الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 850/تعقيبات

مجلة الرسالة/العدد 850/تعقيبات

بتاريخ: 17 - 10 - 1949


للأستاذ أنور المعداوي

حول مشكلة الأداء النفسي في الشعر العربي:

ما كدت أنتهي من قراءة مقالك الرائع عن الأداء النفسي في الشعر العربي حتى وجدتني مدفوعا إلى الكتابة إليك، معبرا لك في حرارة وإخلاص عن إعجابي الشديد بهذا المقال الفريد الذي بلغت فيه الذروة من حيث عمق الفكرة، ورهافة الإحساس، ودقة الشعور، وبراعة الأداء. لقد أديت بمقالك هذا الرائع خدمة عظيمة لمن يريدون أن ينقدوا الشعر والأدب، فدللتهم على الوجهة المثلى التي يجب أيتجه إليها كل من شاء أن يتصدى للنقد الفني المفيد، وأديت به كذلك خدمة عظيمة لقراء الشعر والأدب، فعرفتهم كيف يقرئون الشعر قراءة تأمل واستيعاب وتجاوب، وأديت به فاق ذلك خدمة للشعراء المحدثين حين جعلتهم يدركون أن هناك ناقدا ممتازا يرصد الطريق، ليقيم العاثر، ويوجه المنحرف، وينبذ المعوق، ويشجع المستقيم. وإني لأحمد الله على أن ميدان النقد الأدبي - وهو ميدان خطير الشأن - لم يخل بعد أن أنصرف عنه أمثال طه والعقاد والمازني وهيكل، من أمثال المعداوي وقطب ومندور، مع ما امتاز به الأخيرون من التجاوب مع شعراء الشباب في التفكير والشعور والإحساس.

وقد كنت أحب ألا تجعل كلامك مقصورا على نموذج واحد لشاعر واحد، فذلك من شأنه أن يغمط حقوق الآخرين. وكنت أحب كذلك أن تلتفت في ذلك المجال إلى الشعراء الشبان ممن تجد لديهم النماذج المنشودة للأداء النفسي. . كنت أحب أن تلتفت إلى هؤلاء الشعراء، ليكون هذا الالتفات تحية وتشجيعا لهم من جهة، وتوجيها وإرشاد من جهة أخرى، ولأنهم عدة المستقبل ومعقد الرجاء. أما بعد فقد كنت مشغولا عن القراءة والكتابة بظروف خاصة تتصل بكائنين عزيزين كل منهما أحب إلى من نفسي، ولكن مقالك هذا قد استطاع أن يستأثر بي بعض الوقت فقرأته، ثم استطاع أن يؤثر في نفسي تأثيرا عميقا فكتبت إليك أعذرني إذا لم أستطع أن أحدثك بكل ما لدي بسبب هذه الظروف الخاصة، وتقبل أخلص آيات المودة وأعظم دلائل التقدير من المخلص:

إبراهيم محمد النج هذه رسالة شاعر يشهد الله أنني أقدره قبل أن ألقاه هذا اللقاء الفكري الأول، ويشهد الله أن تقديري له قبل لقائه كان وليد تلك الومضات النفسية التي طالعتني من شعره فيما قرأت له على صفحات (الرسالة) و (الكاتب المصري). . واليوم يزداد تقديري له وإعجابي به لأن الشاعر الذي يجيد التعبير عن عالم النفس والحياة، ثم يجمع عن هذه الموهبة سلامة النظرة إلى عالم الأدب والنقد، هذا الشاعر جدير بالتقدير والإعجاب!

هذه كلمات لا أريد بها أن تقوم مقام الشعر على كريم تقديره، وإنما أريد بها تقرير واقع تمثل بالأمس تحية من القلب، حتى إذا دعت إليه المناسبة تمثل اليوم في تحية من القلم. . . لقد جاء ذكره مرة على لسان الدكتور طه حسين فأثنى عليه أمامي وأثنيت، وجاء ذكره مرة أخرى على لسان الأستاذ الزيات فأثنى عليه أمامي وأثنيت، وحسب الشاعر الفاضل مثل هذا الذكر الجميل!

