مجلة الرسالة/العدد 846/الشاعر في الشارع
→ فن القراءة | مجلة الرسالة - العدد 846 الشاعر في الشارع [[مؤلف:|]] |
سحابة صيف ← |
بتاريخ: 19 - 09 - 1949 |
للأستاذ أنور لوقا
نشرت (الرسالة) في أعداد سابقة بعض أقاصيص الأديب الفرنسي ألفونس دوديه. وألفونس دوديه كاتب ساحر، حلو الحديث، كبير القلب، ساذج عميق، أحبته النفوس على تنافر نزعاتها، واستعذبته الأذواق على اختلاف مواردها، والتف به الجمهور على تشعب مذاهبه وتناثر أهدافه. . . سحر النساء والشعراء، وسحر الكافرين بالشعور والضاربين في طين المادة، فتن أولئك المحلقين في الخيال، وفتن هؤلاء المحدقين في الواقع، راق المدنفين بالرقة، وراع الهاتفين للقوة، وأطرب الذين يجول الدمع في عيونهم، وأشجى الذين لا تفارق البسمات شفاههم، ومزج فيض الحنان بمرح الفكاهة دائماً. . .
كاتب ساحر نظر إلى الشيء الصغير نظرة كبيرة، وكشف في الشيء المبتذل ناحية طريفة، وقرن المعنى القديم بالظاهرة الجديدة، وصور الحقيقة الملموسة في وشى من الوهم الجميل. . .
وإذا حاولنا أن نقف على منبع هذا (السحر) في أدبه، رجعنا إلى شبابه ونشأته.
ليس من العبث أن يبدأ الأديب بالشعر، ولا الفتى الشاعر يضيع وقته لأنه ينفقه في الحلم والتأمل.
أو لا ينبغي للكاتب الناشئ أن يعيش في برج من العاج قبل أن يهبط إلى الأرض، ويخبط في زحمة الشارع؟
يقول الناقد (جول لميتر) في سياق حديث له عن ألفونس دوديه: إن خير ما تفعله، حتى نحسن تقدير ما تعج به الدنيا، هو أن نلم أول الأمر بأطراف من جمال السماء. . . وتلك ملاحظة خليقة بأن تسلط الضوء على وجه كاتبنا الساحر من زاوية ممتازة.
ومن هو الشاعر؟
يجب أن نتفق أولاً على أنه ليس الذي ينظم الأبيات، كما تظن العامة دائماً.
الشاعر قبل كل شيء - وما أصدق تسميته في اللغة العربية - كائن مرهف الشعور، يسره شيء صغير، ويبكيه شيء صغير، وتكاد تهتز أوتار حسه من لا شيء. . .
إنه يستأنس الأشياء جميعاً، ويندمج في وجودها، ويعيش فيها وتعيش فيه، فيخفق قلبه إذ أسرعت، ويهدأ إذا أبطأت، وتلهث أنفاسه لضيقها وكربتها، أو ينشرح صدره لبردها وسلامها، وتصطبغ نفسه بلونها قاتماً كان أو زاهياً.
لكل شيء عنده قيمة شعورية، وطاقة عاطفية، ومعنى باطني، فهو يعنيه النبض والدبيب لا الحجم والمساحة، هو يعي ألباب الأشياء وقلوبها قبل أن يعي أشكالها ومظاهرها. لا يكاد ينظر إلى الصور، وإنما يستقبل ما تلقى هذه الصور في نفسه من أحاسيس. . . ذلك أن البصيرة عنده أنفذ من البصر، والوجدان عنده أقوى من العين، وبهذا يمتاز الشاعر من المصور: ذاك تطغى عليه ملكة الشعور، وهذا تطغى عليه ملكة الملاحظة.
وحين ينزل الشاعر من عليائه ويلتفت إلى دنيا الواقع، ثم يتجه نحو سوق المجتمع، ويريد هناك أن يخالط الناس، ويتفهم الخلائق، ويدرس الحياة، إذن فسيهمل الشيء المبتذل، والشيء الأجوف، والشيء الرخيص. سيهمل في الحياة كل ما هو حشو. سيصغي ويرى ويلمس، ولكن هيهات أن يعلق بذهنه إلا كل طريف عميق، ولن يسجل من كل ما يجد حوله إلا الجدير بالتسجيل، ولن يقدم لنا في آخر الأمر إلا مشاهد فنية غريبة رائعة استطاعت أن تستأثر بوعيه وتستغرقه استغراق خياله السابق.
وألفونس دوديه بدأ بالأحلام، وإنا لنقرأ في الصفحات الأولى من قصة حياته المؤثرة (الشيء الصغير) كيف كان طفلاً رقيق العاطفة في (نيم)، يقضي نهاره في حديقة الار وفناء مصنع النسيج الذي أنشأه أبوه، متخيلاً أنه (روبنسون كروزو) في جزيرته، ثم كيف أحزنه فراق تلك الربوع عندما أفلس أبوه وهاجرت العائلة من المدينة. قال: (شهراً كاملاً، بينما كان أهل البيت يحزمون الأمتعة، كنت أتمشى حزيناً وحيداً في مصنعي العزيز. لم يكن قلبي لينصرف إلى اللعب في تلك الأيام كما تقدرون، لا، بل رحت أجلس في كل ركن، أنظر إلى الأشياء من حولي وأخاطبها كأني أخاطب أشخاصاً. . . وكانت في أقصى الحديقة شجرة رمان كبيرة قد تفتحت أزهارها الحمراء الجميلة للشمس، سألتها واحدة من أزهارها فأعطتني، ووضعت الزهرة في صدري تذكاراً لها. . . لقد كنت بائساً شقياً. . . ثم خرجنا. . . وكلما ابتعدت قافلتنا من البيت كانت شجرة الرمان تشرئب ما استطاعت فوق جدران الحديقة لتنظر إلينا وتنظر إليها قبل أن تغيب. . . وكانت الأشجار الأخرى تلوح لنا بأوراقها وتقرئنا الوداع. . . وكنت شديد التأثر أرسل إليهم في خلسة قبلات حارة على أطراف أناملي). . .
