مجلة الرسالة/العدد 851/الأدب والفن في أسبوع
→ تعقيبات | مجلة الرسالة - العدد 851 الأدب والفن في أسبوع [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 24 - 10 - 1949 |
للأستاذ عباس خضر
تكريم أم كلثوم:
في يوم الأربعاء الماضي احتفلت الهيئات الموسيقية في مصر بتكريم كوكب الشرق الآنسة أم كلثوم بدار معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية، لمناسبة عودتها من أوربا، تعبيراً عن السرور بشفاء عينيها واطمئنانها على صحتها بعد أن قلقت عليهما وامتنعت عن الغناء فشاركها الناس الأسف واكتأبوا لما نالها من الهم. فلما عادت سالمة قريرة إلى الوادي لتشدو في مغانيه، انبعثت النشوة في جوانبه وسرت الفرحة في أرجائه، ثم تبلورت بعض المشاعر في هذا الحفل.
ولئن اجتمعت الهيئات الموسيقية على تكريم أم كلثوم، لقد كرمت هي الموسيقى والغناء، ورفعت شأن الفن وأهله في هذا العصر بفنها العالي وشخصيتها المترفعة. ولم يكن تكريم أم كلثوم قاصراً على الهيئات الموسيقية التي نظمت الحفل ودعت إليه، وإنما كان تكريم مصر كلها لمهدية السرور إلى قلوي أبنائها، تكلم بلسانها أعلامها من شعراء وخطباء، وإن أم كلثوم لأهل لكل تكريم، فهي ثروة فنية طائلة، وإن اهتم الناس في مصر بتكريمها وتقاعدوا عن تقدير غيرها من الأدباء والفنانين، فقد أدوا واجبهم نحوها وقصروا في حق من أهملوه.
ألقيت في الحفل كلمات مناسبة للمقام من ممثلي الهيئات الموسيقية، وخطب الأستاذ توفيق دياب بك، وأُلقيت قصائد للأستاذ عباس محمود العقاد والأستاذ عزيز أباظه باشا والدكتور إبراهيم ناجي والأستاذ كامل الشناوي، وأزجال للأستاذ بديع خيري والأستاذ بيرم التونسي والدكتور سعيد عبده، وختم الحفل بكلمة الشكر من المحتفل بتكريمها، وما أبلغها كلمة! غنت لمكرميها رداً للتحية، فأعطت أكثر مما أخذت.
وتخلل ذلك غناء موسيقي، وقد قدم الموسيقيون ألواناً من عزفهم وفنوناً من ألحانهم، فردوا اعتبار الفن إليه بعد طول ما أساءت إليه الإذاعة بما تقدم من الغث الممجوج والمعاد المملول. ومما يذكر بالإعجاب قدرة الموسيقيين المصريين على عزف بعض القطع الرائعة من الموسيقى العالمية، ولا سيما الذي عزف موسيقى الباليه. وقد أبدع (خماسي مج الإدارة) الذي يتكون أصحابه من خمسة أعضاء بمجلس إدارة نقابة الموسيقيين المحترفين، وكانت موسيقى على فراج بارعة، وقد نبغ هذا الفنان في الموسيقى التصويرية التي قدم منها قطعة (فرح القرية) فأجاد.
ونلقى بعد ذلك - أيها السادة - نظرات إلى القصائد التي ألقيت في الحفلة. كانت قصيدة الأستاذ العقاد جيدة، كان فيها شاعراً بخواطره، وكاتباً بطبعيه السياق وسهولة الأداء واتساق الأفكار. قال في مطلعها:
هلل الشرق بالدعاء ... كوكب الشرق في السماء
ثم قال يخاطب أم كلثوم:
انظري في وجوههم ... تعرفي نضرة الوفاء
كلهم ود لو يغني ... من البشر والصفاء
لو بقدر السرور نشدو ... غلبناك بالغناء!