بعد هذا أقول للأستاذ نجا إن مقالي عن مشكلة الأداء النفسي في الشعر قد قصدت به إلى غاية ورميت به إلى هدف، أما الغاية فهي عرض المشكلة من شتى نواحيها ومختلف زواياها مع الاستشهاد الذي يقرن بين النقد والمثال، وأما الهدف فهو رسم الطريق لقارئ الشعر وناظمه وناقده على هدى ميزان أقمته وأومن به، فمن شاء أن يأخذ به من هؤلاء جميعا فليأخذ، ومن شاء أن ينصرف عنه فلينصرف. . ولكنني أحمد الله مع الأستاذ الشاعر على أن ميدان الذوق الأدبي - وهو ميدان خطير الشأن - لم يخل من أمثال هؤلاء الذين يبعثون إلي برسائلهم الممتازة تعقيبا على ما أكتب، وحسبي أن يكون من بينهم صاحب هذا الذوق اللماح!.

هذا هو المجال الذي أردت أن أكتب فيه، وهو مجال يحدد جوانب المشكلة وما فيها من قيم، على أن يكون ذلك عن طريق العرض الفني لتلك الجوانب، لا عن طريق الاستعراض النقدي للشعراء ممن يمثلون هذه القيم. . . وإذا كنت قد استشهدت بأبيات لإيليا أبي ماضي فليس معنى ذلك أن إيليا يقف وحده في ميدان الأداء النفسي الذي أدعو إليه، وإنما جاءت أبياته كنموذج كامل لهذا الأداء حتى يستطيع القراء والنقاد أن ينظروا إلى كل إنتاج شعري على ضوء هذا النموذج بالنسبة إلى الشعر العربي قديمه وحديثه. ولعل الأستاذ نجا لاحظ أنني أشرت إلى مدرستين تمثلان هذا الاتجاه في الشعر المعاصر، وذلك عندما قلت إن المدرسة الأولى قد نهض بها بعض شعراء الشيوخ وعلى رأسهم شوقي، وإن المدرسة الأخرى قد نهض بها بعض شعراء الشباب وعلى رأسهم إيليا أبو ماضي. . . ومعنى ذلك أن هناك شعراء يقفون إلى جانب الشاعر الأول، وأن هناك آخرين يقفون إلى جانب الشاعر الثاني، سواء في مصر أو في المهجر أو في غيرهما من الأقطار العربية.

أما قول الأستاذ نجا بأن الاكتفاء بنموذج واحد لشاعر واحد من شأنه أن يغمط حقوق الآخرين فلا أوافقه عليه. . . يأخي ثق أن الرأي العام الفني بخير، وأن أصحاب المواهب لا بد أن يشقوا طريقهم إلى النفوس والعقول والأذواق، ولا بد أن يصلوا إلى نهاية الطريق وتحت أقدامهم أشلاء الفارغين والمطموسين وكل من تحدثه نفسه باعتراض القافلة! ومع ذلك فقد كنت أود أن أحقق هذه الرغبة الكريمة التي عرض لها الشاعر الفاضل في رسالته، ولكن ضيق المجال قد حال بيني وبين هذه الأمنية من جهة، ولأني أشعر شعورا عميقا من جهة أخرى بأن مشكلة الأداء النفسي في الشعر أجدر بأن يفرد لها كتاب من أن تفرد لها كلمات في مقال، وهذه هي الومضة التي تشع في خاطري منذ أمد بعيد، وتدفعني إلى التفكير في إخراج هذا الكتاب الذي أرجو أن أتناول فيه بالبحث والتفكير مشكلة الأداء في الشعر العربي كله، منذ أقدم عصوره حتى هذا العصر الذي نعيش فيه. . . وعندئذ يمكن أن نتحدث عن الأستاذ نجا وأمثاله من الشعراء المطبوعين.

مجلة (الصياد) اللبنانية تعقب على موضوع السرقة الأدبية:

في العدد (844) من الرسالة كنت قد كتبت كلمة عن السرقة الأدبية التي وقعت بين جدران كلية المقاصد الإسلامية ببيروت، وموضوع السرقة أن هناك طالبا من طلاب تلك الكلية قد سطا على مقال للأستاذ الزيات، فتقدم به لنيل جائزة مالية في مسابقة سنوية تقام بين الطلاب في ميدان الكتابة والخطابة. أما الجائزة فيهبها للفائزين أحد رجال الصحافة المعروفين في لبنان، وهو الأستاذ محي الدين النصولي. . . ولقد حدث أن جازت السرقة على لجنة من المحكمين وظفر الطالب بجائزة، وخرج من المسابقة وهو يحمل وصمتين وينوء بوزرين، هما السطو على أدب الزيات ثم السطو على مال النصولي!