وفي ليون، يفتقد الصبي شمس (نيم) المشرقة وهوائها الطيب، فلا يجد إلا سماء قاتمة وضباباً كثيفاً، ويُلحق بكتاب (سان بيير)، حيث تستغرق الصلاة والترنيم معظم الوقت، والدرس أقله. . . وفي هذا الجو القابض، جو البيت المفلس، وجو المدينة القائمة الموحشة، سرعان ما يصبح ألفونس غلاماً عابثاً متمرداً شريراً، فإذا أدخل المدرسة الابتدائية لم يرعو عن عبثه، ولم يقتصد من لهوه، بل مضى يطلق لنفسه العنان في التخلف والتغيب والهرب، ليجدف في نهر السون حيناً، ويهيم في الريف حيناً، ويعرج على المقاهي والحافات بين ذلك. . . ولكنه يطلق لنفسه العنان أيضاً في القراءة والمطالعة، فيلتهم كتب القصص ودواوين الشعر، ويعيش في عالم مسحور بعيد عن إبداع خياله، يهرع إليه ويلوذ به كلما ضاق بالبيت والمدرسة والمدينة. . . وفي الخامسة عشرة من عمره بدأ يقرض الشعر، وأخذ ينشر الأبيات تلو الأبيات في صحيفة محلية من صحف ليون، وينضد في دفتر أنيق مادة ديوان أنيق. . .
ولكن الشعر لا يقوت أصحابه. . . لا بد من كسب العيش. . . ولابد لهذا الفتى بعينه من الاعتماد على نفسه منذ سن مبكرة، لأن مالية الأسرة ما زالت مضطربة. . . هناك يأتيه نبأ وظيفة خالية، وظيفة (مشرف) في مدرسة (إلياس) الثانوية، دفعته شجاعته إلى طلبها، وأتعسه حظه بنوالها - كما يقول هو - فقد جرعته سنة مرة من العذاب القاسي في جحيم تلاميذ خبثاء، لم يطق بعدها صبراً، بل انطلق إلى باريس يهلك في سبيلها فرنكاته المائة التي كان قد ادخرها طيلة العام لمشروع رحلة دبرها طموحه إلى مونبلييه، حيث أزمع أن يتقدم لامتحان البكالوريا. . .
ويحط في باريس فتى حالم العينين، صبوح الوجه، متهدج الصوت، حيياً كأنه عذراء. . . ولا يزال يستلهم الشعر والخيال في غرفة عالية على سطح منزل فقير، حتى يتصل - لنشر ديوانه - بصغار الأدباء والفنانين في مجالسهم وحاناتهم. . . إذ ذاك يرى ويلمس واقعاً من الحياة ساحراً نابضاً غريباً، حافلاً بروائع كالتي أنسها في أحلامه. . . وها هو ذا يقبل على تلك الحياة (البوهيمية) إقبال الظامئ على شراب عذب، يعب ولكنه يتذوق، ويرتوي ولكنه يستمتع ويتلذذ. . . يخرج يتسكع على أرصفة باريس، ويضرب في أحيائها، ويغشى جميع أوساطها، وينغمر في عبابها المصطخب، وحواسه المتفتحة المرهفة دائماً تتصيد الأطياف الخفية، وتسجل الصور الظاهرة، وتلتقط من الدقائق ما يغيب عن أعين الباريسيين التي اعتادت النظر وأعين المحترفين التي كلت من التحديق.
هناك وجد الشاعر بين يديه ما يجذب بصره الذي كان شارداً إلى الأفق البعيد، وجد ما يسترعي حواسه كلها، أشياء جديرة بأن ينظر إليها ويتأملها ويطيل تأملها والنظر إليها، أشياء طريفة لاحظها وعلمته كيف يلاحظها، أو لعلها أشياء عادية مبتذلة يهملها سواد الناس ولكن ملكات الشاعر فيه قد تنبهت إلى روعتها وطرافتها وامتيازها. ومن هنا كادت صور باريس ومفاتنها ومآسيها أن تصبح مادة جميع قصصه فيما بعد، ومادة (أقاصيص يوم الاثنين) بوجه خاص.
ليس إذن أفضل للكاتب الذي يريد رسم طبيعة الحياة من أن يحظى، قبل أن يخوض غمارها، بخيال خصب وشعور خصب ونحن نحس اليوم أن نفس ألفونس دوديه التي حرمت هناء الطفولة وأفراح الصبا، فباتت تنشد السعادة والحنان أحلاماً عريضة يبسطها لها الأمل ويوشيها الخيال ويحدوها الشعر، ما زالت ترفرف على أقاصيصه، تضيف إلى دقة النظرة هزة التأثر، وتؤلف من جزيئات الواقع وتفاصيل الحياة المتناثرة هنا وهناك صوراً فريدة صادقة، لا يدخل في نظمها من صنعة إلا سحر الاختيار الساذج، ولكنها لا تحتاج إلى أكثر من ذلك لكي تثير فينا هذا الشعور الغزير المتدفق الخيال النزق من صميم الواقع والملموس. . .
ولقد كان دوديه يعي عن نفسه هذا كله، ويرى في الشعار الذي اتخذه جوته - (الحقيقة والشعر) - حكمة غنية تشمل الحياة الإنسانية بأسرها.
أنور لوفا
مدرس منتدب بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول