبار الشعراء، ولكن أي وجود؟ أنه وجود لا يملأ سمع المتذوق لهذا اللون من الأداء، ولا يحيط بمنطقة الشعور تلك الإحاطة الكاملة التي نلتمسها في الإثارة الوجدانية. . . عندهم إثارة، نعم. ولكنها الإثارة التي تنبثق من ثنايا الذهن لا من شغاف القلب، وتنطلق من وراء اللسان لا من حنايا العاطفة؛ وتلك هي الإثارة العقلية التي دفعت بهم إلى خارج (الحدود النفسية) كما قلت، وبعدت بهم عن أن يكونوا قمماً من قمم الأداء النفسي الذي أشرت إليه!

لقد كان الشاعر القديم لا يخلو إلى نفسه إلا في القليل النادر ولقد كان مشغولا عنها بأغراض الحياة ومطالب العيش ومظاهر الغلبة على الأقران والتشوف إلى الوقوف بباب السلطان، ولذلك ضرب بجناحيه في كل أفق وبقى أفق واحد عزَّ عليه أن يحلق فيه، وهو أفق الخلوة إلى النفس والتحدث إليها والتعبير عما يجيش بداخلها من شتى الانفعالات والخلجات. . . ولو خلص الشعراء القدامى لأنفسهم وخلصت لهم، وتفرغوا للتأملات الذاتية في شيء من الاستجابة الصادقة لدعاء الشعور الصادق، لبدوا عمالقة في ميدان لم يطرقوه مرة إلا ارتدوا عنه مرات، ولاغترفوا من نبغ لم يحوموا حوله لحظة إلا وضلوا عن طريقه لحظات، جرياً وراء السراب؛ سراب الصنعة اللفظية والذاتية البيانية!

ومع ذلك يذهب الأديب الفاضل إلى أن المتنبي وابن الرومي ينفذان من نطاق النقد الذي أقمته حول بناء الشعر العربي القديم، فهل يتفضل بتقديم قصيدة لهذا وأخرى لذاك يتخيرهما من روائع الشاعرين، لنستطيع أن نضعهما فوق مشرحة الدراسة النقدية، مستخدمين مبضع التحليل على ضوء الأصول الفنية التي عرضت لها في مشكلة الأداء النفسي في الشعر؟ إنني على استعداد لتشريح أية قصيدة تقدم إليَّ من الشعر العربي القديم، وعلى استعداد لأن أثبت لمقدمها في غير تجن ولا مغالاة، أن أية ومضة نفسية يمكن أن تشع في بيت من الشعر هنا، ستقابلها عشرات الومضات اللفظية في كثير من الأبيات هناك. . . وهذا هو الحد الفاصل بيني وبين من يختلفون معي في الرأي حول الشعر العربي القديم!

نترك هذا كله لنرد على اللفتة الأخيرة في كلمة الأديب الفاضل حين يقول: (لقد جعلت (شوقي) زعيم مدرسة في حسن الأداء النفسي، لأنه يملك الصدق في الشعور والصدق في الفن، وجعلته قريناً لشاعر آخر. . . والمعروف أن المدرستين مختلفتان في كثير من السمات والوجوه؛ فشوقي في رأيي يحفل بالصدق الفني، ويتأنق في عرض الصورة البيانية، فطابع الصدق الفني أغلب في شعره من الصدق الشعوري، وعلى النقيض من ذلك الشاعر (إيليا أبو ماضي). والذي يهمني بعد، أن توضح لي رأيك في مكان شوقي بين الشعراء، ومكانة شعره في نفسك).