هذا هو موضوع السرقة الذي عقبت عليه من قبل جريدة (صدى الأحوال) اللبنانية، معربة عن بالغ دهشتها من ألا يقطن المحكومون (الجهابذة) إلى أن المقال مكتوب بأسلوب الزيات ويحمل طابعه في التفكير وطريقته في التعبير، ناعتة هؤلاء المحكمين بالقصور وقلة الاطلاع!. . . هذه هي الزاوية التي نظرت منها (صدى الأحوال) إلى لجنة المحكمين، ولكن مجلة (الصياد) قد نظرت إلى اللجنة من زاوية أخرى أكثر عمقا وأوفر طرافة، حين عقبت على الموضوع مستجيبة في هذا التعقيب لما كتب في (الرسالة)، وإليك هذا التعقيب الرائع الذي جاء بالعدد الصادر في 22 سبتمبر الماضي تحت عنوان (محمد العبود أبلغ من الزيات!!):

(في منتهى العام الدراسي الماضي، أقامت كلية المقاصد الإسلامية في بيروت مباراة إنشائية خطابية بين طلاب قسم البكالوريا لنيل جائزة الأستاذ محي الدين النصولي السنوية. وقد جرت المباراة بسلام، ووزعت الجوائز على مستحقيها الثلاثة. وكان الأول السيد محمد العبود والثاني السيد ظافر تميم. ونذكر أن أحد أفراد أسرة (الصياد) كان بين الحضور فكاشف اللجنة التحكيمية بعدم توفيقها في إصدار الأحكام ولا سيما فيما يختص بتفضيل السيد العبود على السيد تميم! وكان الجواب أننا لم نشهد إلا شطرا من المباراة، وهو الشطر الخطابي وقد وضعت العلامات على المقدرة الخطابية وأضيفت إلى العلامات الموضوعة على القدرة على الإنشاء فكانت النتيجة التي رأينا. ولما سألنا أكانت الموضوعات الإنشائية غير تلك التي ألقاها الطلبة في الحفلة الخطابية، كان الجواب لا. وعندئذ أصررنا على استغرابنا واستنكارنا. . . وراحت الأيام تطوي الأيام، إلى أن قرأنا حديثا صباحيا للزميل (شيخ بيروت) يميط فيه اللثام عن جريمة أدبية. . . فقد ثبت أن السيد ظافر تميم زور في المباراة الإنشائية، وبدلا من أن يكلف نفسه عناء عصر الدماغ وتنميق العبارات والتعرض لأخطار النحو والإملاء، أغار على المنشئ المصري المعروف الأستاذ أحمد حسن الزيات صاحب الرسالة فأختلس منه قطعة عنوانها (وإنما الأمم الأخلاق. . .)، طرز بها ورقة المسابقة وذيلها بإمضائه الكريم. وبوسعنا القول إن صاحبنا الفتى يحسن الاختيار حقا في مادة الأخلاق!!

وبعد أن أماط (شيخ بيروت) اللثام عن هذه السرقة الأدبية - غير المؤدبة طبعا - نصح للفائز الثاني بإعادة الجائزة المالية التي قبضها لتضاف إلى مبلغ الجائزة النصولية في العام المقبل. ولئن انتهت المسألة عند هذا الحد في نظر (شيخ بيروت) فهي لم تنته عند أحد محرري الصياد؛ ذلك أن الفضيحة تتناول لجنة التحكيم أيضا، وكانت تتألف من الأساتذة حسن فروخ وموسى سليمان والدكتور جميل عانوتي. فإذا غفرنا للجنة تقصيرها في كشف السرقات حين كانت تحقق وتدقق في أوراق المسابقة الإنشائية، فكيف نغفر لها تفضيل إنشاء الطالب محمد العبود على إنشاء الأستاذ الزيات، وهو علم من أعلام البلاغة والبيان في العالم العربي)؟!