ثم يصف صوتها بقوله:
فيه أنس لمن يشا ... ء وسلوى لمن يشاء
فيه للمرتجي سلا ... م وللمشتكي عزاء
فيه حرز من الهمو ... م وعون على القضاء
أي نفس إذا ترنم ... ت لا تهزم الشقاء
وابتدأ الأستاذ عزيز أباظه باشا قصيدته بقوله:
سعيت في زحمة الأعلام أسكب من ... قلبي الولاء ومن عليا سرائره
في مهرجان حباه الفن روعته ... وزانه بالأوالي من عشائره
وقلت أدلف للتاريخ تفرضني ... على مشارفه كبرى منائره
وباقي القصيدة على هذا النحو من قوة التعبير، وقد أخذ يفتن في معانيه وخواطره حتى قال:
ما أنت إلا اعتذار الدهر قربه ... لكل عان ومظلوم ومكلوم
ما أنت إلا ابتسام الله جاد به ... ورحمة الله عمت كل محروم
وهي خواطر يفوح منها عبير الشعر.
وقد قال:
يا أم كلثوم بعض الشر ما برحت ... آثاره تتجلى في مآثره
ثم أعقبت هذا بأبيات تحدث فيها عن اعتلال أم كلثوم والأسى له، وحمد الله على أنه عاد للروض بهجته ثم قال:
ألم أقل لك إن الشر ما برحت ... آثاره تتجلى في مآثره
ولم أفهم آثار الشر ومآثره ولا موقعها مما بين البيتين، ولعله يريد بمآثر الشر فرصة التكريم التي كان أول سببها محنة المرض، ولكن كيف تتجلى فيها آثاره؟
أما الدكتور إبراهيم ناجي فيظهر أنه كد شاعريته في هذه القصيدة حتى أتعبها فحرص على أن يحلق، فحلق، ولكن جناحيه لم يقويا كثيراً على التحليق، فجاءت القصيدة أقل من مستوى شعره. ومن تحليقه قوله:
تسمعي، في العلى همس وأغنية ... أذاك صوتك أم في الخلد تنزيل
على الثرى لك أكباد مصفقة ... وفي السماوات إكبار وتهليل
وقوله محدثاً عن الفن:
وحسبه وقطوف منك دانية ... بأنه في وجوه العيش تجميل
فما أبدع صورة الحياة مجملا وجهها بآيات الفن!
وقد قال عن النيل يرنو نحو أم كلثوم:
جرى النسيم على وجه الغير به ... كأنه في شفاه الفن تقبيل
وأدع لفظ (الغدير) قلقاً في موضعه هنا، وأنظر في جري النسيم على صفحة الماء، هل يصلح تقبيلاً في شفاه الفن؟ وما جدوى تمثيل الفن شخصاً له شفاه فيها تقبيل يشبهها النسيم؟ لا أستطيع أن أخرج من ذلك بشيء.
وألقى الأستاذ كامل الشناوي قصيدة حاول فيها أن يخدع برنات كلماتها وقوافيها، وهذا مطلعها:
فديتها منحة، السحر أعطاها ... والسحر والشعر شيء من عطاياها
وفيه ترى السحر من عطاياها وهي من عطايا السحر. . . أي أنهما يتعاطيان! وقد جانبه التوفيق (الذوقي) في مقارنته بين أم كلثوم وانقسام الذرة. . . لأنهما يتنافسان على المجد في هذا الأوان! ويتساءل أيهما أولى بالمباهاة، ويجيب:
الفن أولى ففيه رحمة وهدى ... الفن قنبلة تأسو شظاياها
ولست أدري كيف يكون الفن رحمة وهدى وقنبلة ذات شظايا. . ولا أخال الأستاذ إلا معتزاً بأن جعل شظايا القنبلة تأسو ولكنا لا نأمنها، وما انفجار الذخيرة في جبل المقطم ببعيد.
وفي القصيدة أبيات لا بأس بها منها:
الصوت بعض هداياها وقد فتنت ... به الخلود فأمسى من هداياها
السندباد البحري:
عرض أخيراً بسينما (ديانا) فلم (السندباد البحري) وهو معرب بأصوات ممثلين وممثلات مصريين، والفلم يقوم على أسطورة من أساطير (ألف ليلة وليلة) فيعرض مغامرات السندباد البحري العجيبة، وما تعرض له خلالها من أهوال، وما بذله من جهود خارقة في التغلب عليها، فقد أغرق (الأمير أحمد) وأخذ (مداليته) السحرية التي مكنته من قهر خصومه وخاصة الأمير الهندي الذي ينافسه في حب الأميرة الجميلة، وأخيراً يدعي أنه الأمير أحمد ويذهب إلى أبيه - أبي الأمير - (اسكندر) كاتم سر (الكنز) الذي يبوح بالسر له وللأمير الهندي ورجل آخر يدعى (عبد الملك الحلاق) فيفرح هذان بمحتويات الكنز ولكنهما يموتان دون الانتفاع بشيء منها، أما السندباد البطل المغوار فيفوز بالأميرة الفاتنة ولا يلقىبالا إلى المال.