إن القول بأن المدرستين مختلفتان في كثير من السمات والوجوه غير صحيح في جملته، ذلك لأنهما تختلفان في المظهر وتتفقان في الجوهر، ونعني بالمظهر هنا ذلك الإخراج الفني للصورة البيانية، أما الجوهر فنعني به ذلك العرض الصادق للصورة النفسية؛ وهنا تتمثل نقطة الارتكاز في الأداء النفسي حيث تلتقي المدرستان. . . فاللفظ عند شوقي هو لفظ الدلالة الموحية، الدلالة على الموجات الشعورية التي يندفع رشاشها من الداخل ليرطب مسالك التعبير، وهو كذلك أيضاً عند إيلياأبيماضي. الأداء نفسي هنا ونفسي هناك، أما الاختلاف فهو في تلك المعالم الخارجية للهياكل اللفظية، ولا بأس من توضيح هذا الاختلاف الذي يبدو في المظهر لا في الجوهر بأن نقول: إن شعر المدرستين أشبه بثوبين أخرجهما مصنع واحد من نسيج واحد، ولكن العامل الذي ابتكر تلوين هذا الثوب غير العامل الذي ابتكر تلوين ذاك. . .

ولقد سبق أن قلت: إن الأداء النفسي في الشعر، لا بد أن يقوم على دعامتين لا غِنى لإحداهما عن الأخرى: دعامة الصدق الفني ودعامة الصدق الشعوري، ومعنى هذا أننا إذ قلنا إن شعر شوقي يغلب فيه طابع الصدق الفني، فقد أخرجناه بعض الإخراج من دائرة الأداء النفسي، وكذلك ينطبق القول على أبي ماضي إذا ما حكمنا بالغلبة لطابع الصدق الشعوري في شعره. . . إذ لا بد من المساواة بين الصدقين لتكتمل العناصر الفنية المتفاعل لتكوين المزيج الأخير، ونعني به مزيج الأداء النفسي في شعر الشاعرين أو شعر المدرستين!

أما عن رأيي في مكان شوقي بين الشعراء ومكانة شعره في نفسي، فقد أبديت هذا الرأي من قبل، هناك في (تعقيبات) العدد (815) من الرسالة، تحت عنوان (لحظات مع أمير الشعراء)، ومهما يكن من شيء، فإن رأيي في شعر الرجل، هو رأيي في شعر الأداء النفسي، ولعلي قد أشرت إلى مكانة شعره حين أفضت في الحديث عن مكانة ذلك الأداء في موازين النقد. . . وللأديب الفاضل خالص الشكر وعاطر التحية.

إلى الصديق الفاضل صاحب (بيروت المساء):

قرأت في آخر عدد تلقيته من جريدتكم منذ أيام، مقالاً ثائراً تحت عنوان ضخم: (المعداوي يتهجم على أدباء لبنان). . . وكان مصدر الثورة أنني قلت للأستاذ سهيل إدريس على صفحات (الرسالة) وأنا أتحدَّث عن قصته (سراب)، مُشيراً إلى حملات خصومه من كتاب لبنان على إنتاجه القصصي: (. . . فلم لا ترفع معول الهدم لتهوي به على الأصنام، ولم لا تشق طريقك على أشلاء الجثث المحنطة في توابيت الأدب)؟!

قلت هذا للأستاذ إدريس بالأمس، فإذا أحد كتَّابكم يُهاجمني اليوم على صفحات (بيروت المساء) مُؤكداً أنني قد تهجمت على أدباء لبنان. . . معذرة إذا قلت لك إن هذا القول تنقصه الدَّقة في التعبير، وتعوزه الأمانة في تصوير الواقع. الحق أنني لم أتهجم على (أدباء) لبنان، ولكنني تهجمت على (أنصاف الأدباء) في لبنان، ولهذا لم تُثر كلمتي سخط الفريق الأول، ولكنها أثارت سخط الفريق الأخير!!. . .

ومعذرة مرة أخرى إذا وجهت إليك الحديث وأهملت ذلك الكاتب الذي كان يعنيني بكلماته. . . إنني ما تعودتُ قط أن أخاطب المجهولين! ولقد قلت لنفسي بعد أن فرغتُ من قراءة كلمته: كيف لم أسمع باسمه إلا اليوم، أنا الذي تعي ذاكرتي المتواضعة أسماء رجال الأدب في لبنان، منذ أن وُجد في لبنان أدب وأدباء؟!. . . اسم الكاتب الفاضل (علي شرف)، هل تسمح بأن تمدني ببعض ما تعرف عن مؤهلات الكاتب الفاضل؟ لستُ أعني مؤهلاته الدراسية، وإنما أعني مُؤهلاته الثقافية، أتدري لماذا؟ لأنني حاولت أكثر من مرة - وذلك على ضوء كلماته - حاولت أن أنصف ثقافته حيث لم تنصف الأيام اسمه. . . ولكنني لم أستطع!!

كل ما خرجت به من مقال الكاتب الفاضل، هو أنه أراد أن يلقي عليَّ دروسه القيمة في أصول النقد الأدبي. . .

أرجو أن تنقل إليه هاتين الكلمتين: لقد هزلت! ذلك لأنني - والحق يقال - قد تعلمت أصول النقد الأدبي قبل أن يتعلم الكاتب الفاضل حروف الهجاء العربية. . . إن من المضحك حقاً أن يتوهم الكاتب الفاضل أنني قد تهجمت على (أدباء) لبنان، وأشدّ من ذلك إضحاكاً أن يغضب عليَّ تلك الغضبة المضرية متوهماً مرة أخرى أنه من أدباء لبنان، وقاتل الله مركب النقص حين يحلق بأصحابه على أجنحة الوهم في كل أفق تهبط عليهم فيه عرائس الخيال!!. . . أنه ليسألني أن أشرح له ماذا أعني (بطبقات القصة) تلك التي (حددتها المقاييس)، ويسألني عن (اكتمال التصميم الفني) وأهميته قبل الشروع في البناء، ويسألني ويسألني؛ وقاتل الله الفراغ. . . وبعد ذلك يفغر فاه من الدهشة ويخبط كفاً بكف من شدة العجب: كيف واتتني الجرأة على القول بأن في لبنان بعض الجثث المحنطة في توابيت الأدب؟!

إن في لبنان (أدباء) أقدِّرهم وأعتز بهم، وكثيرون منهم يعطرون صفحات (بيروت المساء) بإنتاجهم الأدبي الممتاز. . .

الكرامة العقلية في حفلة تكريم أم كلثوم:

تهافت كثير من كتابنا وشعرائنا على حفلة تكريم الآنسة أم كلثوم تهافتاً يدل على أن (الوفاء) و (عرفان الجميل) في مصر بخير، وأشاد بعضهم (بوطنية) الآنسة أم كلثوم و (فضلها) على أبناء الوطن إشادة تبشر أيضاً بأن موازين أصحاب القلم في مصر بخير، أما حفلة التكريم فقد أقيمت رغبة في تسجيل كل هذه (القِيم) بمناسبة عودة المطربة الكبيرة من البلاد الأوربية. . . ولكنني أعلم مثلا أن الدكتور طه حسين قد سافر إلى الخارج وعاد إلى وطنه أكثر من مرة، وكذلك عاد الأستاذ توفيق الحكيم من فرنسا منذ أيام، ومع ذلك فلم يفكر أحد من هؤلاء السادة في تكريم الرجلين. وأعلم أيضاً أن مطران قد مات وأن المازني قد مات، ومع ذلك فلم يتهافت أحد من هؤلاء السادة بعض هذا التهافت على تأبين الراحلين. . . بل إن صوتاً واحداً من أصوات هؤلاء السادة لم يرتفع منادياً بمنح أولاد المازني مجانية تعينهم على مواصلة التعليم، بعد أن طرقوا كل باب وما من سميع ولا من مجيب!!

معنى هذا أن رجلا كطه أو الحكيم أو المازني أو مطران، هؤلاء جميعاً في ميزان كتابنا وشعرائنا ليس لهم من الفضل في توجيه الجيل بعض ما للآنسة أم كلثوم. . . بل إن صحافتنا الموقرة لم تكتب مثلا عن حفلة استقبال الأستاذ الزيات وزميله في مجمع اللغة إلا سطوراً في حين أنها خصصت من صفحاتها أعمدة كاملة لحفلة استقبال المطربة الكبيرة!

أيها الأدباء، أيها الشعراء، أيها الصحفيون. . شيئاً من الكرامة العقلية!!

أنور المعداوي