هذه (قفشة) بلغت الغاية في الطرافة ودقة الملاحظة، وإن كاتبها المحرر الفاضل ليستحق عليها كل تهنئة، ومهما يكن من شئ فلا عجب أن يكون محررو (الصياد) من هذا الطراز وأستاذهم صديقنا الصحفي النابغ سعيد فريحة!

دراسة الأديب علي ضوء حياته الخاصة:

هذه رسالة من (دمشق) يطلب إلي فيها مرسلها الأديب الفاضل عدنان المطيعي أن أكتب بضعة فصول نقدية عن بعض الشخصيات الأدبية في مصر، من أمثال الأساتذة العقاد والزيات وطه حسين والحكيم وتيمور وأحمد أمين والمازني وهيكل ثم يحدد هذه الرغبة بأن تكون الدراسة النقدية غير مقصورة على شخصياتهم الفنية التي تطالعنا من إنتاجهم الأدبي، وإنما تنفذ إلى أعماق شخصياتهم التي تطالعنا من واقع الحياة، حتى يستطيع القراء أن يربطوا بين شخصيتين في سبيل الكشف عب أثر الحياة الخاصة في توجيه المواهب الذاتية وتلوين الملكات الأدبية عند كل كاتب من هؤلاء الكتاب. . . إن ردي على رغبة الأديب الفاضل هو أن هناك عقبات تعترض طريق هذه الدراسة التي يود أن أقوم بها على صفحات (الرسالة)، منها أن حياة بعض الناس الخاصة لا تخلو من جوانب يفرض علينا الذوق ألا نتعرض لها ما داموا على قيد الحياة، قد تكون هذه الجوانب ذات أثر كبير في تلوين المادة الفكرية، ولكنني أرى - وقد يعترض بعض الناس - أن الكشف عن هذه الجوانب لا يحل لدارس الشخصيات وكاتب التراجم، إلا بعد أن تنقطع الصلة بين أصحابها وبين الحياة،. . . عندئذ تصبح كل حياتهم حقا مباحا للدارسين، وعندئذ يحل للتاريخ الأدبي أن يقول كلمته! ومن هذه العقبات أيضاً أنني أعرف بعض هؤلاء الأدباء معرفة كاملة وأعرف بعضهم الآخر معرفة عابرة، وفيهم من لا أعرفه على الإطلاق، فأنا مثلا أعرف من الفريق الأول الزيات وطه حسين وتوفيق الحكيم وأحمد أمين وتيمور، وأعرف من الفريق الثاني العقاد والمازني حيث لقيت العقاد أول لقاء وآخر لقاء في جريدة (الأساس) وكذلك الأمر فيما يختص بالمازني رحمه الله في جريدة (أخبار اليوم) أما الكاتب الذي يمثل الفريق الثالث فهو الدكتور هيكل!. . . وإذا كنت أعرف بعض الجوانب الخاصة في حياة هؤلاء الذين لم تهيئ لي الظروف مصاحبتهم، فهي معرفة عن طريق الغير أي عن طريق النقل والاستماع، ولعل الأديب الفاضل يوافقني على أن الأمانة القلمية تفرض علينا ألا نطمئن كثيرا إلى هذا الفريق، إذا ما أردنا أن نؤرخ الأدب على الأساس الذي أشار إليه!

بعض الرسائل من حقيبة البريد:

أقول للجندي الفاضل محمد عبد العال (بالقاهرة) إن مأساتك التي قصصتها علي ليس مكانها (الرسالة) ولكن مكانها هناك في (الأهرام) حتى يمكن أن تظفر باهتمام المسئولين فأكتب إلى الصديق الأستاذ أحمد الصاوي محمد ولك مني أن أوصيه خيرا بشكواك. وأقول للأديب الفاضل محمود أمين (بأسيوط) إنني في انتظار مقالاتك. وأقول للأديب الفاضل عبد العظيم الحميلي (بالجيزة) إنني شاكر لك جميل عنايتك وصادق اهتمامك ومقدر لك هذه اللمحات الطيبة التي تبعث بها إلي من حين إلى حين. وأقول للأديب الفاضل حماد محمد أحمد (بفرشوط) إن الجنة التي سألتني عنها في رسالتك هي الجنة التي وعد بها المتقون!

أنور المعداوي