ويقال في تقديم هذا الفلم أنه يمثل سحر الشرق وعظمة الشرق، وأنا - والله - لم أجد فيه للشرق رائحة، فضلا عن السحر والعظمة. . . ولكن أقول أنه يمثل الشرق الذي يتصوره أولئك الغربيون أو يحلو لهم أن يتصوروه، لا في هذا الفلم فقط بل في أشباهه (كلص بغداد) و (ألف ليلة وليلة) من تلك الخرافات التي يحب الغربيون أن يتخذوا منها صوراً لحياة البلاد الشرقية في العصور الماضية، وكأنهم يهربون مع خيال هذه الأساطير من واقع الشرق نفسه في تلك العصور، كما يهرب من يزور مصر منهم من حاضرها وحياتها المعاصرة إلى الأهرام وأبي الهول
وليتهم يوفقون في تصوير الروح الشرقية والجو الشرقي في تلك الأفلام التي نرى فيها أشخاصاً وأشياء لا هي شرقية ولا غربية فهم يمسخونها كما يمسخ بعض المؤلفين والمخرجين عندنا الأفلام الغربية ويدعون أنها مصرية مؤلفة، هؤلاء كأولئك، حذو الفلم بالفلم.
وفلم (السندباد البحري) يعرض بالألوان الطبيعية، وهم يختارون أجمل الممثلات في مثل هذا الفلم، وأعترف بعبقرية المخرج إذ قدم لنا (الأميرة الفاتنة) كأي فتاة عصرية في كل شيء، تلبس الثياب (على آخر مودة)! والممثلون يلبسون (البنطلونات) وأجسامهم الحمراء تنطق ب (السكسونية) الصارخة، يختلط كل ذلك بمناظر التعذيب المفزعة إذ تهوى السياط على الأبدان فتمزقها كما كان يصنع الشرقيون في غابر الأزمان وسالف العصر والأوان!
ويظهر أن المشاهدين يصبرون على متابعة الفلم، مستمدين الجلد عليها من القوة السحرة الخارقة التي يتمتع بها السندباد البحري، على الرغم مما يلاقونه من أهوال في تلك المشاهدة، كأهوال السندباد. ولكنه يخرج أهواله بالأميرة الحسناء، أما نحن - المساكين - فنخرج مصدعي الرءوس، وقد يذهل الفتى عن فتاته التي دخلت معه متعلقة بذراعه.
حقاً إن السندباد خطب في آخر الفلم، مبيناً أن المال لا قيمة له في سعادة الإنسان، وإنما السعادة الحقيقية هي سعادة القلب والفكر ومن أجل ذلك داس جواهر الكنز ولم يعبأ بها مكتفياً بفاتنته الأميرة، ولكن الفلم لم يعرض لنا ذلك عرضاً عملياً يجعلنا نستخلص العبر من الحوادث ولم يضعنا في جو طبيعي ندرك منه ذلك؛ وقد يقال إن القصة خرافة، ولكن ما هدف هذه الخرافة غير قلب الدماغ بتلك الحوادث التي لا تحمل متعة فنية لذوق سليم، وغير وقع القلب بالوعظ في آخر الأمر؟
والذي يؤسف له أن يكون ذلك هو ثمرة تعريب الأفلام (دبلجتها) وقد كتبت في هذا الموضوع عندما هب السينمائيون المصريون يعارضون تعريب الأفلام في العام الماضي، وبينت أن هذه المعارضة حركة تجارية، وأن الفائدة التي نجنيها من تعريب الأفلام الجيدة محققة. وإذا كنا نعرب الكتب مقتنعين بفائدتها فلم نمنع تعريب الأفلام؟ ولكن أي الأفلام نعرب؟ هذه هي المسألة التي نراها تواجهنا الآن، وكل ما يجب هو حسن الاختيار.
عباس خضر